معاتبة النفس
للإمام الغزالي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله ...
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله :
اعلم أن أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك .وقد خلقت أمّارة بالسوء،ميالة إلى الشر،فرّارة من الخير ، وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها إلى ربها وخالقها ، ومنعها عن شهواتها ، وفطامها عن لذاتها .
فإن أهملتها ، جمحت وشردت،ولم تظفر بها بعد ذلك .وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت نفسك هي النفس اللوامة التى أقسم الله بها، ورجوت أن تصير المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية .
فلا تشتغل ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها،ولا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولاً بوعظ نفسك ، أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام : (يا ابن مريم ، عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس،وإلا فاستحي مني).
وقال تعالى:(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين )
وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها ،وحماقتها وأنها أبداً تتعزز بفطنتها وهدايتها ويشتد أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الحمق ، فتقول لها:
يا نفس..ما أعظم جهلك ؟! تدعين الحكمة والذكاء والفطنة ، وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً!!
أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار وأنك صائرة إلى إحداهما على القرب؟
فما بالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم ؟
وعساك اليوم تختطفين أو غداً، فأراك ترين الموت بعيداً ،ويراه الله قريباً،أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس بآت ؟ أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ، ومن غير مواعدة ومواطئة ، وأنه لا يأتي في شيء دون شيء ،ولا في شتاء دون صيف ، ولا في صيف دون شتاء ، ولا في نهار دون ليل ، ولا في ليل دون نهار ،ولا يأتي في الصبا دون الشباب ولا في الشباب دون الصبا، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة.
فمالك لا تستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل قريب ؟!أما تتدبرين قوله تعالىاقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم )
ويحك يا نفس !!
إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك ، فما أعظم كفرك!!
وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد وقاحتك وأقل حياءك!
ويحك يا نفس!!
لو واجهك عبد من عبيدك ،بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له ؟فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه؟!
أفتظنين أنك تطيقين عذابه ؟!!!هيهات هيهات ، جربي نفسك ـ إن ألهاك البطر عن أليم عذابه ـ فاحتبسي ساعة في الشمس ،أو قربي أصبعك من النار ليتبين لك قدر طاقتك .
أم تغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك ؟ فما بالك لا تعولين على كرم الله تعالى في مهمات دنياك ؟ فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله تعالى ؟ وإذا أرهقتك حاجة إلى شهوة الدنيا ، مما لا ينقضي إلا بالدرهم والدينار فما لك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل ؟ فلم لا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز ، أو يسخر عبداً من عبيده فيحمل اليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب؟!
أفتحسبين أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا ، وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها ،وأن رب الآخرة والدنيا واحد ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ؟
ويحك يا نفس !!
ما أعجب نفاقك ودعاويك الباطلة ،فانك تدعين الإيمان بلسانك وأثر النفاق ظاهر عليك ،ألم يقل لك سيدك ومولاك :(وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها )
وقال في أمر الآخرة :(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة ، فكذبته بأفعالك ،وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر ، ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر ، ما هذا من علامات الإيمان ، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار ؟!
ويحك يا نفس !!
كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب !!وتظنين أنك إذا ما مت انفلت وتخلصت !!وهيهات ،
أتحسبين أنك تتركين سدى ؟!
ألم تكوني نطفة من مني يمنى ؟!
ثم كنت علقة فخلق فسوى؟أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك !!
أما تتفكرين أنه من ماذا خلقك ؟من نطفة خلقك فقدرك ، ثم السبيل يسرك ، ثم أماتك فأقبرك ، أفتكذبينه في قوله ثم إذا شاء أنشرك ؟
فإن لم تكوني مكذبة فما بالك لا تأخذين حذرك ؟!
ولو أن طبيباً يهودياً أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه وتركته وجاهدت نفسك فيه ،
أكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات ، وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيراً من قول يهودي يخبرك عن تخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم؟!
و العجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقرباً ، لرميت ثوبك في الحال ، من غير مطالبة له بدليل وبرهان .
أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول صبي من جملة الأغبياء ؟!
أم صار حرّ نار جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوما أو أقل منه ؟!
ما هذه أفعال العقلاء . بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك وسخروا من عقلك .
فإن كنت ــ يا نفس ــ قد عرفت جميع ذلك وآمنت به ، فمالك تسوّفين العمل ، والموت لك بالمرصاد ، ولعله يختطفك من غير مهلة ؟
وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة . أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها ؟! إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك !!
أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلاً بطالاً يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه ، هل كنت تضحكين من عقله وظنه إن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة ، أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه ، اعتماداً على كرم الله سبحانه وتعالى ؟
ثم هبي أن الجهد في أخر العمر نافع ، وأنه موصل إلى الدرجات العلا فلعل اليوم آخر عمرك ، فلم لا تشتغلين فيه بذلك ؟!
فإن أوحي إليك بالإمهال ، فما المانع من المبادرة ؟!وما الباعث لك على التسويف ؟! هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة ؟ أفتنتظرين يوماً يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات ... هذا يوم لم يخلقه الله قط ، ولا يخلقه ، فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره ، ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس .
أما تتأملين مذ كم تعدين نفسك وتقولين غداً غداً ، فقد جاء الغد وصار يوماً فكيف وجدته ؟! أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يوماً كان له حكم الأمس ؟! وأن ما تعجزين عنه اليوم فأنت غداً عنه أعجز وأعجز ؟!
لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعبد العبد بقلعها ، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف ، وأخرّها كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى ، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخاً ، ويزيد القالع ضعفاً ووهناً .
فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب ، بل من العناء رياضة الهرم ، ومن التعذيب تهذب الذئب ، والقضيب الرطب يقبل الانحناء فإذا جف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك .
فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية ، وتركنين إلى التسويف ، فما بالك تدعين الحكمة ؟! وأي حماقة تزيد على هذه الحماقة ؟!
ولعلك تقولين : ما يمنعني عن الاستقامة إلا حرصي على لذة الشهوات وقلة صبري على الآلام والمشقات ، فما أشد غباوتك وأقبح اعتذارك ؟!
إن كنت صادقة في ذلك فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية عن الكدرات الدائمة أبد الآباد .
ولا مطمع في ذلك إلا في الجنة .
فإن كنت ناظرة في شهواتك ، فالنظر لها في مخالفتها، فرب أكلة تمنع أكلات . وما قولك في مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ليصح ويهنأ بشربه طول عمره ، وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضاً مزمناً ، وامتنع عليه شربه طول العمر ، فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة ؟
أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر ؟ أم يقضي شهوته في الحال مخافة ألم المخالفة ثلاثة أيام ، حتى يلزمه ألم المخالفة ثلاثمائة يوم ، وثلاثة آلاف يوم ؟! وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار ، أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر وإن طالت مدته .
وليت شعري !! ألم الصبر على الشهوات أعظم شدة وأطول مدة ، أو ألم النار في دركات جهنم ؟!
فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله ؟!
ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك إلا لكفر خفيّ أو لحمق جليّ .
أما الكفر فهو ضعف إيمانك بيوم الحساب ، وقلة معرفتك بعظيم قدر الثواب والعقاب .
وأما الحمق الجلي فاعتمادك على حكم الله وعفوه من غير التفات إلى مكره واستدراجه واستغنائه عن عبادتك . مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة خبز أو حبة من المال أو كلمة واحدة تسمعينها من الخلق !!
بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بحميع الحيل ، وبهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : { الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت . والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني } .
ويحك يا نفس !!
لا ينبغي أن تغرّك الحياة الدنيا ، ولا يغرنك بالله الغرور . فانظري لنفسك ، فما أمرك بمهم لغيرك ، ولا تضيعي أوقاتك ، فالأنفاس معدودة ، فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك .
فاغتنمي الصحة قبل السقم ،والفراغ قبل الشغل ،والغني قبل الفقر ،والشباب قبل الهرم ،والحياة قبل الموت ،واستعدي للآخرة على قدر بقاؤك فيها .
يا نفس ،أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته ،فتجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب ولا تتكلين في ذلك على فضل الله وكرمه حتى يدفع عنك البرد من غير جبة ولبد وحطب وغير ذلك ،فإنه قادر على ذلك ، أفتظنين يا نفس أن زمهرير جهنم أخف برداً وأقصر مدة من زمهرير الشتاء ؟!أم تظنين أن العبد ينجو من جهنم بغير سعي ؟
هيهات ،كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالجبة والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حر جهنم وبردها إلا بحصن التوحيد وخندق الطاعات ،إنما كرم الله تعالى في أن عرفك طريق التحصن ويسر لك أسبابه ، لا في أن يندفع عنك العذاب دون حصنه ،كما أن كرم الله تعالى في دفع برد الشتاء أن خلق النار ،وهداك لطريق استخراجها من بين حديدة وحجر ،حتى تدفعي بها برد الشتاء عن نفسك ، وكما أن شراء الحطب و الجبة مما يستغني عنه خالقك ومولاك ،وإنما تشترينه لنفسك طلباً لاستراحتك ،فطاعتك ومجاهدتك أيضا هو مستغن عنها ،وإنما هي طريقك إلى نجاتك ،فمن أحسن فلنفسه ،ومن أساء فعليها ،والله غني عن العالمين.
ويحك يا نفس !!
انزعي عن جهلك ، وقيسي آخرتك بدنياك ، ف(ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) و(كما بدأكم تعودون ) وسنة الله تعالى لا تجدين لها تبديلاً ولا تحويلاً .
ويحك يا نفس !!
ما أراك إلا ألفت الدنيا وأنست بها ، فعسر عليك مفارقتها ، وأنت مقبلة على مقاربتها ، وتؤكدين في نفسك مودتها .
فاحسبي أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه ، وعن أهوال يوم القيامة وأحوالها ، فما أنت مؤمنة بالموت المفرّق بينك وبين محابّك ؟!!
أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر ، فمدّ ببصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه ،ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته ، أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى؟!
أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك ،وأنك ما لك فيها إلا مجاز،وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت ، ولذلك قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي (( أحبب من أحببت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به وعش ما شئت فإنك ميت )).
ويحك يا نفس !!
أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذّ الدنيا ويأنس بها مع أن الموت من ورائه فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة ، وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا يدري .
أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ، ثم ذهبوا وخلوا ؟ وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم ؟ أما ترينهم كيف يجمعون مالا يأكلون ، ويبنون مالا يسكنون ، ويؤملون مالا يدركون ؟ يبني كل واحد قصراً مرفوعاً إلى جهة السماء ، ومقره قبر محفور تحت الأرض ،فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا ؟ يعمرّ الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقيناً ، ويخرّب آخرته وهو صائر إليها قطعاً . أما تستحين يا نفس من مساعدة هؤلاء الحمقى على حماقتهم ، واحسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدي إلى هذه الأمور ، وإنما تميلين بالطبع إلى التشبه والإقتداء فقيسي عقل الأنبياء والعلماء والحكماء بعقل هؤلاء