بسم الله الرحمن الرحيم
العلم بأسباب النزول
بقلم: أ. د /محمد بكر إسماعيل
العلم بأسباب النزول من الأمور المهمة التى لا غنى للمفسر والمحدث والفقيه عنها.
فهو يعين على فهم المراد من كلام الله تعالى على وجهه تطمئن النفس إليه.
وقد تقدم بيان شئ من ذلك في مقدمة هذا المبحث، وعند ذكر أقساع أسباب النزول، فقد قلنا هناك: إن منها ما يبين الإبهام ويرفع الإجمال، ويزيل الإشكال، وضربنا لذلك أمثلة، نضيف هنا أمثلة أخرى لكي تتحقق – أيها القارئ الكريم– من أهمية هذا العلم في تقرير الأحكام، وبيان المعانى والمقاصد المرادة من كلام الله عز وجل، ثم نمضى بعد ذلك فى بيان ما تبقى من الفوائد التى يحتاج إليها الباحثون فى العلوم الشرعية بوجه عام، وتفسير القرآن الكريم بوجه خاص .
وقع لبعض التابعين إشكال فى عموم قوله تعالى (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188) فلما عرفوا سبب النزول زال الإشكال اطمأنوا أنهم ليسوا داخلين فى عموم الآية وأنها خاصة باليهود. فقد روى البخارى ومسلم وغيرهما أن مروان قال لبوابه: اذهب يا نافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل يعذب ، لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية أنها نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187) الآية، قال ابن عباس سألهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن شئ فكتموه إياه وأخذوا بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.
ما وقع لبعض الصحابة من فهم قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) فقد روى البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن عروة ابن الزبير رضي الله عنه قال لها: أرأيت قوال الله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) فما أرى على أحد حرج أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختى إنها لو كانت على ما أولتها كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت لأن الأنصار قبل أن
ا يهلون لمناة الطاغية التى كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) الآية. قالت عائشة: ثم قد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – الطواف بهما فليس لإحد أن يدع الطواف بهما.
وقد تأول جماعة من السلف قول الله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:93) على غير الوجه المراد منها فوقعوا فى حرج عظيم، ولولا معرفة سبب نزولها ما رجعوا عن تأويلهم الفاسد وفهمهم السقيم. روي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول. وذكر الحديث فقال عمر: يا قدامة إنى جالدك. قال: لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدنى. قال عمر: ولم؟ قال لأن الله يقول: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الآية. فقال عمر: أنك أخطأت التأويل يا قدامة، ءاتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفى رواية فقال: لم تجلدنى؟ بينى وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأى كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال : إن الله يقول في كتابه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الآية. فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدراً وأحداً والخنق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذراً للماضين، وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن الله قد نهى عن أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت. وما قاله ابن عباس صحيح، يؤيده ما رواة البخارى عن أنس أن الخمر لما حرمت قال بعض القوم ( قد قتل قوم وهى فى بطونهم، فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الآية.
ومن هذه الأحاديث نعلم أن الغفلة عن أسباب النزول تؤدى حتماً إلى فساد التأويل، وأن العلم بها ضروري فى تصحيح الفهم ودفع الاشتباه.
قال الشاطبى فى الموافقات ج3 ص349 وما بعدها ( وهذا شأن أسباب النزول فى التعريف بمعانى المنزل، بحيث لو فقد ذكر السبب لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص، دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات) .
وبعد؛ فهذه هى أهم الفوائد التى يجنيها كل من عرف أسباب النزول عن طريق الروايات الصحيحة. وهناك فوائد أخرى نرجئ الكلام عليها فى مقال آخر إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.