نورة
)اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولاأقدروتعلم ولاأعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن خالد خيرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن خالد شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري _ أو قال عاجله وأجله _ فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به(
أخذت نورة تردد ال
)اللهم أستجيرك بعلمك(
رحاب) لاااااااااااااا ما أستجيرك يا شاطرة .. أستخيرك(
نورة:)أوهوووو ما أقدر أحفظه ..ما أقدر..شكله هالخطيب بيتعبني من إلحين! خلاص ما عزمت .. برفضه(
رحاب: )خلي عنش الكسل وحفظي .. أو كتبيه على ورقة و قريي(
أخذت تردده و رحاب تصر على أن تحفظه قبل بداية المحاضرة .. ولكن الوقت داهمهما فساعة الحرم الجامعي أعلنت لتوها دخول الساعة العاشرة .هرعتا تحو القاعة تحملان كتباً جعلتهما تبدوان كسجينتين ترسفان في أثقلاهما, حدثت رحاب نفسها : " أن يضبطهما الدكتور حلمي متأخرتان! يا للرعب"
دخلت نورة القاعة، عازمة أن تترك موضوع الإستخارة جانباً وتركز على محاضرة الدكتور حلمي الصعبة الفهم ، ولكن صورته التي أعطتها خالتها ألفت لا تبارح مخيلتها، يبدو وسيما بعض الشيء، اختلجت وجنتاها حمرة وهي تذكر الصورة ، ولكنها تداركت أفكارها، (ولكني لا أعرفه!) هذا ما كان يربك الموضوع برمته، كيف لها أن تصبح زوجة إنسان لم يمضي يومان على رؤية صورته؟ كيف لها أن تسلم جميع أحلامها الوردية لمجهول؟
تقول رحاب أن معرفة الخطيب ستأتي في فترة الملكة، ولكنها زوجته حينها، لا يمكن أن تغير رأيها!
اقترحت خالتها أن تتحدث معه على هاتفه النقال قبل إعطاء القبول أو الرفض، ولكنها تخاف، تخاف أن تهتز ثقة أبيها بها، الرجل الذي لا يمر يوم إلا ويفخر بابنته المؤدبة الخلوقة وتشتعل نار الغيرة في قلب أخيها!
(لا لا، سأرفض لأسهل الموضوع ، أسهل وبلا عوار راس) ولكن دقات الساعة تذكرها أن الوقت يمضي، هاهي تشرف على أعتاب الثالثة والعشرون وكل من تعرفهن إما متزوجة أو مخطوبة أو على مشارف خطبة كبيرة سمعن عنها كل بنات الكلية، تريد أن تكسب اهتمامهن هي أيضاً، تريد أن تستوقفنها زميلاتها وتسألنها عن عريس الغفلة، اختلجت وجنتاها مرة أخرى و استدركت أفكارها حتى تنهل النزر الباقي من محاضرة أستاذ حلمي!
حييت والدتها بعجلة، وسارعت إلى غرفتها، لم تعرف ما الذي يدفعها دفعاً ، أول ما فعلته هو إخراج الصورة، شعرت كأنها مراهقة مولعة بصورة فنان، لكنها لا تعرف لماذا ترتسم على شفتها ابتسامة خجل كلما نظرت إلى الصورة ، كأن قلبها يدفعها لقول نعم لخاطرالصورة.
سمعت طرقاً خفيفاً على الباب ، أسرعت بإخفاء الصورة تحت وسادتها ( أدخل) نادت على الطارق فإذا بأبيها يدخل، شعرت بارتباك فهي لم تعتد أن يقتحم أبوها عالمها الخاص ويدخل غرفتها. سألها عن حالها وعن دراستها، صمت برهة ليستجمع قواه ، وكأن ما سيقوله صعب للغاية، تسارعت دقات قلبها وهي ترى والدها بهذه الحالة، مر أكثر من سيناريو في مخيلتها: من مات؟ من مرض؟ وكل هذه الأفكار السوداوية مرت عليها.
تنحنح والدها ليعيدها إلى حيث هي وقال: (بنتي ، تعرفين أن الزواج قسمة ونصيب، وأن أمنية كل أب أن يرى ابنته زوجة صالحة لرجل يحبه ويحترمه، تقدم لك شاب اسمه خالد ، يأتي من عائلة محترمة، يخاف الله، قابلته عدة مرات والتمست فيه المسئولية، لا أريد أن أضغط عليك ولا أريد أن أتدخل في قرراتك ولكن فكري وقرري بما ترينه مناسباً لك)
انحدرت دمعة ساخنة على وجه نورة، وكأنها لم تتوقع ما سيقوله، وخرج الأب وهو يعتصر ألماً حل به ، لا يعلم ما سبب ضيقة الصدر هذه، ولماذا يشعر وكأن ابنته ستسرق منه، ولكنه شر لا بد منه ، فهذه السنة الحياة، أن تنتقل من إمرة أب إلى إمرة زوج، ولكن التفكير بأن ابنته المدللة ستخرج من كنفه ورعايته يشعره بضيق شديد.
أخذت تتقلب بين نعم ولا، ولكنها تعلم أنها تأخذ قراراً لا تدرك مداخله ومخارجه، فمن خالد هذا؟ مهما قيل عنه ووصف عنه فهي تعلم في قرارة نفسها أنه مجرد كلمات لتحفزها على إتخاذ القرار الذي يردونه، ومجيء أبوها إلى هنا أكبر دليل على ذلك، فكيف له أن يحكم على شاب رأه عدة مرات وفي مناسبات عامة؟ نعلم أن الشباب عادة يخفون مساوئهم ولا يعلنونها تحسباً لوقت مثل هذا. سحبت الصورة من تحت الوسادة، نظرت إلى وجه خالد وشعرت كأنها ترى أنياباً لا مكان لها، ضحكت من أفكارها السخيفة، وأتخذت قراراً إرتجالياً ، (سأطلب رقمه) فكرت(نعم وسأتحدث معه وأقرر إن كان يناسبني أم لا، القرار يجب أن يكون قراري لا قرار أبي وخالتي)!
ضغطت على أزرار الهاتف النقال، أعطتها خالتها الرقم بكل حبور، وكأنها متأكدة أنها ستوافق على خالد، لا تدري لما يزيدها هذا الحبور عناداً ، ولما يجعلها تميل إلى قول لا لا رجعة فيها ! ، تتصل، يداها ترتجفان وهي تسمع خالد يقول : (ألو ..
) ، شعرت وكأن هذا الصوت هو أفضل صوت سمعته في حياتها، قوي أجهش يوحي بالقوة ، قالت بصوت يملأه الوجل ( ألو ، معي خالد ) ، خالد (أيوا من معي؟)، إحتارت فيما ترد ، أتقول خطيبته؟ لا ليست خطيبته، ترددت ثم قالت (نورة) وسكتت ، شعرت بابتسامته من خلال سماعة الهاتف، (أشرقت وأنورت .. وأنا أشوف الدنيا منورة اليوم) ، استهجنت طريقته في الحديث، كأنه لا يأبه أنها فتاة محترمة ويجب عليه أن لا يتمادى في الإطراء بهذه الطريقة من أول محادثة ، ماذا تقول الأن، هل تعنفه بشده على هذا الأسلوب، أم هل تتجاهل حنقها على أسلوبه، قررت التجاهل لا بطولة منها ولكن خجلاً من المواجهة. ( الأخ خالد ، أنت أكيد تعرف ليش إتصلت ، حبيت أعرف أكثر عنك حتى أقرر قراري ) ( أوكي نور الدنيا، ولا يهمك، أنا خريج هندسة في أمريكا، أشتغل في ال ....) إسترسل يتحدث عن نفسه لنصف ساعة، لم تقل شيئا سوى نعم عندما يسألها إن كانت معه في الخط، حمدت الله كثيراً عندما نادتها الخادمة لتناول العشاء واعتذرت بإنهاء المحادثة .
ليس هذا فارس أحلامها، ليس هذا من تريده أن يقلها بحصانه الأبيض ويطير بها إلى عالم الأحلام الوردية، تريد من يسمعها، من يقدمها على حياته،هكذا تحدثها نفسها وهكذا يقنعها قلبها، ولكن عقلها والناس من حولها يقولون لها أنه الشاب الممتاز وألف من تتمناه ، أمها قالتها صراحة أنها إن رفضت هذا الشاب لن يخطبها أخر بنفس مواصفاته الخُلقية والخَلقية، تتفق معهم أنه يملك كل ما تتمناه الفتيات، ولكن ليست هي، ولكن ماذا تقول لأهلها ، ليس اميري؟ تتخيل أبوها وهو ينظر إليها نظرة غضب لا تتحملها، تتخيل دموع عين أمها التي ستسكبها ظناً منها أن إبنتها ستضحي عانساً، سترى حنق خالتها الذي تخافه وتسمعها تقول: أخر مرة أجيب لبنتكم عريس، فشلتني قدام الحريم.
فكرت بالموافقة من أجلهم جميعاً ، تتحمل هذه الصفة الوحيدة التي لا ضرر فيها من أجل فرحة الجميع، وكلما حاول أن تقنع نفسها أكثر كلما صرخ قلبها بألف لا، لا لا ليس هو. شعرت بقواها تخور، لا تحب التردد، كانت
اً سريعة في إتخاذ القرارات، لماذا تتردد إذاً؟ لتأخذ قراراً ارتجاليا وتنهي الموضوع!
ألقت نظرة إلى الصورة، وتدير سماعة الهاتف، (ألو خالتي، أظنني جاهزة لإعطاء ردي ، موافقة!! ) ، أغلقت سماعة الهاتف وهي تدعو ربها أن تكون قد اتخذت القرار الصائب.
المهد الصغير
جلست تناغي طفلها الراقد في مهده الصغير, غنت له أغنية كانت تسمعها من أمها عندما كانت تهدهد أختها الصغرى , سرحت في وجهه البريء و هو مستلق, كم تنطق روحه البريئة بأحلام كثيرة, أحلام المستقبل الذي لا يعرف و لا تعرف عنه شيئا. سرحت , بعد عدة شهور سيكون طفلا مزعجا, سيستنهك قواها و هي تركض خلفه هنا و هناك, و هي تركض تكون تستعيد لحظات طفولتها التي أبعدت في الزمان الغابر, سيوقظ ذكريات قد نامت بخلجات نفسها من عدة سنين. بعدها سيبدأ بالكلام, سينطق بأحلى و أرق كلمة أمي سمعتها من أي طفل في الدنيا, ستخرج متلعثمة من فمه الصغير و لكنها ستمتلك جميع جوارحها ـ
. سيأتي إليها شاكيا باكيا و ستضمه إلى صدرها الحنون لترويه من حنانها و لتحميه من أي مكروه يصيبه. تخاله جوهرة تمشي على الأرض, قطعة من قلبها تتحرك أمامها. هكذا كانت تفكر. سيأتي اليوم الذي ستذهب به إلى المدرسة, سيفارقها باكيا في البداية و لكنها عندما تودعه بقبلة على خده سيركض بعدها فرحا إلى دراسته. و عندما يعود من مدرسته سيريها فرحا ما تعلم و يعلمها كأنه قد ختم العلم كله. ـ
سيتفوق في دراسته, و سيأتي أخر العام بشهادة ترفع رأسها عاليا و هي تحصد مجهود تحملها و جلوسها معه عندما يستعد للامتحانات. سيكبر, يصبح مراهقا, ستخاف عليه من كل من يحوم حوله ليفسد ما غرسته فيه من مبادئ و أخلاق, لكنها في نفس الوقت ستعامله بذكاء, ستسمح له أن يفكر قبل أن يقدم على أي عمل و هكذا ستطمئن عليه حتى و إن ابتعد عنها, و ستنجح في ذلك , و ستفخر به أنه ظل ذلك الولد الناضج طيلة فترة مراهقته. سيجتاز المرحلة بأمان , و لكنه بعدها سيتحول إلى ذلك الشاب الفيلسوف, سيأتي إلى المنزل يحاول أن يقنع عقلها القديم بأفكار جديدة و غربية , تحاول أن تجاريه النقاش و لكنهه سيطغى على عقلها البسيط و سيقنعها بأفكاره الجديدة. ـ
سيأتي اليوم الذي ستفخر به أمام جميع أترابها. اليوم الذي يحدد مصير حياته الباقية, اليوم الذي يثبت فيه انه يهتم بمستقبله قبل كل شيء , يوم حصوله على نتائج الثانوية العامة و هو يركض فرحا و قد أصبح أحد الأوائل, عندها ستذرف دمعة فرح و هي تراه يكرم أمام الجميع. ـ
بعدها سيغدو محتارا فيما يعمل, هل يدرس هنا في وطنه بجانبها أم يختار أن يبتعث للخارج حتى ينهل المزيد من علوم الحياة؟ فكر مليا و قرر أن يدرس الهندسة في الخارج حتى يكتسب خبرة اكثر في الحياة, يؤلمها اختياره , فهو سيفترق عنها لأول مرة , و لأول مرة ستشعر أن مصلحته هي في الابتعاد عنها , ستشجعه على اختياره مع أن قلبها يتقطع ألما. ـ
يأتي اليوم الذي يحتم عليها أن تودعه, تبكي بحرقة , لكنه يضمها إلى صدره مؤكدا أنه سيكون على ما يرام و انه أصبح رجلا و سيعتمد على نفسه. قبل سفره تقوم بتوصيته على نفسه, تقوم بترتيب حقيبته لتتأكد انه قد اعد كل ما يحتاجه, يبتسم و هو يراها مضطربة اكثر منه و كأنها من سيسافر. يأتي اليوم الذي ستفارقه فيه لأول مرة , تغرورق عينيها بالدموع,فكيف ترى قطعة من قلبها تسافر بعيدا عنها , يضمها إلى صدره مؤكدا أن السنوات و الأيام ستمر بسرعة و لن تشعر بفراقه. ـ
سافر, و يتصل بها لأول مرة من الخارج, تبكي و هي تؤكد له أنها على ما يرام , و هي قادرة على فراقه و لكن عليه أن يجتهد حتى يعود ناجحا. تمر السنوات , يكمل سنوات الغربة و يعود و قد حاز على نتائج مرضية, فخرت به عاليا للمرة الثانية و خاصة بعد أن حصل على وظيفة ممتازة. ـ
حان الوقت أن يرتبط بمن اختارها قلبه و عقله, يخبر أمه , تتحرك بداخلها عوامل الغيرة و الفضول , فمن هذه المرأة التي ستشاركها قلب ولدها, من هذه التي أتت فجأة لتحتل مساحة من القلب الذي كانت تسكنه وحدها , و لكنها تذهب لتخطبها و بالفعل تقع هي أيضا في حب الفتاة الطيبة التي اختارها ابنها. ـ
يقرر أن ينتقل إلى منزله الجديد, يظل يحايلها أن تنتقل معه, لكنها تأبى أن تترك منزلها العتيق و تبارك لأبنها بيته الجديد , و هكذا مرت السنوات و عادت و حيدة في منزلها. مضت تسرح و تبحر في أفكارها إلى أن أيقظتها هزة طفلها في مهده الصغير, و ابتسمت عندما فتح صغيرها عينيه و هي ترى مستقبلا واسعا أمامه. ـ