شبهة
حول : شبهات حول أمّيّة النبي صلى الله عليه وسلم"
الشبهة
اقتضت إرادة الله تعالى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمّيّا ً ، حتى صارت
تلك الصفة من خصائصه ، ولعل الحكمة من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم
لو كان يحسن القراءة والكتابة ، لوجد الكفار في ذلك منفذاً للطعن في نبوته ،
أو الريبة برسالته ، وقد جاء تصوير هذا المعنى في قوله تعالى
: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون }
( العنكبوت : 48 ) .
وفي هذا المقام نجد محاولة جديدة لطمس الحقائق وتزوير الأحداث ، ويتمثل ذلك في
إنكار بعض المستشرقين ما استفاضت شهرته من إثبات أمّيّة النبي صلى الله عليه
وسلم ، متغافلين عن نصوص الوحيين الصريحة في ذلك ، ثم ساقوا لتأييد أطروحتهم
جملة من الأدلة مستصحبين معهم أسلوبهم الشهير في تحريف النصوص وليّ أعناقها
، واستنباط ما لا يدل عليه النص أبدا لا بمنطوقه ولا بمفهومه ، ولا يقف الأمر عند
هذا الحد ، بل إننا نجد منهم اللجوء إلى الكذب الصراح متى ما كان ذلك موصلا إلى
هدفهم من التضليل والتشويش .
وانطلاقاً من رغبتنا في بيان بطلان هذا الا
وبيان زيفه ، فإننا سوف نورد ما
استدلوا به في إنكار أمّيّته صلى الله عليه وسلم ، ثم نقوم بمناقشته وإظهار وجه الحقيقة فيه .
كان أول ما استدلوا به هو ما رواه الإمام البخاري في قصّة الحديبية عن البراء
رضي الله عنه قال : " لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، أبى
أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا
الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . قالوا : لا نقر لك بهذا ، لو
نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ، ولكن أنت محمد بن عبد الله . فقال
: ( أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ) . ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
: ( امح رسول الله ) ، قال علي : لا والله لا أمحوك أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله
عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ،
لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب ".
قالوا : لقد نصّت الرواية على مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم لكتابة ما نصّه
: " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " ، ومادامت الكتابة قد ثبتت عنه فلا
شك أنه كان يحسن القراءة من باب أولى ، لأن القراءة فرعٌ عن الكتابة .
وهذه الشبهة تُعدّ من أقوى شبهاتهم .
الرد على الشبهة
أولاً : لا نسلّم بأن الرواية السابقة جاء فيها التصريح بمباشرة النبي صلى الله عليه وسلم
للكتابة ، بل هي محتملة لأمرين : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو المباشر ، أو
أن يكون علي رضي الله عنه هو الذي قام بالمباشرة ، وتكون نسبة الكتابة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم مجازيةً باعتبار أنه هو الآمر بالكتابة ، ونظير ذلك قول
الصحابي : " ونقش النبي صلى الله عليه وسلم في خاتمه : محمد رسول الله "
أي أمر بنقشه ، وإذا أردنا معرفة رجحان أي الاحتمالين ، فإنه يجب علينا العودة إلى
مرويّات الحديث وطرقه .
لقد روى هذا الحديث المسور بن مخرمة و مروان و أنس بن مالك رضي الله عنهم
أجمعين ، واتفقت تلك الروايات كلها على أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بالكتابة ،
فقد جاء في البخاري عن المسور بن مخرمة و مروان يصدق كل واحد منهما حديث
صاحبه قالا : " ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبد الله ) " ، وكذلك قال
أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم ما نصّه : " ..فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : ( اكتب من محمد بن عبد الله ) ".
أما رواية البراء رضي الله عنه ، فنلاحظ أن الرواة الذين نقلوها ، اقتصروا على
بعض الألفاظ دون بعض ، ومن هنا حصل اللبس والإيهام في هذه الرواية .
فرواية عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه
ذكرت : " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
: ( امح رسول الله ) ، فقال علي : لا والله لا أمحوك أبدا . فأخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد
الله " . ورواية إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء
رضي الله عنه جاء فيها : " فقال لعلي : ( امح رسول الله ) ، فقال علي :
والله لا أمحاه أبدا ، قال : (فأرنيه ) ، قال فأراه إياه ، فمحاه النبي صلى الله عليه
وسلم بيده ".
ويضاف إلى روايات البخاري السابقة رواية أخرى مهمة لحديث البراء ، تلك الرواية
التي أوردها ابن حبان في صحيحه عن محمد بن عثمان العجلي قال : حدثنا
عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه
قال : " فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فأمر
فكتب مكان رسول الله محمداً ، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " الحديث .
ونخلص من مجموع تلك الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضي
الله عنه أن يمحو كلمة : ( رسول الله ) ، فرفض عليٌّ ذلك ، فطلب منه أن يريه
مكانها ، فمحاها بيده ، ثم أمره بكتابة لفظة ( بن عبدالله ) ، وهذا هو مقتضى الروايات .
ثم إننا نقول : إن رواية البخاري التي ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم
: (فأرنيه ) ، فيها إشارة واضحة إلى احتياج النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي
كي يرشده إلى مكان الكلمة ، مما يدل بوضوح على عدم معرفته للقراءة أصلا ،
ويضاف إلى ذلك أن المشرك الذي تفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم لو رآه
يكتب شيئا بيده في تلك الحادثة لنقلها إلى كفّار قريش ، فقد كانوا يبحثون عن أي
شيء يجعلونه مستمسكاً لهم في ارتيابهم ، فلما لم يُنقل لنا ذلك دلّ على عدم وقوعه أصلاً .
ولكن دعنا نفترض أن المباشر للكتابة هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل يخرجه
ذلك عن أميته ؟ يجيب الإمام الذهبي فيقول : " ما المانع من تعلم النبي صلى الله
عليه وسلم كتابة اسمه واسم أبيه مع فرط ذكائه وقوة فهمه ودوام مجالسته لمن يكتب
بين يديه الوحي والكتب إلى ملوك الطوائف " ، فمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم
لطريقة كتابة اسمه واسم أبيه لا يخرجه عن كونه أمّياً كما هو ظاهر ، فإن غير الأميّ
يحسن كل كتابة وكل قراءة ، لا بعضاً منها .
وأما شبهتهم الثانية : فهي ما رواه الإمام البيهقي عن عون بن عبد الله عن أبيه قال
: " ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب – وفي رواية : حتى قرأ وكتب – ".
والجواب عن هذه الشبهة أن الحديث ضعيف ، فقد قال الإمام البيهقي نفسه : " ..
فهذا حديث منقطع ، وفي رواته جماعة من الضعفاء والمجهولين " .
وقال الإمام الطبراني : " هذا حديث منكر ، وقال أبو عقيل : ضعيف " . والحديث
ذكره الإمام السيوطي في الموضوعات .
ومن استدلالاتهم على نفي أمّيّته ما ذكروه أن العباس بن عبدالمطلب قال عندما سأله
اليهودي : هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم بيده؟ فقال : فأردت أن أقول نعم ،
فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويردّ علي، فقلت: لا يكتب ، فوثب الحبر وترك
رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود " .
وما ذكروه يتضمّن تدليساً فاحشاً ، وكذباً واضحاً ، يتّضح عند العودة إلى الرواية في
مصادرها ، فقد روى هذه القصة البيهقي في " دلائل النبوة "، وذكرها ابن كثير
في " البداية والنهاية " بسندها ، وموضع التدليس عند قوله : " فقال الحبر اليهودي : هل كتب بيده ؟ ، قال العباس : فظننت أنه خير له أن يكتب بيده ، فأردت أن أقولها ، ثم ذكرت مكان
أبي سفيان أنه مكذبي ورادٌّ عليّ ، فقلت : لا يكتب . فوثب الحبر وترك رداءه
وقال : ذبحت يهود وقتلت يهود " ، وبهذا يظهر أن أميّة النبي صلى الله عليه
وسلم كانت أمراً مشتهراً يعرفها القاصي والداني من قومه .
ثم ننتقل إلى دليل آخر من أدلتهم ، وهو الحديث الذي رواه ابن ماجة بسنده
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: ( رأيت ليلة أسرى بي على باب الجنة مكتوباً : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض
بثمانية عشر ، فقلت : يا جبريل ، ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ .
قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ) ،
قالوا : والقدرة على القراءة فرع الكتابة .
لكن ما استدلوا به لا يصلح للاحتجاج ، لأن الحديث ضعيف جدا ، وآفته خالد بن
يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب : "
ضعيف مع كونه كان فقيها ،
وقد اتهمه يحي بن معين " . وسئل عنه أبو زرعة فقال : " يروي أحاديث مناكير " .
ولئن صح الحديث ، فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر القراءة بنفسه ،
بل واضحٌ من سياق الحديث أن جبريل عليه السلام كان بصحبته في الجنة ، ثم
إن حادثة الإسراء والمعراج في جملتها أمرٌ خارق للعادة ، لا يُقاس الواقع به ،
فكيف يتعجّب مع هذا الأمر الخارق العظيم أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم بضع
كلمات مكتوبة على باب الجنّة ؟ ، وإذا كانت القراءة تلك حاصلة منه في العالم
العلويّ ، وفي مشهد من مشاهد الآخرة – حيث رأى الجنة - ، فمن الذي قال
إنه صلى الله عليه وسلم سيكون يوم القيامة على أميّته !! .
ومن المرويّات التي استدل بها المستشرقون ، ما جاء في صحيح مسلم عن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( الدجال ممسوح العين ، مكتوب بين عينيه : كافر ، ثم تهجاها : ك ف ر ) .
والجواب عن ذلك أن نقول : إن تهجّي الكلمات يشمل نوعين : تهجي الكلمات
المسموعة ، وهذا أمر يشترك فيه المتعلم والأميِّ على السواء ، و تهجّي الكلمات
المكتوبة ، وهذا لا يقدر عليه إلا من كان يحسن القراءة ، وإذا كان الأمر كذلك
فليس في الحديث دلالة على معرفة النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة ؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم نطق الكلمة ثم تهجّاها .
وختاماً ، فإن ما ذكره المستشرقون ومن تبعهم من محاولات للتشكيك في أمّيّة
النبي صلى الله عليه وسلم لا يصمد أمام حقيقة هامة ، وهي أن أهل مكة الذين
عاشوا معه وعلموا أخباره ، وعرفوا مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته ،
قد أقرّوا جميعا بأميّته ، والله الموفّق .
المصدر اسلام ويب