حُجّة الإسلام
الإمَام الغَزَالِيّ
نحن اليوم في نيسابور ، في معسكر الوزير العظيم ، نظام الملك ، الذي كان يدير من هذا المعسكر في ضاحية نيسابور ، أكثر من نصف بلاد الإسلام ، وكان قصره حافلاً أبداً بالعلماء ، ولكنه اليوم أحفل منه كل يوم ، لأنه يوم المباراة العامة ، وأنتم تعرفون المباريات الرياضيّة ، وتحتشدون لها ، ولكنكم لا تعرفون المباريات العلميّة التي كانت تسمّى المناظرات ، ويجتمع لها الناس ، ويشرف عليها الأمراء .
وقد يكون منها ما هو قاصر على فن من الفنون ، كالمناظرات النحويّة والكلاميّة والفقهيّة ، ومنها ما يشتمل على أكثر من فن واحد .
أمّا مباراة اليوم فعجيبة حقّاً ، لأنها مباراة في كل علم ، والمتبارون العلماء جميعاً ضدَّ رجل واحد ، يقدم المعسكر للمرّة الأولى .
شاب عمره ثلاث وثلاثون سنة ، ولكن اسمه كان قد ملأ الأسماع ، وتآليفه سارت كل مسير .
وكان اليوم الأول للمناظرة في فقه الشافعيّة ، أصوله وفروعه ، واجتمع كبار الفقهاء ، وازدحم الناس يستمعون ، وحضر نظام الملك ، فأوردوا على هذا الشاب غرائب المسائل ، فأجاب عنها كلّها بنظر دقيق ، واستخراج عجيب ، وأورد عليهم ما لم يستطيعوا له جواباً ، فأقرّوا له جميعاً بالإمامة في المذهب ، وبايعوه على رياسة الشافعيّة في تلك الديار .
ثمّ كان اليوم الثاني ، فناظر المتكلّمين ، وأنتم تعلمون أنّ هاتيك الحقبة كانت العصر الذهبي للكلام ، وأنّ علم الكلام كان يومئذ خلاصة الفلسفة والشريعة ، وكان المطلب الأعلى للعلماء ، وإن كان من الواجب عليّ أن أقرر هنا أنّ أسلوب القرآن في تقرير مسائل التوحيد هو الأسلوب الكامل ، الذي لا نحتاج معه إلى فلسفة ولا كلام .
وكانت مناظرة هائلة ، استمرت ساعات ، وانتهت بالإقرار له بإمامة المتكلّمين ، وبأنّه فذّ مفرد نسيج وحده ، لا مثيل له في الرّجال .
وكان اليوم الثالث موعد المناظرة في الفلسفة اليونانيّة ، وجاء الفلاسفة الذين قرؤوا كتب أفلاطون وأرسطو متعالين شامخين بأنوفهم ، كأنّهم يترفّعون عن مناظرة هذا الشيخ الفقيه ، الذي لم يقرأ - كما ظنّوا - كتب فلاسفة اليونان ، ولا شروح فلاسفة الإسلام .
وكانت المناظرة ، فما زالوا يتضاءلون ويصغرون ، حتى رأوا أنّ هذا الفقيه أعرف منهم بمذاهب الفلسفة وأشدّ إدراكاً لها ، ولم يخرجوا حتّى أقرّوا له بالتقدّم فيها .
واستمرت هذه المناظرة العامة أياماً ، قهر فيها هذا الشاب الخصوم ، وغلب المناظرين ، وأعجب به نظام الملك ، الذي أسّس المدارس الجامعة في كثير من بلاد الإسلام :
في بلخ ونيسابور وهرات وأصبهان ومرو والبصرة والموصل ، ولم يفارق مجلسه حتّى كتب له مرسوم تعيينه أستاذاً في الجامعة النظاميّة الكبرى في بغداد .
ورحل إلى بغداد ، وبغداد حاضرة الأرض ودار الخلافة ، فناظر علماءها ، فكان له الغلبة عليهم جميعاً ، وأقرّوا له جميعاً بالرياسة والتقدّم .
ثقوا يا سادة أنّي لا أبالغ ولا أتخيّل ، وأنّه كان أكبر ممّا وصفت ، وأنّه أحد العشرة الكبار جداً من رجال الفكر الإسلامي ، وأحد العشرة الكبار جداً من أرباب القلم ، وهو أقدر من لخّص الفلسفة اليونانيّة ، وأقدر من ردَّ عليها ، أيّدها وقوّاها ، ثم ضربها ضربة لم تقم لها بعده قائمة أبداً . وما قرأها على أستاذ ولكن نظر في كتبها بنفسه ، لأنّه كان يرى من المهانة لنفسه وللفكر أن يردّ على مذهب أو رأي لم يفهمه .
فلمّا فهمها ألّف كتابه ((مقاصد الفلاسفة)) فأقبل الفلاسفة أنفسهم عليه لأنهم رأوا فيه تلخيصاً وفهماً لم يروه في كتبهم ، ثمّ ألّف كتابه ((تهافت الفلاسفة)) فكانت كالضربة القاضية في الملاكمة ، لا يقوم بعدها الخصم .
وكانت له ميزة عجيبة هي القدرة على هضم كل فكرة ، وعرضها عرضاً واضحاً مفهوماً ، يجمع بين البيان والسهل ، والتسلسل المنطقي .
وقد انفرد بأمر لم يكن لسواه ، هو أنّ حياته قسمان :
قسم للعقل ، وقسم للقلب … وكان إماماً في الحالين ، درَّس في الجامعة النظاميّة في بغداد وألّف الكتب العجيبة ، التي كانت ولا تزال مطمح أنظار المفكّرين والفقهاء ، ثمّ تجرّد للعبادة والتأمّل فألّف ((الإحياء)) الذي كان ولا يزال غاية ما يطلبه المتصوّفة وأرباب القلوب .
هل عرفتم الآن من هو ؟
هو حجّة الإسلام الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي .
أمّا قصة تحصيله ودراسته ، فقصة عجب اسمعوا طرفاً منها لتدركوا كيف تكوّن الرجل العظيم عوامل ترونها ضعيفة ، ولتعلموا أنّه ربّما كان في أولاد العوام ، وفي أبناء الفقراء ، من لو كتب له التّعلّم والدّرس لكان منه عالم كالغزالي ، أو شاعر كالمتنبّي ، أو وزير كنظام الملك ، أو ملك كالملك الظاهر .
أعود بكم إلى نيسابور ، لأقف بكم على دكّان صغير ، لرجل عامي صالح يشتغل بالغزل . رجل لم يُكتب له أن يتعلم القراءة ، ولم يكن من العلماء ولكنه أهدى إلى الأمة الإسلامية هذا العالم الفذّ ، ولولاه لم يكن قطّ عالماً .
هذا هو محمد بن محمد والد الغزالي .
كان ينتهي من عمله فيدخل المسجد ، فيقف على حلقات الفقهاء مستمعاً . فيأسى على حاله ويبكي على جهله ، ويتمنّى لو أنّ الله جعله فقيهاً ، ولكن ولّى الشباب ومضى العمر ، ولم يبق له في نفسه أمل فهو يأمل بولده ، فيسأل الله من قلب مخلص ، أن يرزقه ولداً فقيهاً ، ثم يقعد في مجالس الوعظ ، فيسأل الله أن يرزقه ولداً واعظاً .
واستجاب الله
ه فرزقه ولداً صار من أعظم الفقهاء ؛ هو أبو حامد الذي أحدّثكم عنه ، وولداً آخر كان من أعظم الوعّاظ ، ولولا أن غطّت عليه شهرة أخيه هذا ؛ لملأ اسمه صحف التاريخ .
وأدرك الوالد الموت والولدان صغيران ، فتقطّع قلبه حسرة على ألا يكون قد علّمهما ما فاته من العلم ، وكان له صديق صوفي ، فعهد بهما إليه ، وأوصاه أن ينفق على تعليمهما ، ولو أتى ذلك على كل ما خلَّفه لهما من مال .
فكان هذا الوالد أوّل عامل في تكوين الغزالي العظيم .
والعامل الثاني هو هذا الصوفي ، لقد كان يسعه وقد علّمهما كل ما عنده ، وأنفق عليهما كل ما عندهما ، أن يقول لهما :
اكتفيا بما حصلتما ثمّ كونا عاملين كأبيكما أو صوفيين مثلي … وإذن لا يكون الغزالي ، إلا رجلاً عادياً مغموراً . وإن كان له نبوغ ، كان نبوغه محصوراً في هذه البلدة الضيّقة ، وهذه الدائرة الصغيرة ، ولكن هذا الرجل الصوفي الذي أجهل اسمه كان رجلاً مكشوف البصيرة ، فرأى بفراسة المؤمن ؛ وهي من نور الله ، أنّ الولدين خلقا ليكونا عالِمَين عَلَمين ، وأنّ هذا الدماغ لا يمتلئ بما وضع فيه هذا الصوفي من علمه القليل ، فقال لهما :
لقد أنفقت عليكما كل ما كان لكما من مال ، وأنا رجل فقير ليس عندي ما أعينكما به ، وحرام أن تدعا العلم ، فعليكما بمدرسة من هذه المدارس .
وكانت هذه المدارس هي العامل الثالث في تكوين الغزالي .
هذه المدارس التي أدركتم بقاياها من دمشق ، في العمرية في الصالحية التي كانت جامعة حقيقيّة ذات فروع وأقسام ، وفي المراديّة ، وفي البادرائيّة وغيرها .
هذه المدارس التي بناها الأخيار من الأمراء والأغنياء ، ووقفوا عليها الوقوف الكبيرة وفتحوها لطلاب العلم ، فهي تقدّم لهم الفراش والطعام والشراب والكسوة والنفقة ، وتحمل عنهم هموم العيش ، وتفرّغهم لطلب العلم ، وتعلمهم مع العلم ما هو خير من العلم ؛ وهو التقى والأخلاق ، والعلم بلا تقوى ولا أخلاق شرّ على صاحبه وعلى الناس . . الجهل خير منه !
وتعصمهم من مثيرات الهوى ، ومفاسد الحياة .
والعامل الرابع ، الرحلات فقد رحل في طلب العلم كما كان يرحل العلماء ، يقطعون الأيام والليالي مسافرين ، ليأخذوا مسألة ويتلقّوا حديثاً ، رحلات خالصة لوجه الله ، ولطلب العلم . لا للتسلية ولا للمتعة والتفرّج ، ولا للتجارة والكسب ، وفي إحدى هذه الرحلات تلقّى درساً كان له في نفسه وفي مستقبله أبلغ الأثر ، درساً لم يتلقه من عالم ولا محدّث ولكن من قاطع طريق …
قاطع طريق خرج على القافلة التي كان فيها ، فجرّدها من كل شيء ، وكان مع الغزالي دفاتره التي يدوّن فيها ما يسمعه ، فجعل يبكي عليها ، ويتوسّل إلى قاطع الطريق أن يردّها ويقول له :
أنا لا أبالي بالمال ولا بالثياب ولكن تعليقتي ، هي ثمرة كل ما حصّلته ، فقال له متعجّباً : وما تعليقتك ؟
قال : دفتر فيه علمي كلّه .
فضحك قاطع الطريق وقال له : كيف تقول علمي ، وأنت لا تعلمه ، وإن ضاعت تعليقتك ، لم يبق لك منه شيء ؟ … ورماها إليه .
قال الغزالي : هذا رجل أنطقه الله ، ليبصِّرني في أمري . ولمّا وصل إلى البلد حفظ كل ما فيها ، وصار لا يبالي إن ضاعت أو سرقت أو احترقت .
والعامل الخامس في تكوينه ، صحبة العالم العظيم إمام الحرمين ، فقد لازمه مدّة طويلة وأخذ منه . وسار أولاً على طريقته ، ثمّ استقلّ وشقّ لنفسه طريقة جديدة ، وفاق في المعقولات إمام الحرمين ، وهو لا يزال إلى اليوم أكبر أئمة الفكر الإسلامي ، ونحن نقرأ كتبه ، مستفيدين منها معجبين بها ، كما استفاد منها وأعجب بها رجال عصره ، ولقد سما العقل خلال هذه القرون الثمانية . واتّسع العلم ، ولكنّ الغزالي لا يزال في القرن الرابع عشر ، كما كان في القرن الخامس ، إماماً يُقتدى به وعبقريّاً لا نظير له .
حياة الغزالي يا أيها السادة : لها صفحتان … هذه الصفحة العلميّة والصفحة الصوفيّة .
لقد بقي في نفسه أثر من أستاذه الأول ، الرجل الصوفي الذي أوصى إليه به أبوه ، وكان يتنازع قلبه التفكير العلمي الذي هو أثر من إمام الحرمين ، وهذا التأمل الصوفي ، ثمّ غلب عليه التصوّف ، فاستقال فجأة من أستاذيّة الجامعة ، ورحل منقطعاً إلى العبادة ، آخذاً نفسه بالزهد والسهر وقلّة الطعام ، وما ابتدعه الصوفيّة من مناهج زعموا أنّها هي التي توصّل إلى الله ، مع أنّ أقرب الطرق إلى الله ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكان يطوف على الترب والمقابر ، ويأوي إلى القفار ، ويجاهد نفسه مجاهدة شديدة ليقتل فيها حب الغنى والجاه والملذّات ، ومع ذلك لم يقبل على الوعظ لأنّه يرى أنّ الواعظ يجب أن يكون نموذجاً كاملاً لما يدعو إليه ، وأن يتجرّد من حب الدنيا ولذائذها ، وحب المال وجمعه ، قبل أن يعظ الناس .
وفي هذه المدّة حجّ ودخل الشام ومصر ، وكانت أكثر إقامته في دمشق ؛ في الجامع الأموي ؛ في الغرفة التي يصعد منها إلى المنارة الغربيّة ، والزاوية التي عُرفت بعد بزاوية الغزالي ، وفيها ألّف كتابه العظيم إحياء علوم الدّين .
ووقعت له في دمشق وقائع عجيبة ، جاءها متنكّراً فنزل السميساطيّة ، وكان يقهر نفسه على تنظيف المراحيض إذلالاً لها ، ويدخل المسجد بزيّ العوام ، وكان ليلة في المسجد ؛ فجاء قرويّ يسأل عن مسألة ، فدلّوه على دكّة المفتين والعلماء ، فسألهم فلم يعرفوا جوابها ، فدعاه الغزالي فقال: ما مسألتك؟
قال : إنّ المفتين لم يعرفوا جوابها ، أفتعرف أنت ؟… قال : هاتها .
فألقاها عليه ، فأجابه الغزالي عنها . فعاد الرجل إلى المفتين ، وقال : أنتم لم تعرفوا الجواب وقد عرفه هذا العاميّ ، وخبّرهم بما أجابه به ؛ فشُدِهوا وقاموا إليه .. فقالوا : من أنت ؟ إنّ لك لشأناً ! واستحلفوه فخبّرهم ، فاحتفلوا به وسألوه أن يعقد لهم من الغد مجلساً ، وبحثوا عنه في الغد فلم يجدوه لأنّه كان قد هرب في الليل .
ومن وقائعه أنّه دخل المدرسة الأمينيّة مرّة (وهي قائمة في سوق الحرير ؛ وهي من أقدم المدارس الإسلامية في الدنيا ) وكان متخفّياً فسمع المدرّس يقرأ كتبه ويشرحها ، فخاف أن تغلبه نفسه فيظهر أمره فهرب …
ثمّ عاد إلى بلده ، وأكرهوه على أن يعود إلى التدريس ، فعاد يدرّس في الجامعة النظاميّة في نيسابور ، ولكن بغير النفس الأولى ، إذ كان منصرفاً عن المناظرات ، زاهداً في الجاه ، ثمّ استقال وذهب إلى طوس فأنشأ في داره خانقاه (أي: تكيّة) ومدرسة وكان يصرف وقته في العبادة والذكر والتعليم .
حتى مات ميتة تدل على حسن الخاتمة وهو ابن خمس وخمسين سنة فقط .
هذا هو الغزالي الذي كان أحد أفذاذ المفكّرين في العالم كلّه ، وأحد الكبار من أعلام الإسلام ، وكان عيبه ضعفه في الحديث ، وقد أقبل على روايته في آخر عمره ، ولكن الأجل لم يمهله . وكتاب الإحياء على جلالة قدره مملوء بالأحاديث الموضوعة ، ومن أراد أن يقرأه ، فليرجع معه إلى من خرّج أحاديثه كالعراقي . أو ليقرأ مختصره للشيخ جمال الدين القاسمي .
وشيء آخر هو أنّ هذه الروح التي تتجلّى في كتاب الأحياء روح الانصراف عن الدنيا ، والميل إلى الفقر ليست هي الروح الإسلامية ، إنّ الروح الإسلامية تتجلّى في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، والعجيب أنّه ألّفه في العصر الذي توالت فيه الهجمات على الإسلام من مغول الشرق وصليبيّي الغرب فلو أخذ المسلمون بما يدعو إليه كتاب الأحياء ، لما وجدت قوة عسكرية تردّ التتار المغول من هنا ولا الصليبيين من هناك .
هذا هو الغزالي ، والفكر الإسلامي منذ أكثر من خمسين سنة إلى اليوم مطبوع بطابع شيخ الإسلام ابن تيميّة ، ولكنّه بدأ يعود إلى طابع الغزالي كما كان من قبل ، وكلاهما عظيم .. ولكنّ الغزالي أعظم في عالم الفكر وعالم البيان ، وابن تيميّة أقرب إلى الكتاب والسنّة ، وإلى ما كان عليه السلف .
رحمة الله عليهما ، وعلى كل من وضع لبنة في هذا الصرح العظيم …
صرح الفكر الإسلامي .
المصدر
كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله