10- تفسير سورة يونس عدد آياتها 109 ( آية 76-109 )
مكية
{ 76 ْ} { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ْ}
الذي هو أكبر أنواع الحق وأعظمها، وهو من عند الله الذي خضعت لعظمته الرقاب، وهو رب العالمين، المربي جميع خلقه بالنعم.
فلما جاءهم الحق من عند الله على يد موسى، ردوه فلم يقبلوه، و { قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ْ} لم يكفهم - قبحهم الله - إعراضهم ولا ردهم إياه، حتى جعلوه أبطل الباطل، وهو السحر: الذي حقيقته التمويه، بل جعلوه سحرًا مبينًا، ظاهرًا، وهو الحق المبين. ولهذا { قَالَ ْ} لهم { مُوسَى ْ} - موبخا لهم عن ردهم الحق، الذي لا يرده إلا أظلم الناس:- { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ ْ} أي: أتقولون إنه سحر مبين.
{ أَسِحْرٌ هَذَا ْ} أي: فانظروا وصفه وما اشتمل عليه، فبمجرد ذلك يجزم بأنه الحق. { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ْ} لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فانظروا لمن تكون له العاقبة، ولمن له الفلاح، وعلى يديه النجاح. وقد علموا بعد ذلك وظهر لكل أحد أن موسى عليه السلام هو الذي أفلح، وفاز بظفر الدنيا والآخرة.
{ 78 ْ} { قَالُوا ْ} لموسى رادين لقوله بما لا يرده: { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ْ} أي: أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا، من الشرك وعبادة غير الله، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام.
وقولهم : { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ْ} أي: وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء، ولتخرجونا من أرضنا. وهذا تمويه منهم، وترويج على جهالهم، وتهييج لعوامهم على معاداة موسى، وعدم الإيمان به.
وهذا لا يحتج به، من عرف الحقائق، وميز بين الأمور، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين.
وأما من جاء بالحق، فرد قوله بأمثال هذه الأمور، فإنها تدل على عجز موردها، عن الإتيان بما يرد القول الذي جاء خصمه، لأنه لو كان له حجة لأوردها، ولم يلجأ إلى قوله: قصدك كذا، أو مرادك كذا، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه، أم كاذبًا، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كل من عرف حاله، وما يدعو إليه، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض، وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين، هداية الخلق، وإرشادهم لما فيه نفعهم.
ولكن حقيقة الأمر، كما نطقوا به بقولهم: { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ْ} أي: تكبرًا وعنادًا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون.
{ 79 } { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } معارضًا للحق، الذي جاء به موسى، ومغالطًا لملئه وقومه: { ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } أي: ماهر بالسحر، متقن له. فأرسل في مدائن مصر، من أتاه بأنواع السحرة، على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم.
{ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ } للمغالبة مع موسى { قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ } أي: أي شيء أردتم، لا أعين لكم شيئًا، وذلك لأنه جازم بغلبته، غير مبال بهم، وبما جاءوا به.
{ فَلَمَّا أَلْقَوْا } حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات تسعى، فـ { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ } أي: هذا السحر الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته { إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟!!
وهكذا كل مفسد عمل عملاً، واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روجان في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق.
وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم.
{ 82 } { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } فألقي السحرة سجدًا حين تبين لهم الحق. فتوعدهم فرعون بالصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم.
وأما فرعون وملؤه، وأتباعهم، فلم يؤمن منهم أحد، بل استمروا في طغيانهم يعمهون.
ولهذا قال: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } أي: شباب من بني إسرائيل، صبروا على الخوف، لما ثبت في قلوبهم الإيمان.
{ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } عن دينهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ } أي: له القهر والغلبة فيها، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته.
{ و } خصوصًا { إِنَّهُ } كان { لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } أي: المتجاوزين للحد، في البغي والعدوان.
والحكمة -والله أعلم- بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أن الذرية والشباب، أقبل للحق، وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ممن تربى على الكفر فإنهم -بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة- أبعد من الحق من غيرهم.
{ 84 } { وَقَالَ مُوسَى } موصيًا لقومه بالصبر، ومذكرًا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال: { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } فقوموا بوظيفة الإيمان.
{ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } أي: اعتمدوا عليه، والجؤوا إليه واستنصروه.
{ 85 } { فَقَالُوا } ممتثلين لذلك { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي: لا تسلطهم علينا، فيفتنونا، أو يغلبونا، فيفتتنون بذلك، ويقولون: لو كانوا على حق لما غلبوا.
{ 86 } { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } لنسلم من شرهم، ولنقيم [على] ديننا على وجه نتمكن به من إقامة شرائعه، وإظهاره من غير معارض، ولا منازع.
{ 87 } { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ } حين اشتد الأمر على قومهما، من فرعون وقومه، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم.
{ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } أي: مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا، يتمكنون ]به[ من الاستخفاء فيها.
{ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي: اجعلوها محلا، تصلون فيها، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس، والبيع العامة.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } فإنها معونة على جميع الأمور، { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والتأييد، وإظهار دينهم، فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا، وحين اشتد الكرب، وضاق الأمر، فرجه الله ووسعه.
فلما رأى موسى، القسوة والإعراض من فرعون وملئه ، دعا عليهم وأمن هارون على دعائه، فقال:
{ 88 } { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً } يتزينون بها من أنواع الحلي والثياب، والبيوت المزخرفة، والمراكب الفاخرة، والخدام، { وَأَمْوَالًا } عظيمة { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ } أي: إن أموالهم لم يستعينوا بها إلا على الإضلال في سبيلك، فيضلون ويضلون.
{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } أي: أتلفها عليهم: إما بالهلاك، وإما بجعلها حجارة، غير منتفع بها.
{ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي: قسها { فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }
قال ذلك، غضبًا عليهم، حيث تجرؤوا على محارم الله، وأفسدوا عباد الله، وصدوا عن سبيله، ولكمال معرفته بربه بأن الله سيعاقبهم على ما فعلوا، بإغلاق باب الإيمان عليهم.
{ 89 } { قَالَ } الله تعالى { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } هذا دليل على أن موسى، [كان] يدعو، وهارون يؤمن على دعائه، وأن الذي يؤمن، يكون شريكا للداعي في ذلك ال
.
{ فَاسْتَقِيمَا } على دينكما، واستمرا على دعوتكما، { وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي: لا تتبعان سبيل الجهال الضلال، المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم، فأمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلاً، وأخبره أنهم يتبعون، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين يقولون: { إِنَّ هَؤُلَاءِ } أي: موسى وقومه: { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }
فجمع جنوده، قاصيهم ودانيهم، فأتبعهم بجنوده، بغيًا وعدوًا أي: خروجهم باغين على موسى وقومه، ومعتدين في الأرض، وإذا اشتد البغي، واستحكم الذنب، فانتظر العقوبة.
{ 90 } { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } وذلك أن الله أوحى إلى موسى، لما وصل البحر، أن يضربه بعصاه، فضربه، فانفلق اثنى عشر طريقًا، وسلكه بنو إسرائيل، وساق فرعون وجنوده خلفه داخلين.
فلما استكمل موسى وقومه خارجين من البحر، وفرعون وجنوده داخلين فيه، أمر الله البحر فالتطم على فرعون وجنوده، فأغرقهم، وبنو إسرائيل ينظرون.
حتى إذا أدرك فرعون الغرق، وجزم بهلاكه { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } وهو الله الإله الحق الذي لا إله إلا هو { وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى.
{ 91 } قال الله تعالى - مبينا أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له-: { آلْآنَ } تؤمن، وتقر برسول الله { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } أي: بارزت بالمعاصي، والكفر والتكذيب { وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله، أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم، لأن إيمانهم، صار إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع، إنما هو الإيمان بالغيب.
{ 92 } { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً }
قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما في قلوبهم من الرعب العظيم، من فرعون، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه، وشكوا في ذلك، فأمر الله البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه، ليكون لهم عبرة وآية.
{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها، لعدم إقبالهم عليها.
وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به الرسل.
{ 93 } { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ }
أي: أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون، وأورثهم أرضهم وديارهم.
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من المطاعم والمشارب وغيرهما { فَمَا اخْتَلَفُوا } في الحق { حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } الموجب لاجتماعهم وائتلافهم، ولكن بغى بعضهم على بعض، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق، فحصل بينهم من الاختلاف شيء كثير.
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام، وقدرته الشاملة، وهذا هو الداء، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح.
وهو: أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية، سعى في التحريش بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك، ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض، وعداوة بعضهم لبعض، ما هو قرة عين اللعين.
وإلا فإذا كان ربهم واحدًا، ورسولهم واحدًا، ودينهم واحدًا، ومصالحهم العامة متفقة، فلأي شيء يختلفون اختلافًا يفرق شملهم، ويشتت أمرهم، ويحل رابطتهم ونظامهم، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت، ويموت من دينهم، بسبب ذلك ما يموت؟.
فنسألك اللهم، لطفًا بعبادك المؤمنين، يجمع شملهم ويرأب صدعهم، ويرد قاصيهم على دانيهم، يا ذا الجلال والإكرام.
{ 94 - 95 } { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ } هل هو صحيح أم غير صحيح؟.
{ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } أي: اسأل أهل الكتب المنصفين، والعلماء الراسخين، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به، وموافقته لما معهم، فإن قيل: إن كثيرًا من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول الله وعاندوه، وردوا عليه دعوته.
والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به، وبرهانًا على صدقه، فكيف يكون ذلك؟
فالجواب عن هذا، من عدة أوجه:
منها: أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة، أو أهل مذهب، أو بلد ونحوهم، فإنها إنما تتناول العدول الصادقين منهم.
وأما من عداهم، فلو كانوا أكثر من غيرهم فلا عبرة فيهم، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين، كـ "عبد الله بن سلام" [وأصحابه وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، ومن بعده] و "كعب الأحبار" وغيرهما.
ومنها: أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه.
فإذا كان موجودًا في التوراة، ما يوافق القرآن ويصدقه، ويشهد له بالصحة، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك، لم يقدح بما جاء به الرسول.
ومنها: أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه، وأظهر ذلك وأعلنه على رءوس الأشهاد.
ومن المعلوم أن كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله، لأبدوه وأظهروه وبينوه، فلما لم يكن شيء من ذلك، كان عدم رد المعادي، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه.
ومنها: أنه ليس أكثر أهل الكتاب، رد دعوة الرسول، بل أكثرهم استجاب لها، وانقاد طوعًا واختيارًا، فإن الرسول بعث وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل كتاب .
فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام، ومصر، والعراق، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب، ولم يبق إلا أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق، ومن تبعهم من العوام الجهلة، ومن تدين بدينهم اسمًا لا معنى، كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل، وإنما انتسبوا للدين المسيحي، ترويجًا لملكهم، وتمويهًا لباطلهم، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة.
وقوله: { لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ } أي: الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال: { مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } كقوله تعالى: { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ }
(95) { وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين: الشك في هذا القرآن والامتراء فيه.
وأشد من ذلك، التكذيب به، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه، ورتب على هذا الخسار، وهو عدم الربح أصلاً، وذلك بفوات الثواب في الدنيا والآخرة، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة، والنهي عن الشيء أمر بضده، فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن، وطمأنينة القلب إليه، والإقبال عليه، علمًا وعملاً.
فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب، وأفضل الرغائب، وأتم المناقب، وانتفى عنهم الخسار.
{ 96 - 97 } { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }
يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي: إنهم من الضالين الغاوين أهل النار، لا بد أن يصيروا إلى ما قدره الله وقضاه، فلا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية، فلا تزيدهم الآيات إلا طغيانا، وغيا إلى غيهم.
وما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق، لما جاءهم أول مرة، فعاقبهم الله، بأن طبع على قلوبهم وأسماعهم، وأبصارهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، الذي وعدوا به.
فحينئذ يعلمون حق اليقين، أن ما هم عليه هو الضلال، وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحق. ولكن في وقت لا يجدي عليهم إيمانهم شيئًا، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم، ولا هم يستعتبون، وأما الآيات فإنها تنفع من له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
{ 98 } { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
يقول تعالى: { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ْ} من قرى المكذبين { آمَنَتْ ْ} حين رأت العذاب { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ْ} أي: لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه، حين رأى العذاب، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبًا، لما قال: { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ} فقيل له { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ْ}
وكما قال تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ْ}
وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا ْ}
والحكمة في هذا ظاهرة، فإن الإيمان الاضطراري، ليس بإيمان حقيقة، ولو صرف عنه العذاب والأمر الذي اضطره إلى الإيمان، لرجع إلى الكفران.
وقوله: { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ْ} بعدما رأوا العذاب، { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} فهم مستثنون من العموم السابق.
ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة، لم تصل إلينا، ولم تدركها أفهامنا.
قال الله تعالى: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ْ} إلى قوله: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} ولعل الحكمة في ذلك، أن غيرهم من المهلكين، لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
وأما قوم يونس، فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر، [بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه] والله أعلم.
{ 99 - 100 } { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ْ} بأن يلهمهم الإيمان، ويوزع قلوبهم للتقوى، فقدرته صالحة لذلك، ولكنه اقتضت حكمته أن كان بعضهم مؤمنين، وبعضهم كافرين.
{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ْ} أي: لا تقدر على ذلك، وليس في إمكانك، ولا قدرة لغير الله [على] شيء من ذلك.
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ْ} أي: بإرادته ومشيئته، وإذنه القدري الشرعي، فمن كان من الخلق قابلاً لذلك، يزكو عنده الإيمان، وفقه وهداه.
{ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ْ} أي: الشر والضلال { عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ْ} عن الله أوامره ونواهيه، ولا يلقوا بالا لنصائحه ومواعظه.
{ 101 - 103 } { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ }
يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السماوات والأرض، والمراد بذلك: نظر الفكر والاعتبار والتأمل، لما فيها، وما تحتوي عليه، والاستبصار، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وعبرًا لقوم يوقنون، تدل على أن الله وحده، المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام، والأسماء والصفات العظام.
{ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ْ} فإنهم لا ينتفعون بالآيات لإعراضهم وعنادهم.
{ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ْ} أي: فهل ينتظر هؤلاء الذين لا يؤمنون بآيات الله، بعد وضوحها، { إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ْ} أي: من الهلاك والعقاب، فإنهم صنعوا كصنيعهم وسنة الله جارية في الأولين والآخرين.
{ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ْ} فستعلمون من تكون له العاقبة الحسنة، والنجاة في الدنيا والآخرة، وليست إلا للرسل وأتباعهم.
ولهذا قال: { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ْ} من مكاره الدنيا والآخرة، وشدائدهما.
{ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا ْ} أوجبناه على أنفسنا { نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ْ} وهذا من دفعه عن المؤمنين، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإنه -بحسب ما مع العبد من الإيمان- تحصل له النجاة من المكاره.
{ 104 - 106 } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين، وإمام المتقين وخير الموقنين: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ْ} أي: في ريب واشتباه، فإني لست في شك منه، بل لدي العلم اليقيني أنه الحق، وأن ما تدعون من دون الله باطل، ولي على ذلك، الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة.
ولهذا قال: { فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ} من الأنداد، والأصنام وغيرها، لأنها لا تخلق ولا ترزق، ولا تدبر شيئًا من الأمور، وإنما هي مخلوقة مسخرة، ليس فيها ما يقتضي عبادتها.
{ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ْ} أي: هو الله الذي خلقكم، وهو الذي يميتكم، ثم يبعثكم، ليج
م بأعمالكم، فهو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويخضع ويسجد.
{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ْ} أي: أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله، وأقم جميع شرائع الدين حنيفًا، أي: مقبلاً على الله، معرضًا عما سواه، { وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ْ} لا في حالهم، ولا تكن معهم.
(106) { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ْ} وهذا وصف لكل مخلوق، أنه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع الضار، هو الله تعالى.
{ فَإِنْ فَعَلْتَ ْ} بأن دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك { فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ْ} أي: الضارين أنفسهم بإهلاكها، وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ْ} فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره؟!!
{ 107 } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع الضار، المعطي المانع، الذي إذا مس بضر، كفقر ومرض، ونحوها { فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } لأن الخلق، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا، لم يقدروا على شيء من ضرره، إذا لم يرده الله، ولهذا قال: { وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } أي: لا يقدر أحد من الخلق، أن يرد فضله وإحسانه، كما قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }
{ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي: يختص برحمته من شاء من خلقه، والله ذو الفضل العظيم، { وَهُوَ الْغَفُورُ } لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته، ثم إذا فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها، وصغارها.
{ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغنى عن إحسانه، طرفة عين، فإذا عرف العبد بالدليل القاطع، أن الله، هو المنفرد بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات، وأن أحدًا من الخلق، ليس بيده من هذا شيء إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.
ولهذا -لما بين الدليل الواضح قال بعده:-
{ 108 - 109 } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }
أي: { قُلْ } يا أيها الرسول، لما تبين البرهان { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: الخبر الصادق المؤيد بالبراهين، الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه، وهو واصل إليكم من ربكم الذي من أعظم تربيته لكم، أن أنزل إليكم هذا القرآن الذي فيه تبيان لكل شيء، وفيه من أنواع الأحكام والمطالب الإلهية والأخلاق المرضية، ما فيه أعظم تربية لكم، وإحسان منه إليكم، فقد تبين الرشد من الغي، ولم يبق لأحد شبهة.
{ فَمَنِ اهْتَدَى } بهدى الله بأن علم الحق وتفهمه، وآثره على غيره فلِنَفْسِهِ والله تعالى غني عن عباده، وإنما ثمرة أعمالهم راجعة إليهم.
{ وَمَنْ ضَلَّ } عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق، أو عن العمل به، { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ولا يضر الله شيئًا، فلا يضر إلا نفسه.
{ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها، وإنما أنا لكم نذير مبين، والله عليكم وكيل. فانظروا لأنفسكم، ما دمتم في مدة الإمهال.
{ وَاتَّبَعَ } أيها الرسول { مَا يُوحَى إِلَيْكَ } علمًا، وعملاً، وحالاً، ودعوة إليه، { وَاصْبِرْ } على ذلك، فإن هذا أعلى أنواع الصبر، وإن عاقبته حميدة، فلا تكسل، ولا تضجر، بل دم على ذلك، واثبت، { حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ } بينك وبين من كذبك { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } فإن حكمه، مشتمل على العدل التام، والقسط الذي يحمد عليه.
وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، وثبت على الصراط المستقيم، حتى أظهر الله دينه على سائر الأديان، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان، بعد ما نصره [الله] عليهم، بالحجة والبرهان، فلله الحمد، والثناء الحسن، كما ينبغي لجلاله، وعظمته، وكماله وسعة إحسانه.
تم تفسير سورة يونس
و
رب العالمين.