بدأنا الحديث في الحلقة السابقة عما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تبايع الرجلان ، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر ، فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع).
وفي معناه ما جاء في حديث حكيم بن حزام أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما ).
وقد وقفنا في الحلقة السابقة الوقفة الأولى مع الحديث وهي مع قوله: (إذا تبايع الرجلان) فعرفنا تعريف البيع وحكمه وشروطه وفي هذه الحلقة نكمل بقية الوقفات مع الحديث.
الوقفة الثانية:
قوله: (بالخيار) بكسر الخاء, اسم مصدر (اختار) أي طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد.
وقوله: (محقت) أي ذهبت وزالت زيادة كسبهما وربحهما.
الوقفة الثالثة:
دلّ الحديث على ثبوت خيار مجلس البيع, فإذا تبايع الرجلان, ثم طرأ لأحدهما فسخ عقد البيع ولازالا جميعاً في مجلس البيع فله ذلك استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا وكانا جميعاً), وفي الحديث الآخر: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).
وعلى هذا –أعني بثبوت خيار المجلس- ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول الشافعية والحنابلة وفقهاء أصحاب الحديث.
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى عدم القول بثبوت خيار المجلس معتذرين عن الآخذين بهذه الأحاديث بأعذار متعددة, قال ابن عبد البر رحمه الله: (قد أكثر المتأخرون من المالكيين والحنفيين من الاحتجاج لمذهبهم في رد الحديث بما يطول ذكره, وأكثره تشغيب لا يحصل به شيء لازم لا مدفع له).
وقد ذكر الحافظ ابن دقيق العيد –رحمه الله- عشرة أعذار لمن لم يأخذ بهذه الأحاديث, يقول: (والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه, والذي يحضرنا الأن من ذلك وجوه), ثم ذكر هذه الوجوه بشيء من البسط, وهنا أوجز بعض ما بسطه رحمه الله:
1- أن هذا الحديث رواه الإمام مالك في موطأه, ومع ذلك لم ير العمل به, وأجيب عن هذا القول بأن هذا الحديث مروي من طرق فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية الإمام مالك لم يعتذر من جهة أخرى, وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ.
2- أن هذا جز واحد فيما تعم به البلوى, ومعنى عموما البلوى أنه تمسى إليه الحاجة في عموم الأحوال – وخير الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول.
وأجيب عن هذا بأن البيع مما تعم به البلوى, ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ, وليس الفسخ مما تعم به البلوى فإن الظاهر من الإقدام على البيع الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه.
3- أن هذا الحديث مخالف لعمل أهل الدين وما كان كذلك يقدم عليه العمل.
وأجيب عن هذا بأن كثيراً من أهل المدينة يرون هذا الخيار ومنهم بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وبعض التابعين كسعيد بن المسيب رحمه الله.
4- ذكر بعضهم أن المراد بـ (المتابعين) (المتساومان)
والمراد بالخيار: خيار القبول, أي خيار قبول المشتري أورده وأجيب عن هذا بأن تسمية المتساومين (متبايعان) مجاز, والأصل الحقيقة.
5- حمل بعضهم التفرق, على التفرق بالأقوال بين البائع والمشتري عند الإيجاب والقبول.
وأجيب بأن خلاف الظاهر من الحديث, بل خلاف نص بعض الأحاديث.
6- ادعى بعضهم أن حديث منسوخ, إما لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس, وذلك يدل على النسخ, وإما لحديث اختلاف التابعين, وذلك فيما رواه أحمد والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة و يترادان) وزاد ابن ماجة: (أو المبيع قائم بعينه).
وأجيب بـأن النسخ لعمل أهل المدينة فقد سبق الإشارة إليه, ثم إن النسخ لا يثبت بالاحتمال, وأما حديث اختلاف المتبايعان فالاستدلال به ضعيف جداً لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق.
الوقفة الرابعة:
بيّن الحديث كما سبق في الوقفة السابقة خيار المجلس لكل من البائع والمشتري, وتبدأ مدة هذا الخيار من حين العقد إلى أن يتفرقا بأبدانهما من مجلس العقد.
الوقفة الخامسة: دلّ الحديث أن من آداب البيع والشراء هو الصدق في هذه العملية ببيان ما عليه السلعة من الكمال والعيوب والنقص والخلل وهذا مما يحل البركة عليهما, وإذا كان كذلك فإن الكذب وكتمان عيب السلعة والغش والخداع والتحايل سبب لمحق بركة البيع وزوالها, وهذا الأدب قد فصّلنا فيه من القول في حلقة سابقة.