أحسب أن العولمة في أصلها هيمنة تقنية، وفي سبيل هذه التقنية تنشأ هيمنات أخرى في السياسة والاجتماع والثقافة؛ تذلل الطريق أمام الهيمنة التقنية التي هي جوهر الاقتصاد العالمي اليوم.
وفي محاضرة لي منذ عام تقريبًا لخصت محاور هذه القضية في سبعة محاور:
المحور الأول: الأتمتة Automization
السؤال عن الأتمتة في بلد يصنّعها كالولايات المتحدة واليابان يختلف عن السؤال عنها في بلد سوف يستوردها، فمثلا صناعة الأثاث، هل نقوم بأتمتتها أم نستخدم العمالة الكثيفة في تصنيعها؟! ولأننا لا نصنع الماكينات التي تؤتمت هذه الصناعة؛ فسوف نستوردها، ونستورد صيانتها، ونستورد نماذج الأثاث، والمواد الأولية، أي إننا سنزيد من تبعيتنا للعولمة.
وهل من الضروري أن تكون الأتمتة مائة بالمائة؟! أم يمكن أن نؤتمت قليلاً، على كثافة العمل كثيرًا؟! أظن أن مثال الأثاث واضح والإجابة عنه وطنيًّا ليست عسيرة وهي لصالح الكثافة العمالية دون جدال.
وهناك سؤال أخلاقي: هل العمل غاية في ذاته أم أن الإنتاج الوفير هو الغاية؟
أحسب أن الإجابة في فلسفتنا الحياتية هي أن العمل المعقول هو الغاية، وأن كثرة الإنتاج وما تسببه من وفرة في الوقت، ووفرة في الأشياء قد تؤدي إلى ظاهرة الترف التي نهينا عنها في ثقافتنا أشد النهي، وأحب أن أنبه إلى أن هناك فروقًا بين الأتمتة في الإنتاج (أتمتة الإنتاج) وبين الأتمتة في القياس الهندسي، وترقيته، وجعله قياسًا دقيقًا.
فالأقمار الصناعية يتم جمعها في ورش غير مؤتمتة، ولكن كل جزء فيها دقيق القياس لدرجة بالغة، وتصنع في ورش رأيتها بنفسي، ولا تختلف كثيرًا عن المصانع البسيطة، ولكنها مضبوطة من ناحية ضغط الهواء، ورطوبته، وحرارته، والخواص الطبيعية الأخرى، وفي النهاية أحب أن أقول: إن درجة الأتمتة المطلوبة في بلدنا ليست بالضرورة أن تكون مطابقة بنفس الدرجة في بلد آخر، واختيار درجة الأتمتة ينبغي أن يكون قرارًا وطنيًّا يستهدف الصالح الوطني اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.
المحور الثاني: الجرأة التجريبية
كل شيء في الغرب قابل للتجريب: تجريب في الطعام، وتجريب في الشراب، وتجريب في الدواء، وتجريب في الزراعة، وتجريب في جسم الإنسان، وتجريب في البيئة الجوية والبيئة الحيوية والبيئة الفضائية، وكل هذا التجريب مرتبط بالمجموعات الاقتصادية المغامرة التي جعلت من الربح الاقتصادي إلهًا من دون الله، إن التجريب المحكوم غير المتجاوز لإنسانية الإنسان هو تجريب محمود، ولكن الشطط التجريبي الذي أصبح سمة للمجموعات الاقتصادية المغامرة سوف يفسد البر والبحر.
إن نتاجات هذا التجريب الشططي تُلقى معظمها باسم العولمة على رؤوس الشعوب الفقيرة: شرابًا ولباسًا ودواءً ومخلفات مدمرة.
المحور الثالث: السيطرة الاقتصادية والإغواء الاقتصادي
السيطرة الاقتصادية ذات مظاهر متعددة، منه شراء موارد الدول المستضعفة وموادها الخام بأقل الأسعار وإعادة تصنيعها وبيعها لها في صورة جديدة بأكبر الأسعار، بل في حالة البترول، مثلا، يضيفون إليه ضريبة يسمونها ضريبة الكربون وهي تعني ضريبة تلوث أجوائهم نتيجة الشطط التصنيعي. والإغواء الاقتصادي يعني إغواء الدول المتواضعة تقنيًّا وعلميًّا واقتصاديًّا بمشاركة العمالقة في مشاريع عابرة القارات… مشاريع كل مكوناتها من الخارج وربما فتحوا لهم بعض الأسواق، وبعد أن يكون البلد الفقير قد دفع دم الشعب بحاضره ومستقبله في مثل هذه المشاريع تتم عملية السيطرة أو الإجهاض، إن شيئًا من هذا قد تم في ماليزيا وإندونيسيا، إن القواعد العلمية والتقنية والاقتصادية في كلا البلدين لم تكن جاهزة لتوطين هذه الصناعات المتقدمة التي استجلبت كاملة بكل طواقمها من الخارج.
المحور الرابع: الإعلام الساحر
إنك تشاهد التلفاز المصري وهو يعلن عن مشروبات لا تضر ولا تنفع؛ فيوحي إليك ذلك بالظمأ، حتى إذا تمكن منك ظهرت لك ظبية مليحة تخرج من أعماق البحر إلى الشاطئ وبيدها زجاجة من هذا الشراب تضعها على شفتيها … فتدبر أيها المسكين المسحور عظمة هذا الشراب، واذهب إلى البقال، واشتر صندوقًا أو اثنين؛ تسترجع بهما الصورة المليحة التي تزيدك عطشًا.. ليس للري فحسب ولكن كذلك للساحرة الفاتنة جنية البحر.
إن هذا السحر نوع من الكذب بالتخييل والرقص والإيهام، أفسد عقول أطفالنا بالإعلان عن منتجات لا تنفع بل تضر، وأنواع من المأكولات ذات المكونات التي لا نعرفها من مواد غذائية ومكسبات للون والطعم كلها من قرائن السرطان والعياذ بالله.
المحور الخامس: حواف التقنية
إن عملية التصنيع لا بد أن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفلسفة التنمية، إن كانت هناك في أوطاننا فلسفة للتنمية، إنك إن جئت بمنتج غربي يمثل حافة التقنية في بلده، وقارنته بمنتجك فإنك خاسر على كل الأحوال؛ لما بينك وبين هذه الحافة من فجوة لا تسد إلا بشق الأنفس علميًّا وتقنيًّا واقتصاديًّا، إن توطين التكنولوجيا عملية عبقرية شاقة تحتاج إلى استنفار الأمة علميًّا وتدريبيًّا. هل لتصنّع أحدث ثلاجة في العالم؛ تأتي بكل مكوناتها من الخارج، ولا تملك طرائق تطويرها وطنيًّا؟! أم تكتفي بثلاجة أقل حداثة تستطيع أن تصنع أنت معظم مكوناتها؟! وكما كتبت من قبل: إن التنمية طيف متعدد الألوان وأهمها: تنمية البقاء، وتنمية النماء، وتنمية السبق، ونحن نملك كل أدوات تنمية البقاء؛ فتلك تنمية عشنا بها قروًنا عديدة، ونملك كذلك معظم أدوات تنمية النماء إن أحسنا اختيارها، ولكل أمة تنمية سبق، ولمصر مثلا تنمية سبق في مجالين: الثقافة العربية والإسلامية، والسياحة.
إننا نستطيع أن نضاعف دخل مصر أضعافًا مضاعفة إن أحسنّا تصميم هاتين المنظومتين، وفي مثل هاتين المنظومتين نستطيع السبق، ولا يفوتنا تقلب غيرنا في البلاد في منظومات أخرى هم عليها قادرون.
المحور السادس: العولمة وغياب العنصر الأخلاقي والعنصر البيئي
في حضارتنا نتعامل مع البيئة المحيطة بنا بالقصد والاقتصاد، والقصد هو غايات الشريعة الإلهية "وعلى الله قصد السبيل" فهو وحده الذي يحدد لنا القصد، وعندما يقول الله سبحانه "واقصد في مشيك" أي اجعل لمشيك قصدًا (وهذا تأويلي الحضاري للآية) كل مشيك في الحياة اجعله قاصدًا وجه الله، والمشي بالمفهوم القرآني هو كل سعي الإنسان على وجه الأرض "فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور".
ومن هذا المنطلق يصغي ملك عظيم(سيدنا سليمان) لصراخ نملة، ويفهم منطقها ويبتسم لصراخها، وسليمان وإن وهبه الله هذا الأمر حظًا عظيمًا له إلا أن الإنسانية مطالبة بالعمل الدؤوب والصبر المبين حتى تصل إلى هذا التناغم المعجز بين الإنسان والبيئة. قرأت مرة في إحدى المجلات الأمريكية أنه لولا النمل لتعطن سطح الأرض؛ ولما كانت على وجه الأرض حياة، فانظر رحمك الله لحضارتنا التقنية التي تلقي كل يوم بأطنان المبيدات على الأرض؛ تهلك كل الحشرات النافعة، وذلك حتى تزيد في إنتاج طعام ماسخ لا مذاق له.
إن قضية البيئة قضية كبيرة، وعمليات العولمة ستزيدها سوءًا ولقد "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي كسبوا لعلهم يرجعون" ولكن الرجوع عملية صعبة جدًّا، فمن ذا الذي يطالب الشركات الجبارة العابرة للقارات أن توقف هذه الصناعات التي تلوث البيئة تلويثا عظيمًا، وأنا أنصح الذين يظنون أنني أبالغ فيما أقول أن يقرءوا الكتاب العظيم للعالم الأمريكي جيمي رفكن (الإنتروبي) الذي يقول في نهايته بعد أن استعرض كل الفساد البيئي في الكون المحيط: "إن الحل وليس هناك حل غيره، هو أن نعود إلى ما قبل الثورة الصناعية الأولى".
ربما اختلفت مع هذا العالم في حتميته، ولكني أعتقد أننا ما زلنا نملك الفرصة في بلادنا؛ لنتخلص من تأثير العولمة التقنية على بيئتنا، ونحسن اختيار التقنية التي لا تلوث البيئة ولا تنشر الدمار.
المحور السابع: الضخامة الإنتاجية والتسارع الزماني والمكاني
تنمو المطالب الإدارية والعلمية مع ضخامة المشاريع، فلو ورطنا أنفسنا في مشاريع ضخمة لا نملك القدرات الذاتية على إدارتها؛ فإن النفع منها سيكون ضئيلًا، هناك حجم أمثل للمشاريع التي تصلح لبلد ما حسب قدراته الذاتية في الإدارة والإنتاج، وهناك معدلات مثلى للإنتاج تتعلق بالقدرة على استخدام الزمن وقطع المسافات الضخمة، نعم، تستطيع أن تنشئ مخبزًا آليا في شمال مصر ينتج خبزًا لكل مصر، وتحتاج حينئذ أن تملك السرعة التي تنقل بها هذا الخبز إلى كل أنحاء القطر، هل هذا أنسب أم سلسلة من المخابز في كل حي من الأحياء لا تحتاج إلى عمليات نقل وشاحنات وثلاجات وفوق ذلك نظام دقيق للإدارة؟! ما زلت أذكر كتابًا للاقتصادي الإنجليزي الشهير "شوماخر" عنوانه: "الصغير هو الأجمل" والرجل ينظر إلى القضية من الناحية الجمالية والإنسانية. إن أصحاب العولمة يسعون لتركيز الإنتاج في مؤسسات ضخمة يملكون هم صنعها وإدارتها، ونحن نقف أمامها مبهورين مسحوقين، إن ما دعا إليه "شوماخر" في كتابه: "الصغير هو الأجمل" جدير بأن تعتبر به الشعوب التي لم يدركها سرطان القوة الكونية وشروره، فتصميم منظومة التنمية يجب أن يأخذ في الحسبان صغر الأحجام وإنسانية الأزمنة والمسافات والتناغم مع طبيعة الإنسان وإعطائه القدرة على أن يصبح سيد الأشياء، وليس عبدًا ذليلاً لها، وأي سعادة يدركها الإنسان في ضياع عمره في قطع المسافات الضخمة بسرعات ضخمة وأي جمال في هذا وأي متعة؟.