53- تفسير سورة النجم عدد آياتها 62 ( آية 33-62 )
وهي مكية
{ 33-62 } { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا *وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى }
إلى آخر السورة يقول تعالى: { أَفَرَأَيْتَ } قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده، فتولى عن ذلك وأعرض عنه؟
فإن سمحت نفسه ببعض الشيء، القليل، فإنه لا يستمر عليه، بل يبخل ويكدى ويمنع.
فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة بل طبعه التولي عن الطاعة، وعدم الثبوت على فعل المعروف، ومع هذا، فهو يزكي نفسه، وينزلها غير منزلتها التي أنزلها الله بها.
{ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } الغيب ويخبر به، أم هو متقول على الله، متجرئ على الجمع بين الإساءة والتزكية كما هو الواقع، لأنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب، وأنه لو قدر أنه ادعى ذلك فالإخبارات القاطعة عن علم الغيب التي على يد النبي المعصوم، تدل على نقيض قوله، وذلك دليل على بطلانه.
{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } هذا المدعي { بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } أي: قام بجميع ما ابتلاه الله به، وأمره به من الشرائع وأصول الدين وفروعه، وفي تلك الصحف أحكام كثيرة من أهمها ما ذكره الله بقوله: { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } أي: كل عامل له عمله الحسن والسيئ، فليس له من عمل غيره وسعيهم شيء، ولا يتحمل أحد عن أحد ذنبا
{ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } في الآخرة فيميز حسنه من سيئه، { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } أي: المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى، والسيئ الخالص بالسوأى، والمشوب بحسبه، جزاء تقر بعدله وإحسانه الخليقة كلها، وتحمد الله عليه، حتى إن أهل النار ليدخلون النار، وإن قلوبهم مملوءة من حمد ربهم، والإقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم، وأنهم الذين أوصلوا أنفسهم وأوردوها شر الموارد، وقد استدل بقوله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } من يرى أن القرب لا يفيد إهداؤها للأحياء ولا للأموات قالوا لأن الله قال: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَا سَعَى } فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك، وفي هذا الاستدلال نظر، فإن الآية إنما تدل على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه، وهذا حق لا خلاف فيه، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره، إذا أهداه ذلك الغير له، كما أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده، ولا يلزم من ذلك، أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه.
وقوله: { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } أي: إليه تنتهي الأمور، وإليه تصير الأشياء والخلائق بالبعث والنشور، وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكم، والرحمة وسائر الكمالات.
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } أي: هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء، وهو الخير والشر، والفرح والسرور والهم [والحزن]، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك،
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي: هو المنفرد بالإيجاد والإعدام، والذي أوجد الخلق وأمرهم ونهاهم، سيعيدهم بعد موتهم، ويجازيهم بتلك الأعمال التي عملوها في دار الدنيا.
{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ } فسر الزوجين بقوله: { الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } وهذا اسم جنس شامل لجميع الحيوانات، ناطقها وبهيمها، فهو المنفرد بخلقها، { مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } وهذا من أعظم الأدلة على كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة، حيث أوجد تلك الحيوانات، صغيرها وكبيرها من نطفة ضعيفة من ماء مهين، ثم نماها وكملها، حتى بلغت ما بلغت، ثم صار الآدمي منها إما إلى أرفع المقامات في أعلى عليين، وإما إلى أدنى الحالات في أسفل سافلين.
ولهذا استدل بالبداءة على الإعادة، فقال: { وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى } فيعيد العباد من الأجداث، ويجمعهم ليوم الميقات، ويجازيهم على الحسنات والسيئات.
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } أي: أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب، من الحرف وغيرها، وأقنى أي: أفاد عباده من الأموال بجميع أنواعها، ما يصيرون به مقتنين لها، ومالكين لكثير من الأعيان، وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى وهذا يوجب للعباد أن يشكروه، ويعبدوه وحده لا شريك له
{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } وهي النجم المعروف بالشعرى العبور، المسماة بالمرزم، وخصها الله بالذكر، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم مما عبد في الجاهلية، فأخبر تعالى أن جنس ما يعبده المشركون مربوب مدبر مخلوق،
فكيف تتخذ إلها مع الله
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى } وهم قوم هود عليه السلام، حين كذبوا هودا، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية
{ وَثَمُودَ } قوم صالح عليه السلام، أرسله الله إلى ثمود فكذبوه، فبعث الله إليهم الناقة آية، فعقروها وكذبوه، فأهلكهم الله تعالى، { فَمَا أَبْقَى } منهم أحدا، بل أهلكهم الله عن آخرهم
{ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } من هؤلاء الأمم، فأهلكهم الله وأغرقهم في اليم
{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ } وهم قوم لوط عليه السلام { أَهْوَى } أي: أصابهم الله بعذاب ما عذب به أحدا من العالمين، قلب أسفل ديارهم أعلاها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
ولهذا قال: { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } أي: غشيها من العذاب الأليم الوخيم ما غشى أي: شيء عظيم لا يمكن وصفه.
{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } أي: فبأي: نعم الله وفضله تشك أيها الإنسان؟ فإن نعم الله ظاهرة لا تقبل الشك بوجه من الوجوه، فما بالعباد من نعمة إلا منه تعالى، ولا يدفع النقم إلا هو.
{ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى } أي: هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله، ليس ببدع من الرسل، بل قد تقدمه من الرسل السابقين، ودعوا إلى ما دعا إليه، فلأي شيء تنكر رسالته؟ وبأي حجة تبطل دعوته؟
أليست أخلاقه [أعلا] أخلاق الرسل الكرام، أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر؟ ألم يأت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل الكرام؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين؟
{ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ } أي: قربت القيامة، ودنا وقتها، وبانت علاماتها. { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي: إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به.
ثم توعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم، فقال: { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } ؟ أي: أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلام وأفضله و
ه تتعجبون منه، وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة الخارقة للأمور [والحقائق] المعروفة؟ هذا من جهلهم وضلالهم وعنادهم، وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق، وإذا قال قولا فهو القول الفصل الذي ليس بالهزل، وهو القرآن العظيم، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، الذي يزيد ذوي الأحلام رأيا وعقلا، وتسديدا وثباتا، وإيمانا ويقينا والذي ينبغي العجب من عقل من تعجب منه، وسفهه وضلاله.
{ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ } أي: تستعملون الضحك والاستهزاء به، مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون،
سماعا لأمره ونهيه، وإصغاء لوعده ووعيده، والتفاتا لأخباره الحسنة الصادقة
{ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } أي: غافلون عنه، لاهون عن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وأديانكم فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب، ولهذا قال تعالى: { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } الأمر بالسجود لله خصوصا، ليدل ذلك على فضله وأنه سر العبادة ولبها، فإن لبها الخشوع لله والخضوع له، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد فإنه يخضع قلبه وبدنه، ويجعل
أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام. ثم أمر بالعبادة عموما، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.
تم تفسير سورة النجم، و
الذي لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وصلى الله على محمد وسلم تسليما كثيرا.