المعنى اللغوي للنبي هو الإنباء يعني الإخبار عن الله عز وجل.
أما المعنى الاصطلاحي: فالنبي هو الذي يخبر الناس عن الله تعالى أوامره ونواهيه فهو أمين الله يهديهم للخير والصلاح بتنفيذ أوامره سبحانه و الابتعاد عن نواهيه، فهو الرابط بين الخالق والمخلوق وهو الوسيلة الموصلة للإنسان إلى رضا الله الخالق الكريم و بمعنى آخر هو البوابة الإلهية على الأرض من خلالها يستطيع أن يرتقي إلى درجات القربة منه:
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). [سورة النساء: الآية 59].
فعلى هذا نرى أن الذي يريد أن يدخل في رحاب الله ويكون من المقربين لديه عليه أن يطيع الله من خلال تطبيقه لرسالة النبي المرسل وأوامره. فالرسالة السماوية هي اللوائح القانونية الإلهية التي تشمل الحياة بكل معانيها والنبي المرسل هو الذي ينقل هذه اللوائح القانونية للبشر بعد أن يكون الانموذج التام في تطبيق تلك اللوائح القانونية على نفسه وأسرته ومجتمعه فقد قال سبحانه:
(لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة). [سورة الأحزاب: الآية 21].
وهذا النبي المرسل مختار من قبل الله عز وجل لتأدية هذا الدور الكبير والخطير في الحياة فالمسألة إذن تعينيّة من قبل الله سبحانه لمواصفات ومؤهلات خاصة يمتاز بها الرسول المنتخب لا يعلمها إلا هو العزيز القدير فقد قال عز وجل:
(رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). [سورة النساء: الآية: 165].
و(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). [سورة الأحزاب الآية: 40].
و(يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض). [سورة ص: الآية 26].
و(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). [سورة الأنبياء: الآية: 107].
فمسألة الرسالة مسألة غيبية بحتة وتعيين النبي المرسل مسألة غيبية أيضاً فهو سبحانه يصطفي من عباده ويختار ضمن المقاييس الخاصة به فالله يختاره أميناً نقياً زاكياً صادقاً وكل هذه الصفات الإيجابية المعروفة الظاهرة أمام الجميع وهنالك صفات إيجابية باطنية يمتاز بها الرسول تبقى في الأُطر الغيبية التي لا يعرفها إلا الله وعلى ضوئها يتم تعيين النبي المرسل وتنزل الرسالة عليه ليبلّغها بأمانة وإخلاص.
(وما ينطق عن الهوى ,إن هو إلا وحي يوحى). [سورة النجم: الآيتان 3،4].
و(ما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً). [سورة الفرقان: الآية 56].
ما هي ضرورة النبي:
أما ضرورة النبي (صلى الله عليه وآله) فنتحدث عنها فيما يلي:
(أ) الضرورة العقلية.
(ب) الضرورة التكوينية.
(ج) الضرورة الشرعية.
(د) الضرورة النفسية.
(هـ) اللطف الإلهي.
فضرورات بعثة النبي للبشرية كمنقذ وموجّه ضرورات عديدة فالنبي (صلى الله عليه وآله) هو حلقة الوصل الطبيعية والشرعية بين الخالق والخلق بين الرب والمربوب فلندرس أهم هذه الضرورات التي سجلناها قبل قليل:
(أ) الضرورة العقلية:
إن الإنسان خلق بفطرته - وفي داخله - قوتان متصارعتان الخير والشر.
(ونفسٍ وما سواها ،فألهمها فجورها وتقواها). [سورة الشمس: الآيتان 8،7].
وهذا كما نُعبّر عنه بالجهاز العقلي الكاشف والداعي للخير من جانب ومن جانب آخر الأهواء والشهوات الداعية للشر واللهاث المادي فأمام إغراءات الدنيا وشهواتها يتضاءل دور العقل فينسى الإنسان الفطرة السليمة والعقل النيّر فيمشي خلف شهواته وإغراءات الدنيا بينما تبرز حاجة العقل البشري إلى القوة الغيبية المبدعة التي طالما تنادي بيقظة العقل وإثارة دفائنه وتنبهه بالذكرى.
(فذكر إنما أنت مذكّر). [سورة الغاشية: الآية 21].
(سيذّكر من يخشى). [سورة الأعلى: الآية 10].
فكلما ابتعد الإنسان عن رؤى عقله أو بمعنى آخر إن أعماله السيئة حجبت دور العقل كلما نادى الرسول ونادت الرسالة الإلهية بالعودة إلى دور العقل والتفكير في سبيل النجاة ضمن البرامج الشرعية وفسح المجال أمام الشهوات لتحقق بالطرق المشروعة لإنقاذ الإنسان من عقد الكبت والانعزال وهنا تتحقق العدالة الإلهية بأوسع معانيها حيث نلاحظ جانب الفجور لدى الإنسان له من يثيره ويستهويه ويجلبه ويحرّكه نحو الشر ويلمّع له النتائج ذلك الشيطان والدنيا واللذات والغرائز الفطرية فمن الطبيعي أن تشملنا العدالة الإلهية حيث يضع العدل الإلهي من يذكر الإنسان ومن ينبهه ويجلبه ويهذبه ذلك الرسول وتلك الرسالة بل كان كل الرسل والرسالات التي بعثت تؤدي هذا الهدف الرئيسي.
فإذن النبي المرسل والرسالة السماوية ضرورة عقلية فلا بد من الرسول ومن الرسالة لتتحقق العدالة الإلهية والتوازن الطبيعي ما بين قوى الشر وقوى الخير المتصارعة في ذات الإنسان وعمق المجتمع البشري ولا بد من الانتصار للعقل الإنساني فهو بحاجة ماسة إلى دعم غيبي لينتصر على قوى الشر كما أن لقوى الشر من يثيرها وينتصر لها من الأهواء والشيطان والدنيا، والآن وبعد تحقق الموازنة وإتمام الحجج الباطنية والظاهرية يترك الإنسان إما شاكراً وإما كفوراً كما يقول القرآن:
(إن هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). [سورة الإنسان: الآية 3].
وأما من يدّعي قدرة العقل على التوجيه والهداية للإنسان من دون دور للأنبياء والرسالات فهو بعيد عن الدقة حيث نلاحظ عبر التاريخ أن المصلحين مهما بلغوا من القدرة العقلية ما استطاعوا تحقيق التوجيه والهداية بالشكل المطلوب لأن عقولنا مهما بلغت فهي قاصرة عن الإحاطة بأسرار الكون والغيب وحتى أنها قاصرة من معرفة المكاسب والمصالح بالشكل التام فنقرأ بالتاريخ أن عقل الإنسان اخترع له ربّاً من حجر أو من تمرٍ فأكله حينما جاع وقسم الآلهة إلى إله السماء وإله الأرض وإله الزرع وإله الحرب..ويروون عن الآلهة كيف تفعل المنكرات وما شابه كلها تصورات ونظريات ساذجة للعقل الإنساني سرعان ما تتغير , بل كثير من النظريات حتى العلمية الحديثة منها ما يفنّد بعضها بعضاً فمثلاً في الطبابة تتبدل وتتغير من زمن لزمن وكثير من الأسرار في الطبيعة والكون يكتشفها العقل بعد مرور فترة زمنية بالإضافة إلى أن الله عز وجل لا يفعل شيئاً هباءً ولغواً - والعياذ بالله - بل إنه يعلم علم اليقين أن هذا المخلوق (الإنسان) لا يستطيع أن يدير نفسه بنفسه مع منحة القدرة العقلية الكبيرة لذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب لتنظيم حياة الإنسان ووضع الضوابط اللازمة في حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولو أن الله تعالى كان يعلم بعلمه الغيبي أن الإنسان يستطيع أن يستغني عن الرسالة والرسول بالاعتماد على عقله وما زوّده من امكانيات ذاتية لتركه لشأنه بينما نحن نلمس الحاجة الماسة للمنهج السماوي الذي عرّفه إلينا سبحانه وتعالى فهو خالقنا وهو العالم باحتياجاتنا, وعقولنا كذلك بحاجة ماسة إلى منهجية السماء الثابتة لرسم قوانين الدنيا من العلاقات الاجتماعية كالزواج والإرث والمعاملات الأخرى لكي يتحقق رضا الله بتطبيق قوانينه الشرعية وكذلك تبيان المفاهيم الإسلامية بالشكل العلمي كالعدالة والمعاد والجنة والنار والثواب والعقاب. عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: (إنّا لمّا أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه ثبت أنه له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جلّ وعز وهم الأنبياء (عليهم السلام) وصفوته من خلقه حكماء مؤيدين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شيءٍ من أحوالهم - مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة. وفي رواية أخرى في علل فضل بن شاذان عن مولانا الرضا (عليه السلام): (فإنْ قال فلِمَ وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة قيل لأنه لمّا لم يكن في خلقهم وقواهم ما يكملوا لمصالحهم وكان الصانع متعالياً عن أن يُرى وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهراً لم يكن بدٌ من رسول بينه وبينهم، معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه منافعهم ومضارهم...)(1).
ولا بد من الإشارة إلى ا
ٍ يدعيه البعض بأن التطور العلمي كفيل بتنظيم حياة الإنسان والمجتمع فالعلم والتكنولوجيا وأدوات العلم الأخرى كل ذلك يجعلنا نستغني عن النبي المرسل ورسالات السماء وخاصة نحن أمام قوائم جبارة من الاكتشافات والاختراعات العلمية المتعددة التي ذللت صعوبات الحياة وحطمت كبرياء الطبيعة القاسية وتستطيع هذه الأدوات العلمية أن توصل الإنسان والمجتمع إلى السعادة في الحياة كما نلاحظ سعادة الإنسان مع الصناعات المتطورة وخاصة في مجال الخدمات من وسائل النقل والكهرباء والهاتف والتلفاز وغيرها. وهذه الفكرة يثيرها البعض من أنصاف المثقفين على رؤوس الشبيبة والأشبال لأغراض معروفة وبالفعل لأنهم عرفوا شيئاً وغابت عنهم أشياء.. وصحيح أن العلم خدم ويخدم البشرية جمعاء خدمةً لاتنكر فقرّب المجتمع البشري من بعضه البعض وأضاء ليله وجعله كالنهار وذلّل صعوبات الهندسة والطب والخدمات ولكن بقيت أمام العلم والعلماء أسرار ضخمة وألغاز كثيرة يصعب على العلماء فكّها ومعرفة رموزها إضافة لأسرار الغيب والنفس الإنسانية وما وراء الطبيعة حيث يقف العلم والعلماء موقف الطفل الحائر أمامها لا يمتلك مفتاح الأبواب الموصدة بل لايستطيع معرفة موقع الأبواب حتى يقف عندها ليطرق الباب أو ينتظر أمام الباب طويلاً عسى من مخبر أو أمر طارئ يستطيع تفسيره ليملي فراغه ويقف العلم والعلماء موقف التلميذ الصغير أمام أسرار الطبيعة الهائلة والنفس والميتافيزيق هذا الكلام بشهادة رجال العلم أنفسهم يقول الكسيس كاريل في كتابه المعروف (الإنسان ذلك المجهول) (...فنحن نؤكد أن جميع المتخصصين في عملهم يعتقدون بأن ما ظفروا به لحد الآن ضئيل جداً ولا أهمية له بأزاء المسائل التي لابد أن نعرفها فيما بعد.. والواقع إن الإنسان مجموعة واحدة معقدة مبهمة ليست قابلة للتفكيك ولا يمكن معرفتها بسهولة ولا تتوفر لحد الآن الأساليب التي يمكن استخدامها في دراسته جزءاً جزءاً وبصورة مجموعة واحدة ودراسة علاقاته بالبيئة المحيطة به... وعلى هذا فإن الإنسان الذي يعرفه المتخصصون في كل فرع من هذه العلوم ليس واقعياً أيضاً وإنما هو شبح يصنعه ويعرضه في ذلك العالم)(2).
ويقول وليم جيمس في كتابه (إرادة الاعتقاد): (إن علمنا ليس إلا نقطة ولكن جهلنا بحر زاخر) ويقول الكسيس كاريل: (إن علمنا عن ذاتنا لايزال في حالة بدائية) ويقول غوستاف لوبون في كتابه (الآراء والمعتقدات): (إن العلماء تبدو عليهم السذاجة كما تبدو على الجهلة الآدميين).
ويقول الدكتور أبرسولد: (وعندنا تزايد علمي ومعرفتي من الأشياء من الذرة إلى الأجرام السماوية ومن الميكروب الدقيق إلى الإنسان تبيّن لي أن هنالك كثيراً من الأشياء لم تستطع العلوم حتى اليوم أن تجد لها تفسيراً وتكشف عن أسرارها النقاب)(3).
مع كل هذا التطور العلمي وشهادة العلماء بأن العالم لا يزال مجهولاًَ أمامنا فكيف نعطي لهذا العلم أمر تقرير المصير وبناء الروح والقانون والعدالة فالعلم لا يزال بسيطاً ويبقى كذلك كيف نربط أنفسنا بعجلته الحائرة؟ وفي الحال نرى أن العلم يخدم البشرية حيث تتفجر طاقات الإنسان العقلية في استخدام بعض أسرار الطبيعة أما الجوانب الغيبية فالعلم لا يستطيع أن يفهمها أو يدركها بل يعلن عجزه التام عن فهمها. فعلى ذلك تتحقق لدنيا ضرورة الرسالة والرسول عقلياً لتوضيح هذا الأمر المستصعب في سن القوانين وتنظيم علاقة الإنسان بأسرته ومجتمعه وبنفسه وبربه وبالكون كذلك وهذا ما يعجز عنه العلم وكل وسائل التكنولوجيا المتطورة فمن هنا يُقال أن الإنسان بحاجة إلى صياغتين صياغة ذاتية لنفسه كي ينمو على الفضائل والاستقامة وصياغة خارجية يقوم بها الإنسان لتوفير الخدمات وتذليل الصعاب فالصياغة الأولى أي البناء النفسي لاينجح إلا عبر مناهج السماء وقوانين الرسالة السماوية.
(لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً). [سورة الإسراء: الآية 88].
وأما الصياغة الثانية فتعتمد على طاقاته الفكرية وتطوره الحضاري.
(يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان). [سورة الرحمن: الآية 33].
فالمسألة متروكة للإنسان نفسه حيث يستفيد من خبراته وتجارب السابقين لتطوير حياته الخارجية فلو تمت الصياغتان بالشكل المناسب لسعدت البشرية وإن تمت الصياغة الخارجية دون الداخلية فالويل للبشرية لأن هذا التطور العلمي لا ينفعها بقدر ما يضرها يقول الكسيس كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) (إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها...)(4).
أما لو تمت الصياغة الداخلية صياغة القيم والمثل في الإنسان والمجتمع - ولو فرضنا من دون الصياغة العلمية الخارجية - لعاشت البشرية في أمن وأمان وراحة نفسية مع أتعاب جسدية. فإذن الصياغة الذاتية لإنسانية الإنسان هي الهدف السامي الذي تطمح له رسالات السماء فالكمال الإنساني طموح الأنبياء ورسالاتهم قال الإمام علي (عليه السلام) في خطبته الأولى في نهج البلاغة: (... فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياء ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم آيات المقدرة..) فحينما تتفجر طاقات الإنسان العقلية سيصوغ بواسطة الرسالة الإلهية نفسه ومجتمعه وحضارته والعلم سيكون في خدمة الإنسانية - آنذاك - .
(ب) الضرورة التكوينية:
حينما نتسائل عن هدف الخلق ولماذا خُلق البشر؟ يجيبنا القرآن الكريم:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). [سورة الذاريات: الآية 56].
ونسأل ما هو الهدف من العبادة ؟ حينها نعرف أن العبادة هي التي تضمن لنا سعادة الدنيا والآخرة فنخرج بنتيجة واضحة هي أن الهدف هو تحقيق المصلحة والسعادة للإنسان نفسه.
(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم). [سورة الإسراء: الآية 7].
فبالضرورة التكوينية نكتشف ضرورة النبوة كي تكتمل الصورة من كل جوانبها فلو لم تكن الرسالة السماوية موضحة لنا طريق الكمال والسعادة ما اكتملت الصورة التكوينية للحياة بصورة عامة وبالنسبة للإنسان بصورة خاصة هذا من جانب ومن جانب آخر أن تكوين حياة الإنسان بحاجة إلى أخيه الإنسان وبحاجة إلى المجتمع والأسرة والأرض.
فالناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ *** بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدمُ
فالإنسان مدني بالطبع كما يقولون فعلاقاته الحياتية لابد لها من نظام يحكمها ويضبطها وإلا تتحول إلى حياة الغاب ويحكمها قانون الغاب فهذه القوانين يجب أن تكون عادلة وملائمة لتكوين الإنسان الداخلي لترتب علاقته مع بني جنسه ضمن المقاييس المقبولة, مثلاً العلاقة الزوجية والعلاقة الأبوية والبنوية وعلاقات الجوار وغيرها وليقطع دابر المعتدين على هذه القوانين في حالة وقوع الظلم والاعتداء على الحقوق. فالرسالة السماوية هي الضمان في كل ذلك على عكس القوانين البشرية التي تتغير بين آونةٍ وأخرى تبعاً لمزاجية الحكام أو لاختلاف فهم المقنّنين والمنظّرين لتبعات القوانين هذه.
وكذلك نلاحظ أن الإنسان في هذا الكون هو المخلوق الوحيد الذي يمتاز بالقدرة العقلية والتي بدورها تحاول أن تستفيد من كل الوجودات في الكون ونرى بالمقابل هذا الكون مسخر للإنسان.
(أو لم يروا أنّا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون). [سورة يس: الآية 71].
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً). [سورة البقرة: الآية 29].
(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه). [سورة الجاثية: الآية 13].
(الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره). [سورة الجاثية: الآية 12].
(وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار, وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار). [سورة إبراهيم: الآيتان 32،33].
وفي الحديث القدسي (عبدي خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي) فالإنسان خلفية الله على الأرض فإذن هذا المخلوق بحاجة إلى ضوابط للطموحات النفسية التي لولاها لضاعت القيم الإنسانية وبدأ الواحد يأكل الثاني على قاعدة فاز باللذات من كان جسوراً. هذه الضوابط تحدد العلاقة بين العقل الإنساني المدير والمستثمر لما حوله من الوجود وما بين العقول الإنسانية الأخرى من جهة ومن جهة أخرى بينه وبين الطبيعة ذاتها أي بينها وبين طريق الاستثمار الممكنة من الوجودات بصورة عامة التي يريد استثمارها. وفي الرواية: (أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق لم يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة فعلم أنهم لن يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم ما لهم وما عليهم) فإذن للنبوة ضرورة تكوينية لاكتمال الصورة التكوينية للوجود يقول الدكتور أميل درمنجام في كتابه (حياة محمد): (إن وجود الأنبياء ضروري لهذه الدنيا بمقدار وجود القوى الطبيعية النافعة والعجيبة كالشمس والمطر..)(5).
فالنبي خليفة الله في الكون خلافة كونية وعلى الناس والقانون خلافة تشريعية فضرورته إذن تكوينة كما أنها تشريعية.
(ج) الضرورة الشرعية:
القوانين الإلهية وتشريعات الحلال والحرام في المسائل الشخصية والمعاملات العامة الاجتماعية والاقتصادية والآداب والعلاقات العامة والأخلاق والسياسة وما يتصل بهذه القوانين من أمور فرعية كل ذلك بحاجة إلى تبيانه وتطبيقه وهذا ما يقوم به النبي المرسل لتوضيح رسالة السماء فإذن هنالك ضرورة شرعية في بعث النبي والرسالة فالنبي المرسل يعتبر المبلغ لإرادة الله الشرعية وعن طريقه يتم التبليغ بأحكام الله الشرعية ولولاه لما استطعنا أن نحرز رضا الخالق الكريم عبر تطبيق دساتيره فقد قال سبحانه:
(قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين , أُبلّغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين). [سورة الأعراف: الآيتان 67،68].
ومن ناحية ثانية نحن كبشر لا ندرك سوى هذا العالم المحيط بنا بنسب معينة من العلم به فنحن بحاجة إلى معرفة أبعاد خلق الله عز وجل وما أعد للإنسان في الآخرة من ثواب وعقاب وكيف نعتقد بالعودة يوم القيامة حيث الحساب وقبل يوم الحساب عالم البرزخ وما الذي يجري في عالم البرزخ وكيف يكون القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران.. هذه الأمور وضحها الأنبياء (عليهم السلام) لنا فالإنسان وحده لا يمكنه أن يتعرف على هذا المستقبل المبهم بوحي نفسه لذلك نحن نحتاج إلى من يرفع عنا هذا الإبهام ويعطينا أسس الاعتقاد والإيمان بالمعاد والبرزخ والجنة والنار والنعيم والعذاب فمن مهمات الرسالة السماوية والنبي المرسل توضيح هذا المستقبل المرتقب.
قال سبحانه: (وإن ما نُرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفيّنك فإنما عليك البلاغ). [سورة الرعد: الآية 40].
وفي آية أخرى: (هذا بلاغ للناس لينذروا به). [سورة إبراهيم: الآية 52].
ومن ناحية ثالثة نحن بحاجة إلى برنامج روحي يضمن لنا سلامة الاعتقاد وصلاح النفس والثبات على المبدأ عن طريق العبادة أو سبل التزكية للنفس لضمان الاستقامة وهنا ما يوضحه لنا كذلك النبي المرسل والرسالة السماوية.
قال سبحانه: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). [سورة الجمعة: الآية 2].
وجاء في الرواية: (... وكان ضعفهم (الناس) وعجزهم عن ادراكه ظاهراً لم يكن بد من رسولٍ بينه وبينهم, معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه، ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم...) ومع فقدان هذا البرنامج سيجرّنا الفراغ العقائدي إلى اختراع عقائد أو اختلاق أفكار تسد هذا الفراغ العقائدي فيتمسك بها الإنسان على مستوى الخرافات والتقاليد الرجعية التي لاتعرف العلم والوجدان. والحق كما كان لدى الهنود تقاليد دفن الزوجة وهي حية مع زوجها المتوفي وكان عند البعض الآخر من الهنود عقيدة أكثر فساداً وانحرافاً من هذه حيث يحرقون الزوجة أو الزوجات على قبر الزوج المتوفى بعد أن تخرج مسيرة كبيرة لتشيع جثمان الزوج هذه المسيرة ترفع الأناشيد والأهازيج بالطبول والمزامير حتى تصل إلى القبر فتنصب محرقة ضخمة على القبر بعد دفن الزوج لترمى إليها الزوجة المسكينة أو الزوجات طعمة لهذه النار الملتهبة..
بينما الشريعة السماوية تضع برنامجاً روحياً خالصاً من هذه الشوائب الغريبة وتحدد حقوق الرجل كما تحدد حقوق المرأة وتبيّن ضوابط هذه الحقوق مما يلائم الفطرة والشرف والكرامة.
قال سبحانه: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). [سورة النساء: الآية 165].
وقال الإمام علي (عليه السلام): (بعث - الله - رسله بما خصهم به من وحيه وجعلهم حجة له على خلقه لئلا تجب الحجة لهم بترك الأعذار إليهم فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق)(6).
(د) الضرورة النفسية:
قال سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). [سورة الأحزاب: الآية 21].
مسألة القدوة في الحياة مسألة في منتهى الأهمية حيث أن الإنسان يرسم لنفسه أهدافاً معينة في الحياة فإن كانت هذه الأهداف قد نفّذها آخرون من قبله وهو يعتبرها سامية في نظره فسرعان ما يطبقها مستلهماً من المطّبق الأول أسلوبه ومنهجيته والمسألة اعتيادية بالإضافة إلى اهميتها الكبيرة وخاصة في قضية مجاهدة النفس وتزكيتها والقيم الأخلاقية العالية والتربية المركزة وحينما نقف في دراستنا على نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الدنيا وكيف كان يتعامل النبي (صلى الله عليه وآله) مع الحياة الدنيوية وغرور الدنيا وزخارفها ندرك أهمية القدوة الحسنة في الحياة فيبدأ الإنسان المؤمن جاهداً نفسه للسير على تلك الرؤى أو الاقتراب من تطبيق تلك النظرات الواعية.
وهكذا نلاحظ أن حيزاً واضحاً في ذهنية الإنسان يستدعي التقليد لشخص ما وفي أمر ما إيجابياً أو سلباً - حسب النظرة الأخلاقية - فهناك من يقلد رياضياً ناجحاً لملء الفراغ الذهني وهناك من يقلد نبياً مقدساً ويتخذه كما في الآية المتقدمة قدوة حسنة فمن هنا جاءت السنة الشريفة في موقع المصدر الثاني - بعد القرآن الكريم - في القضية التشريعية فكل قولٍ وفعلٍ وتقريرٍ للمعصوم يعتبر سنة وعلى المسلمين أن يتخذوا ذلك دستوراً في تطبيق أوامر الله ونهيه. وللعلم إن البناء النفسي للإنسان هو الهدف الأسمى في الحياة حيث يجسد مهمة الأنبياء والرسل ومتى ما بُني الإنسان نفسياً على الأسس الشرعية بُنيت حضارة إنسانية ملؤها العدل والحنان وان البناء الذاتي المستقيم أصعب المهام التربوية لذلك تسعى التربية الإسلامية لتضبيط البنى التحتّية للمجتمع المسلم على أُسس نقية لتتم عملية إنماء القيم الإيجابية في الداخل من الخير والعطاء والاستقامة فالمسألة إذن في غاية الأهمية والخطورة وهكذا جمع النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أصحابه بعد الانتصار الأول على المشركين في معركة بدر الكبرى قائلاً لهم: (عليكم بالجهاد الأكبر وقد مضى الجهاد الأصغر) قيل وما الجهاد الأكبر قال (صلى الله عليه وآله): (جهاد النفس).
وجهاد النفس هذا هو البناء المتين لنفسية الإنسان عبر الترويض والمعاناة لخلق الإنسان المجاهد المضحي العابد المطبق لأوامر الشريعة.
ومسألة نفسية أخرى تتضح من النبوة وهي أن الأنبياء من البشر أنفسهم, لا من جنس آخر متباين مع الجنس البشري ولو كان النبي كذلك لصعب اتخاذه قدوة حسنة فحينما يكون النبي من الناس اختاره الله سبحانه لأسباب معينة فهو من صميم المجتمع البشري ويعيش واقعيات الناس ويتداخل معهم ويتقاطع مع حياتهم في التعاون والمحبة والزواج والتجارة والقيادة في الصلاة وساحة القتال فالصورة تكون متكاملة وواضحة مما يوفّر على النفس الإنسانية ضغطاً طبيعياً لاستجابة القرار الشرعي والبلاغ الإلهي منه فقد قال سبحانه:
(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ). [سورة الكهف: الآية 110].
فالفارق الرئيسي بين النبي وبقية البشر هو الوحي المنزل من الرب الأعلى كما تشير الآية المباركة. أما لو كان النبي من الملائكة أو الجن أو أي جنس آخر لما استطاع أن يترك الأثر النفسي المطلوب والمناسب في الناس ولما أمكن اتخاذه قدوة في الحياة البشرية ولما انسجم الناس معه بالشكل الذي نراه اليوم من تعلق وانصياع وإطاعة وإن كان بعض الناس وخاصة في زمن الأنبياء يعتبر كون النبي من الناس أمراً لايستسيغه الذوق فلذلك كانت تكثر الشبهات حول النبي انطلاقاً من هذه الفكرة وإنما كانوا يريدونه نوع من المخلوقات خاص بطبائعه مترفع عن عادات الناس كالملائكة مثلاً فنقرأ في الآية الكريمة قوله تعالى:
(.. قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا). [سورة إبراهيم: الآية 10].
وفي قوله تعالى: (... ما هذا إلا بشر مثلنا يأكل مما تأكلون منه). [سورة المؤمنون: الآية 33].
(وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق). [سورة الفرقان: الآية 7].
ويرّد ذلك القرآن الكريم للضرورات العديدة منها النفسية.
أما في هذا اليوم فيذهب البعض إلى أن النبي المرسل هو رجل مصلح عبقري كالعباقرة والمصلحين في المجتمع البشري العام. والحقيقة أن النبي المرسل له صفات معينة - كما أسلفنا - وعلى ضوئها تم اختياره لهذا المنصب من قبل الله تعالى فهو من البشر ومختار من الله عز وجل ليؤدي دور الوسيط المبلِّغ بينه تعالى وبين الناس.
(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ). [سورة الكهف: الآية 110].
(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة). [سورة الجمعة: الآية 2].
وهنالك التفاتة جميلة من الآية الكريمة: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) اطمئنان القلوب البشرية لنظام الله عز وجل ودستوره للحياة يأتي من أنه تعالى محيط بكل شيءٍ علماً ومعرفة ويستطيع تحديد الخير والنفع وفرزه من الشر والضرر وأنه سبحانه يقرر ما ينفع الناس دون ميل لنوازع نفسية كالهوى - والعياذ بالله - وهكذا الرسول المعيّن.
(وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى). [سورة النجم: الآيتان 3،4].
مما يوفر حالة الاطمئنان في نفسية الإنسان المتلقّي بصفاء وإخلاص لوحي السماء على عكس القوانين الوضعية التي يضعها الإنسان بوحي عقله القاصر عن المعرفة التامة المحيطة بكل الأمور ظاهرها وباطنها ومن ناحية أخرى أن العقل البشري يتأثر بالهوى والنفس والغرائز بدرجة من الدرجات.
بينما منهجية الله تعالى ترسم الخطة للتزكية النفسية من كل البراثن والنزعات الشيطانية (ويزكيهم ويعلمهم) وقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(7).
وجاء في (الكافي) عن هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام) أنه قال لزنديق سأله من أثبت الأنبياء والرسل قال (عليه السلام): (إنا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا.. وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه..) فالبناء النفسي المتين على أسس الشريعة الإلهية تخلق هذا الجو من الاطمئنان, والانتعاش الروحي يخلق رقابة وجدانية داخلية على تصرفات وسلوكيات الإنسان نفسه فيلومه ضميره حينما يعصي أو يحاول العصيان ولو بالنية المجردة, فزراعة البوليس الداخلي في النفس ليراقب تصرفات وأعمال ونوايا الإنسان من أهم أهداف شريعة السماء وبالفعل تتشكل محاكم وجدانية في قلب الإنسان المؤمن لمحاسبته على سلوكه وكلامه بل على جميع تنفيذياته العملية مما يؤمن سلامة القانون وعدالة التطبيق وهذا ما تفتقره القوانين الوضعية والحكومات البشرية فإذن النبوة والرسالة تخلقان في الإنسان هذا الجو النفسي الهادئ المطمئن والمطبق للتشريع بكل تطوع وإرادة وبهذا تتجلى الضرورة النفسية للنبوة بأبعادها الرئيسية.
(هـ) اللطف الإلهي:
الله سبحانه الذي خلقنا وأرشدنا لفعل الخير والصلاح وحذّرنا من فعل الشر لأننا نجهل الكثير من مصالحنا ونتائج أعمالنا فهو سبحانه أجل وأعظم من أن يورط عباده بجهلهم بل أراد أن يسعدهم في حياتهم الدنيوية ويجعلهم في الآخرة من الناجين من العذاب فهو اللطيف بعباده والرؤوف بهم فلا يترك العباد سدى دون توجيه فمن باب لطفه وحنانه بعث لنا الرسل كي يوضحوا لنا السبل الخيّرة ويميزوها عن السبل الشريرة:
(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). [سورة الإنسان: الآية 3].
وبما أن الشكر والكفر لهما الأرضية المناسبة في نفسية الإنسان فقد قال سبحانه: (ونفسٍ وما سواها, فألهمها فجورها وتقواها). [سورة الشمس: الآيتان 7 - 8].
وقال: (إن النفس لأمّارة بالسوء). [سورة يوسف: الآية 53].
(إن الإنسان ليطغى). [سورة العلق: الآية 6].
هذا من الجانب السلبي أي هنالك استعداد في نفسية الإنسان لهذا الانحراف والفجور والطغيان إلا ما رحم ربي كما في تكملة الآية: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) وأمام هذه الأرضية هنالك أرضية لدى الإنسان موازية لها وهي الأرضية الإيجابية فقد قال عز من قائل:
(ولا أُقسم بالنفس اللّوامة..). [سورة القيامة: الآية 2].
وقال أيضاً: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية). [سورة الفجر: الآية 27].
فهناك استعداد نحو الخير والمعروف وحالة الصراع الدائمة بين الطرفين في داخل النفس الإنسانية في تفاعل مستمر فلابد من التوجيه الرباني لهذا الصراع الدائم, فمن كماله المطلق ومن باب لطفه بعباده أرسل الرسل ليتم نعمته على البشر.
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). [سورة المائدة: الآية 3].
يقول الشيخ المظفر في (عقائد الإمامية): (فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم: (رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم...) وينذرهم عما فيه فسادهم ويبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم..
إنما اللطف من الله تعالى واجبٌ فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم فإذا كان المحل قابلاً ومستعداً لفيض الجود واللطف فإنه تعالى لابد أن يفيض لطفه إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في جوده وكرمه)(8).
وجاء في خطبة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في (نهج البلاغة): (... لما بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه واحتالتهم الشياطين عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم آيات المقْدرة..).
فعلى ما تقدم من ضرورات النبوة وقاعدة اللطف الإلهي نرى أن الشريعة الإلهية توفر وتؤمّن للإنسان حاجياته الفكرية والروحية والمادية بالطرق المشروعة وتؤمن للإنسان حريته في الحياة وتمنحه حقوقه المشروعة وتتماشى مع الواقعيات الحياتية بأبعادها الواسعة مراعية للظروف الطارئة والمتغيرات الجزئية أو الكلية فتدخل العناوين الثانوية لتحديد العناوين الأولية - كما يقول الأصوليون - وفق قاعدة - الضرورات تبيح المحظورات، والضرورات تقدّر بقدرها.
1 - ميزان الحكمة، ري شهري ج9 ص 316،315.
2 - الإنسان ذلك المجهول: الكسيس كاريل ص2 وما بعدها.
3 - الله يتجلى في عصر العلم ص38.
4 - الإنسان ذلك المجهول: الكسيس كاريل ص44.
5 - حياة محمّد للدكتور - أميل درمنجام ص31.
6 - ميزان الحكمة، محمدي ري شهري ج9 ص331.
7 - نفس المصدر ص321.
8 - عقائد الإمامية: المظفر ص15.