للغة العربية الفصحى لغة حضارة وفكر وتاريخ وقد شرّفها الله سبحانه وتعالى بأن جعلها لغة قرآنه الكريم. وقد تمتعت بخصائص كوّنت شخصيتها العلمية والمنطقية بين لغات العالم الأخرى التي سبقتها تاريخاً وتعاصرت معها حضارة ولعل من أبرز هذه السمات ظاهرة الإعراب والجرس والإيقاع ودلالته على المعنى، والاشتراك والترادف والتضاد والنحت والاشتقاق، ورحابة صدرها في تقبل الألفاظ الأجنبية أو ما يسمى بالاقتراض فضلاً عن منطقية نحوها وصرفها ونظام تقاليب ألفاظها وثراء مفرداتها ودقتها في التعبير عن المعنى المراد التعبير عنه. فهي لغة متطورة بقياسها وسماعها. إنها لغة علمية ولغة أدبية شاعرة، كما يظهر ذلك في شعرها ونثرها على مرّ العصور والأجيال.
يحاول هذا البحث دراستها لغة شعرية أغنت التجربة الشعرية العربية وما زالت بكل ما تحمل من هذه الخصائص والسمات التي أبرزت وجهها البلاغي والفني والجمالي.
(2)
يستهل سيبويه (المتوفى سنة 180هـ) كتابه بباب الاستقامة من الكلام والإحالة، متحدثاً عن أنواع الكلام أو الجملة العربية بوصفها وحدة التعبير في التجربة الأدبية فيرى أن الكلام "منه مستقيم حسن ومحال ومستقيم كذب ومستقيم قبيح وما هو محال كذب. فأما المستقيم الحسن فقولك "أتيتك أمس وسآتيك غداً" وأما المحال فإن تنقض أول كلامك بآخره فتقول: "أتيتك غداً وسآتيك أمس". وأما المستقيم الكذب فقولك "حملت الجبل وشربت ماء البحر" ونحوه. وأما المستقيم القبيح فإن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: "قد زيداً رأيت" و "كي زيد يأتيك" وأشباه هذا. وأما المحال الكذب فأن تقول "سوف أشرب ماء البحر أمسِ"(([1])).
إن هذا التقسيم الخماسي للكلام أو الجملة لهو دليل على نضج الوعي الدلالي وريادته عند العرب الأوائل في هذا الميدان اللغوي الذي يُعدّ حديثاً معاصراً بنظر كثير من الباحثين في علم اللسان.
إن النوع الثالث من الكلام أو الجملة وهو (المستقيم الكذب) يؤلف الوجه المجازي والبلاغي في التعبير الشعري وهو الوجه الذي يُعَدّ نواة الصورة الشعرية المعتمدة على بناء نحوي مستقيم والموحية بالتأمل وبعد الخيال في استعمال المجاز بمعناه البلاغي –الجمالي العام ولا سيما في الحديث عن اللغة الشعرية بوصفها الوجه المشرق للتعبير الفني ولما كان الشعر فناً لغوياً ونشاطاً إبداعياً خلاقاً، ارتبط بالطبيعة الإنسانية التي لا يمكن إدراكها إلا عن طريق اللغة. والشعر قديم قدم اللغة وبعيداً عن التعمق والغوص في نظريات أصل اللغة، يمكن قبول الرأي المعروف وهو أن الشكل الجوهري للغة، أية لغة، هو المتعلق بالتعبير عن العاطفة والشعور كالخوف والغضب والرغبة واللذة وحينما تنتظم اللغة أو يصبح لها نظام يُميّزها من غيرها يظهر الشعر فناً لغوياً يمهد السبيل إلى التمتع باللغة وهو الأساس الذي يستند إليه حب الشعر بين لغات العالم جميعها ومنها اللغة العربية الغنية بهذا الفن إبداعاً والعريقة به تاريخاً. فالشعر يولد من الوعي المنظم للغة، أي أنه ينشأ من داخل اللغة التي تعد الوسيلة المعبّرة عن أفكار الناس وعواطفهم سواءٌ أكانت تلك الأفكار عميقة
في دلالاتها أم بسيطة ولهذا السبب عُدّ الشعر تعبيراً رفيعاً بمقاييس اللغة(([2])) إذ من الصعوبة بمكان الاعتقاد بأن الشعر يمكن خلقه أو صنعه من أي شيء آخر إلا من اللغة.
(3)
برزت فكرة (اللغة الشعرية أو البيان الشعري Poetic Diction ) في أوربا في القرن الثامن عشر أكد بعض الشعراء أن لغة الشعر هي لغة متخصصة وتسمو على اللغة الاعتيادية، المألوفة، في حين رفض آخرون الاعتراف بوجود فروق جوهرية بين لغة النثر ولغة الشعر. ويرى معظم النقاد، نقاد الشعر، إن اللغة هي بؤرة الاهتمام النقدي، اللغة تحدد شخصية الشعر والأصوات التي يتبناها الشاعر. فالشعر يختلف عن غيره من التعابير وذلك في قدرته على خلق سياقه (Contex) الخاص به للتحدث مع أي صوت. فالشعر يستطيع انتقاء ألفاظه من أي أسلوب لغوي، سواء أكان أدبياً أم غير ذلك. وحين تستعمل الألفاظ في القصيدة/ الشعر فإنها تستعمل لتحديد المواقف أو بعض وجهات النظر أكثر من استعمال تلك الألفاظ في اللغة اليومية، أي أنها في اللغة الشعرية أكثر دقة وتحديداً(([3])).
إن اللفظة أو العبارة حين تستعمل في أنماط ثابتة في القصيدة، فإن تأثيرها سيعتمد كثيراً على حركة تلك اللفظة أو الألفاظ في داخل تلك الأنماط أو الأبنية، علماً أن الطاقة الشعرية Poetic Power تعتمد اعتماداً فنياً وجمالياً على العلاقة القائمة بين الألفاظ خارج الاستعمال الشعري والألفاظ حين تصير شعرية، أي أن اللغة من خلال ألفاظها المنفردة خارج الاستعمال الشعري/ اللغة خارج القصيدة، قد تختلف عن اللغة من خلال ألفاظها ذوات العلاقة والأنساق والانسجام داخل الاستعمال الشعري/ اللغة داخل القصيدة حيث تتكون الصورة الشعرية بمعناها البلاغي-الجمالي. فاللغة الأولى: معجمية تهتم بالدلالة المعنوية في الألفاظ وتطورها في الاستعمال وهي أقرب إلى الثبات والاستقرار، في حين تعد اللغة الثانية لغة انفعالية رمزية أقرب إلى الحركة أو قل لغة شعرية لأنها تستثمر اللفظة جنساً وبناء مقطعياً وقيمة صوتية وقدرة إيقاعية من خلال معناها وجرسها داخل الصورة الشعرية أي في نسيجها البلاغي-الجمالي، حيث يكون للطباق والجناس والتشبيه والاستعارة والتورية والكناية والمجاز، دور فاعل ومؤثر في خلق الاستجابة عند المتلقي.
فاستجابة المتلقي للغة المعجمية استجابة علمية محددة بمعنى أو معاني اللفظة الواحدة معجمياً في حين تكون استجابته للغة الشعرية استجابة بلاغية وفنية وجمالية تحقق المتعة بهذا الأثر الشعري أو ذاك. ومن هنا تكون الطاقة الشعرية أكثر قوة وإبداعاً من خلال استعمالها لهذه اللغة ليس بوصفها مجرد تراكيب وألفاظ حسب، بل هي بناء شعري مترابط في علاقات ألفاظه بعضها ببعضها الآخر من حيث المعنى والنسق والانسجام. فالعلاقة بين اللغة والشعر تتجلى في قدرة الألفاظ بدلالاتها المعنوية على تحقيق التناسب.
فالمضمون بلغة الشعر هو مجموعة الألفاظ المسلم بدلالاتها المعجمية خارج القصيدة وبدلالاتها الفنية داخل القصيدة وهنا تبرز قدرة الناقد في كشف الخصائص الموضوعية أو المضمونية للعمل الأدبي عامة والعمل الشعري خاصة.
إن مثل هذا الاهتمام المضموني باللغة الشعرية قد مهد السبيل إلى ظهور ما يسمى بمنهج "الشرح النصي" داخل القصيدة محللاً تحليلاً دقيقاً الخصائص المعجمية والنحوية بما فيها المحسنات البديعية والأصول الإيقاعية للنص الشعري دونما إغفال لانعكاسات هذه الخصائص من حيث المعنى الرمزي أو الانفعالي والتوافق الموسيقي أو الإيقاعي والوعي واللاوعي في البحث عن قيمة النص الجمالية من خلال لغته في التعبير وصولاً إلى بناء أسلوب شعري يميّز هذا الشاعر من غيره على الرغم من اختلاف الأزمنة والأمكنة أو الأقاليم الشعرية التي ينتمي إليها هذا الشاعر أو ذاك، نظراً لأن أصول اللغة الشعرية ومبادئها المختلفة متداخلة بعضها ببعض تداخلاً وثيقاً له أهميته في أية دراسة تبحث عن: كيف يعمل الشعر من خلال ألفاظه الحسية والمعنوية والتجريدية أو الرمزية. فأسلوب الصوت (sound style) على سبيل المثال هو البحث في قدرة الشاعر على استثمار ما تحمله ألفاظه من جرس وإيقاع في رسم صوره التي تبقى متميزة في لغته الانفعالية. إذ أن التعبير عن الواقع الذي يستمد منه الشاعر مضامينه وموضوعاته قد يكون تعبيراً غير شعري وهو ما يسمى بالصورة النثرية أو الخطابية أو التقريرية حيث تستبد الحقيقة في هذا التعبير وتتجاوز المجاز، أو تعبيراً شعرياً وهو ما يسمى بالصورة الشعرية الغامضة أو المعقدة في بعض الأحيان حيث يستبد المجاز بالتعبير ويتجاوز الحقيقة وهذا يعني أن الصورة النثرية قريبة من اللغة خارج القصيدة وإن الصورة الشعرية قريبة من اللغة داخل القصيدة. فاللغة الشعرية متعددة الوجوه في التعبير عن أي مضمون سواء أكان هذا التعبير واضحاً الوضوح كله بلا معاناة في الفهم وهو الوضوح الفني الذي يُعدّ سمة جمالية من سمات الأسلوب الشعري الناجح أم كان غامضاً الغموض كله بمعاناة في الفهم وهو الغموض الفني الذي يعدّ أيضاً سمة جمالية من سمات الأسلوب الشعري الناجح ويجب أن لا ننسى أن الوضوح الفني والغموض الفني هما وجهان مشرقان من وجوه اللغة الشعرية/ داخل القصيدة. فقد قيل إن "مهمة الشعر الخاصة هي أن يوفر لأقوى ما في اللغة ولأخفى وأغمض ما في العالم مكاناً للقاء خافت وغامض"(([4])). ومن هنا برز الفرق بين التحليل النحوي واللغوي والفني في القصيدة الواحدة إذ أن الصورة الشعرية الموفقة بمقياس النقد الفني هي التكافؤ والتعادل بين الحقيقة والمجاز من دون أن يستبد واحد منهما في التعبير متجاوزاً الآخر من الناحية البلاغية والجمالية وبذلك تصير الصورة معياراً نقدياً للمفاضلة بين الشعراء، ورحم الله ابن قتيبة (المتوفى سنة 276هـ) حين قال: "لله درّ الشاعر من أنت في شعره حتى تفرغ منه". معبراً عما يشبه هذا المعيار.
فالشاعر قد يتطلب من القارئ مجهوداً كبيراً، بل إن أعظم الشعراء يتطلبون من القراء أن يبذلوا أكبر جهد ممكن، ولكن طلب الشعراء هذا يجب أن يتناسب مع مقدار ما يبذلونه أنفسهم من جهد ومقدار ما يعطون القراء من نتائج قيّمة"(([5])).
(5)
إن طريقة التعبير أو الأسلوب في الشعر يعني عملية انتقاء واختيار الألفاظ في نسق لغوي-فني، أي في بناء البيت الشعري ويمكن تحليل هذه الطريقة أو الأسلوب لغوياً من خلال فحص واختبار المستوى اللغوي الذي تختار اللفظة على وفق أصوله وشروطه وانتمائه. فهناك مستويات لغوية في اختيار اللفظة في النص الأدبي عامة وفي النص الشعري خاصة. فهو إما مستوى التجريد أو مستوى لغة الكلام الرسمية أو الشكلية أو مستوى الشيوع والاصطلاحية أو المستوى الأدبي والجمالي. فمن المتفق عليه عموماً أن نوعيات الأسلوب الشعري الاعتيادي هي: التناسب والصواب والدقة أي أن الأسلوب الشعري يجب أن يكون مناسباً وصائباً ودقيقاً مضبوطاً من حيث التعبير. ويجب التمييز بين التعبير الشعري في علاقته باختيار الألفاظ والأسلوب في علاقته بالنسق الذي تستعمل فيه تلك الألفاظ. وطالما أن الشعر في كل عصر كان قد نظم أو كتب بلغة خاصة؛ تلك اللغة التي تشتمل على الكلمات والعبارات والأبنية النحوية والمحسنات البديعية التي تخلو منها اللغة العادية لذلك الوقت، برز مصطلح الشعرية التعبيرية لتعني الإشارة إلى الاستعمال البارع في اللغة الأدبية. وقد اختص مصطلح الشعرية التعبيرية بكتابات وآثار الكلاسيكيين- الجدد (Neo. Classical Writers) في أوربا، الذين ادعوا أن "لغة العصر لن تكون لغة الشعر". فكل جنس أدبي يتطلب مستوى معيناً من التعبير أو أسلوب التعبير أو لغة التعبير، فالهجاء والملحمة والمأساة (التراجيديا) والقصيدة الغنائية تتطلب أسلوباً تعبيرياً خاصاً من أجل إبراز الأسلوب انسجاماً مع شكل ذلك الجنس الأدبي، أي أن لكل –جنس أدبي لغته في التعبير، تلك اللغة التي يفترض أنها تنسجم مع الشكل المميز لذلك الجنس أسلوباً وتعبيراً. وقد هاجم الشاعر (وردزورث) في إنكلترا دعوة الكلاسيكيين-الجدد بخصوص الشعر التي يجب أن تكون لغة نقية بنظرهم، فذهب إلى الاعتقاد بأنه (لا يوجد فرق جوهري بين لغة النثر ولغة الشعر) وسمى اللغة الشعرية الكلاسيكية- الجديدة بأنها "لغة مصطنعة، فاسدة، وغير طبيعية" مؤكداً أهمية المشاعر والوجدان في التعبير الشعري المستمد من كلام أو لغة الحياة البسيطة والمتواضعة(([6])). وفي ضوء هذا الجدل الأدبي برز ما يسمى باللغة الشعرية واللغة الشعرية الطبيعية أو العفوية التي تحقق ما يسمى "بالانفعال الشعري"(([7])) وهو معيار جودة القصيدة من خلال الأشكال الشعرية للغتها.
فالقصيدة التي تخفق في خلق الانفعال الشعري عند متلقيها لهي قصيدة فاشلة بمعنى أنها رديئة" فما لم يكن متن الشعر حسناً عيناً فبطون الصحف أحمل لمؤونته من صدور عقلاء الرجال"(([8])) على حد تعبير أحد فقهاء العرب القدماء، والبحث في فشلها ورداءتها كالبحث في نجاحها وجودتها من حيث الاهتمام بلغة الجودة ولغة الرداءة على حد سواء، استعمالاً ودلالة وأسلوباً. فالفن الذي ولدت منه القصيدة أو الشعر هو "فن اللغة"، إذا صح هذا التعبير، ولا سيما فن اللغة الانفعالية/ داخل القصيدة. هذه اللغة التي تُعَدّ عند بعض الباحثين المعاصرين في أوربا "اللغة الشاذة" و"والشذوذ هو الذي يكسبها أسلوباً. فالشعرية هي علم الأسلوب الشعري."(([9]))
(6)
يؤكد تاريخ الفن الشعري منذ عصوره الأولى قبل الإسلام حتى العصر الحديث، إنه الوعاء الفني للغة العربية الحضارية بكل ما تتمتع به من خصائص بوأتها مكاناً رفيعاً بين لغات العالم الحيّة التي تعاصرت معها أو جاءت بعدها.
ويظهر ذلك بوضوح في سعة المعجم اللغوي واستيعاب مفرداته بوعي جمالي وتعبيري من خلال لغة شعرائه الفحول المبدعين. فاستخدام المفردة عند هؤلاء الشعراء يختلف أصالة وتقليداً فيما بينهم، فالصورة قد توحي بالغرابة والتبدي وبأنها مستوحاة من واقع شاعرها، كما هي الحال في الأراجيز القديمة ولا سيما عند الرجاز في العصر الأموي علماً أن استعمال المفردة اللغوية في القصيدة يخضع لقدرة الشاعر ومستوى وعيه اللغوي. فبشار وأبو نواس وأبو تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي والشريف الرضي والمعري وقبلهم وبعدهم شعراء كثيرون قد وعوا اللغة العربية الفصحى وتذوقوا مفرداتها وأحسنوا استخدامها في صورهم الشعرية استخداماً ينسجم مع فنهم الشعري، فأبو تمام انشغل في إبداع الصورة وتوليد المعاني الجديدة فاستخدم اللفظة في مجال المجاز إلى حد الاغراب أحياناً وكذا أبو الطيّب ونحن نجد في شعرهما الغريب وألوان المحسنات إلا أننا نجد أبا العلاء فاقهما بصورة ملفتة للنظر وكأنه كان يريد إظهار هذا التفوق ويعلن عنه في شعره ونثره. قال البطليوسي شارح سقط الزند "إنه أكثر فيه من الغريب والبديع ومزج المطبوع بالمطبوع؟ فتعقدت ألفاظه وبعدت أغراضه". وقد وصفه مترجموه بالشاعر اللغوي.(([10])).
قد ثار بعض الشعراء على قواعد اللغويين ولم يأبه لها أمثال الفرزدق وقصته مع عبد الله بن أبي اسحق النحوي معروفة، وهذا يعني أن الشاعر الفحل، الفصيح لغة وفناً يقتحم اللغة اقتحاماً صريحاً وجريئاً وبذلك يغني مفرداتها بدلالات جديدة حيث تنتعش اللفظة خارج القصيدة وداخلها.
وهذا المنظور يدلل على أن اللغة الانفعالية أو لغة القصيدة الداخلية أو من الداخل هي مصدر المتعة الجمالية وتبيان قيمة القصيدة فنياً وإن تجاوزنا في بعض الأحيان قواعد لغتها المتعاصرة معها. فإذا صحت مقولة (نورثروب فري) من أن القصيدة "ليست طبيعية في شكلها ولكنها تربط نفسها بالطبيعة بشكل طبيعي… فتكتسب طبيعة ثانية"(([11])) فإن لغة القصيدة الداخلية في مثل هذه الحالة هي الطبيعة الفنية الثانية التي تكتسبها القصيدة من خلال تفاعلها مع أحداث عصرها وثقافة شاعرها المتمثلة بصوره الشعرية البارعة والجديدة في ضوء معايير نقد الشعر السائدة في عصرها وبعد عصرها. ومثال ذلك صور أبي تمام (المتوفى 232هـ) التي ظن معاصروه أنها غريبة ولكن سرعان ما صارت مألوفة، محببة إلى نفس المتلقي؛ أي أنها اكتسبت طبيعة ثانية جعلت شاعرها فحلاً في هذا الميدان. فالشعر أوثق صلة بتاريخه وأشد اتصالاً بصوره. فالنقد الشكلي يشرح. والشرح عملية ترجمة ما تعنيه القصيدة ضمناً إلى لغة المحاكمة الفكرية الصريحة. ولا يحمل الشرح الجيد لطبيعة الحال القصيدة ما لا تحتمل من الأفكار: بل يقرأ ما فيها ويترجمه والأدلة التي توجد في القصيدة تقدم عن طريق دراسة بنية الصور التي يبدأ بها الشرح(([12])) وهذا يعني أن لغة الصورة أو مجموعة الصور داخل القصيدة هي بؤرة دراسة بنيتها أو هيكلها.
فالقصيدة هي فن استعمال الألفاظ التي تخلق بنية حيّة وانسجاماً فريداً من نوعه يحقق الاستجابة عند متلقيه من خلال تلك الألفاظ أو اللغة الشعرية التي تعكس شخصية الشاعر الثقافية بكل ما تحمل من وعي وإدراك واستيعاب وإحساس بثقافة عصره حيث ستؤول القصيدة، في ضوء هذا التصور إلى كون أو عالم مخلوق من كل هذه الأشياء التي عرفها وشعر بها ورآها وسمع بها وفكر بها انطلاقاً من الإحساس بتلك الثقافة اللغوية المتحركة والمتطورة. فما التشبيه والاستعارة والكناية والتورية والمجاز، إلا رموز لغوية-بلاغية تظهر مدى استيعاب الشاعر وعمق تأصله حين يحولها إلى صور جديرة بالتقدير والثناء بين جمهور من قراء أو مستمعين. والشاعر الفذ أو الفحل أو المفلق أو العظيم هو المبتكر للغة جديدة، لغة داخل القصيدة متمثلة ببراعة رسم الصور وإتقان استخدام الرمز من خلال خبرته وتجاربه العامة ولا سيما اللغوية منها. فتلخيص فكرة القصيدة لا يعني تشابهاً في فن قراءتها أي أن تلخيص القصيدة لا يعني قراءتها، لأن القراءة الشعرية قائمة في الأساس، على إدراك عميق باللغة الشعرية وقدرة على تحليلها. فالتحليل هو الفهم السليم لتلك القصيدة وهو بداية القراءة الجادة لها، علماً أن القراءة والفهم مترادفان. فإذا أخفقنا في فهم قصيدة ما، فالسبب لا بد من أن يكون ثمة اختلاف بين تجربة الشاعر أو خبرته وتجربتنا أو خبرتنا وبسبب هذا الاختلاف بين التجربتين والخبرتين قد نشتط بعيداً في فهم القصيدة وبذلك نبتعد عن لغة القصيدة الداخلية ولا سيما في محاولة ربطها باللغة خارج القصيدة. إذ أن الألفاظ وما يطرأ من تغيير في معناها أو معانيها بصورة جذرية هي من المشكلات القائمة والمشتركة التي تواجه قارئ القصيدة، فقد وصفت القصيدة بأنها "تعبير بكلمات تحتاج إلى بعض الألم في التعبير عن الشعور."(([13])).
وهذا يعني أن قراءة القصيدة من خلال لغتها الشعرية يجب النظر إليها على أنها عمل فني وليس عنصراً خاصاً به ومن هنا تبوأت الدراسة اللغوية والبلاغية والأسلوبية والإيقاعية- العروضية دوراً مهماً في مثل هذه القراءة النقدية. فقراءة الشعر فن رفيع ودقيق علماً أن قراءة تاريخ الشعر ودراسته بروح مناسبة وزمن مناسب مفيد في ذاته ومفيد لأنه وسيلة لمتابعة التطور في اللغة ومدى تأثير ذلك في فكر الإنسان المتلقي وشعوره.
فدراسة جزء من ثقافة العصر وجزء من المتعة الفنية تقودان إلى المعرفة وأخيراً يعدان مدخلاً للشعر في تقديرنا للشعر من خلال تطوره اللغوي. فاللغة ولا سيما اللغة الشعرية، تمنح الشاعر وسيلة في منتهى الدقة والقوة ممهدة السبيل إلى تقديم ما سمي "بالحقيقة الشعرية (poetic Truth) "(([14])) التي تمنح المتلقي دليلاً دقيقاً لاستيعاب تجربة الشاعر وخبرته لمثل تلك الحقيقة.
فالشعر هو الشكل الراقي والناضج فنياً للغة الانفعالية. إذ "هو أفضل الكلمات في أحسن نسق أو نظام"(([15])) على حد تعبير الشاعر (كوليردج) ناهيك عما تتمتع به تلك الكلمات أو الألفاظ من إيقاع داخلي أو خارجي. فالروح الشعرية تظهر بوضوح من خلال قدرة هذا الشاعر أو ذاك، أو موهبته اللغوية في اختيار ألفاظه وترتيبها في نسق وطريقة ما، في ضوء مفهومات الشعر وتحديداته وأشكاله في عصره، حيث تظهر معانيها بوضوح حيناً أو بغموض حيناً آخر بشكل خيالي-جمالي حيث يتكون الأسلوب الشعري الذي هو وليد لغة الشاعر على وفق تعمقه في ثقافته الموسوعية والتخصصية. فالجملة الفنية داخل نسيجها الشعري هي غاية الشاعر في التعبير عن تجربته الخاصة والعامة. إنها وحدة التعبير الفني في القصيدة، ومن هنا تفاوت شعراؤنا قديماً وحديثاً أصالة وتقليداً في نسج هذه الوحدة التي عدت نواة الصورة الشعرية في كل شعر جدير بالتذوق والتقدير.
فالجاحظ (المتوفى سنة 255هـ) حين يجعل "تخير اللفظ" و "سهولة المخرج" و "كثرة الماء" و "صحة الطبع" و "جودة السبك" و "تلاحم أجزاء القصيدة" عناصر الصورة من الناحية الأدبية، إنما يركز على اللغة الشعرية وحركة الشاعر داخل هذه اللغة حتى يصير شعره "ضرباً من النسج وجنساً من التصوير" (الحيوان، جـ3، ص 131) في حين يرى قدامة بن جعفر البغدادي (المتوفى سنة 337هـ) إن الشاعر المجيد هو الذي يحسن اختيار المعنى ويحسن تصويره بألفاظ أو أشكال جيدة أيضاً، أي من المعاني. فالشعر هو الصورة. أي أن الشعر/ الصورة مظهر من مظاهر المعاني أو اللغة الشعرية ولكي يحقق الشاعر طموحه الفني في خلق قصائد جيدة، هي في رأي قدامة، صور جيدة عليه أن يتوخى البلوغ في التجويد. (نقد الشعر، ص17-18). أما عبد القاهر الجرجاني (المتوفى سنة 471هـ) فيرى أن (التصوير) و (الصياغة) هما سبيلا الكلام الفني وأن المعنى مادة الصورة والصوغ الشعريين من الناحية الفنية. (دلائل الإعجاز، ص175) ومن المجمل العام لنظريته في النظم والتأليف القائمة على أن اللفظ والمعنى والتعلق تركيب لغوي واحد يخلق النسق أو النسج المتماسك في العلاقة أو مجموعة العلائق بين اللفظ والمعنى. فالصورة على وفق هذا التصور وهذا الفهم الدلالي لماهية التركيب في الجملة الشعرية، تعني عنده روح تلك العلاقة التركيبية-الدلالية في قدرة الشاعر على تصوير المعنى وصوغه. فالمعنى روح الصورة ومادتها والصورة الشكل الفني للمعنى ودلالته الإبداعية والجمالية.
فالتصوير والصورة والصوغ هي العناصر الفنية للتعبير اللغوي الذي تمثله اللغة الشعرية في هذه القصيدة أو تلك. فالصورة بوصفها مصطلحاً أدبياً في التراث النقدي العربي تعني قدرة الشاعر في استعمال اللغة استعمالاً فنياً يدل على مهارته الإبداعية ومن ثم يجسد شاعريته في خلق الاستجابة والتأثير في المتلقي. فالصورة هي الوعاء الفني للغة الشعرية شكلاً ومضموناً(([16])) وبهذا المفهوم تكون الصورة بوصفها مضموناً هي البنية النمطية الثابتة للقصيدة في حين تكون الصورة بوصفها شكلاً هي البنية النمطية المتحركة التي يوضحها الأسلوب الشعري لهذا الشاعر أو ذاك من خلال لغته الشعرية المتمثلة في اختياره وانتقائه لألفاظه بمعانيها في نسيج تصويري متكامل حيث يختلف الشعراء في هذا المضمار "شكلاً" في التعبير اللغوي ويتشابهون "مضموناً" في الدلالة العامة للغرض.
وإليك أمثلة شعرية لثلاثة من شعرائنا في عصر ما قبل الإسلام (العصر الجاهلي) هم: امرؤ القيس والنابغة الذبياني وحسان بن ثابت (الأنصاري) الذين غدوا من فحول الشعراء وهم يعبرون عن مضمون واحد متشابه هو (وصف الليل) بنظر العاشق (البنية النمطية الثابتة)، فهو ليل طويل، مهموم، مفعم بالقلق واليأس، لا يخلو من ذهول نفس، يتمنى فيه الشاعر العاشق انجلاءه تمهيداً للقاء حبيبته في غد مشرق بعد عناء وكد بلغة شعرية وأسلوب شعري لا يمثل إلا صاحبه وهو (البنية النمطية المتحركة). فلكل من امرئ القيس والنابغة وحسان ذوقه الخاص في اختيار ألفاظه بمعانيها المختارة وحريته في نسجها صورة شعرية بتشبيهاتها واستعاراتها ومجازاتها؛ صورة شعرية موفقة ومتعادلة في ميزان نقد الشعر عند العرب أيامئذ.
قال امرؤ القيس:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت لـه لما تمطى بصلبه ,,, وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيُّها الليلُ الطويل ألا انجلي ,,, بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأَمْثَلِ
فيا لك من ليلٍ كأن نجومه,,,,, بكل مُغار الفتلِ شُدَّتْ بيذبُل
كأن الثريا عُلّقت في مصامها ,,,, بأمراسِ كتان إلى صُمِّ جَنْدَلِ
(ديوان امرؤ القيس، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، ط1، دار المعارف بمصر، 164، ص18،19)
قال النابغة الذبياني:
كليني لهم يا أميمة، ناصبِ,,, وليلٍ أقاسيه، بطيء الكواكب
تطاولَ حتى قلتُ ليس بمنقضٍ ,,,, وليس الذي يرعى النجوم بآئب
وصدرٍ أراخ الليلُ عازبَ همه،،،، تضاعفَ فيه الحزنُ من كلّ جانب
(ديوان النابغة الذبياني، تحقيق وشرح كرم البستاني، دار صادر، بيروت، 1963، ص9).
قال حسّان بن ثابت الأنصاري…
تطاول بالخمان ليلي فلم تَكَدْ ,,,,, تهمُّ هوادي نجمه أن تصوَّبا
أبيتُ أراعيها كأني موكَّلٌ ،،،،، بها لا أريدُ النومَ حتى تغيّبا
إذا غار منها كوكبٌ بعد كوكب ,,,,, تراقب عيني آخر الليل كوكبا
غوائرَ تترى من نجوم تخالها ,,,,, مع الصُّبح تتلوها زواحف لُغبَا
(ديوان حسان بن ثابت، حققه وعلق عليه: الدكتور وليد عرفات، جـ1، سلسلة كَب التذكارية، لندن، 1971، ص116).
فوحدة التعبير قد اختلفت بين هؤلاء الشعراء ولكنها تشابهت من حيث المضمون أو الغرض الشعري. وهذه الأمثلة شاهد على أن الصورة الشعرية من خلال لغتها هي معيار الجودة في المفاضلة بين الشعراء قديماً وحديثاً.
حين تكون الصورة المجازية جزءاً مهماً وفعالاً من القصيدة لا سيما حين تكون طرية قادرة على تحويل ظلال الصورة إلى واقع فني كما في هذه الأمثلة الشعرية. إذ يعتقد كثير من اللغويين والنقاد بأن التحليل الأسلوبي أي البنية النمطية المتحركة، هو عملية لغوية يضاف إليها شيء من النظريات البلاغية والجمالية. وبهذا الصدد قيل "… إننا في الشعر نتطلب من الاستعمال الاستعاري أن يكون ذا نغمة داخلية"(([17])) فالألفاظ والتعابير الشعرية المرتبة ترتيباً نحوياً خاصاً وذات نظام صوتي وأنماط إيقاعية أو عروضية هي دائماً سمات اللغة الشعرية، بيد أن الأكثر أهمية من كل ذلك هو قدرة الألفاظ المستعملة في الشعر للتعبير عن أفكار ودلالات ومعان، أكثر مما تعنيه مثل تلك الألفاظ بدلالاتها المختلفة في اللغة العامية خارج القصيدة.
المراجع :
(([1]))كتاب سيبويه، الجزء الأول، ط1، بولاق، 1316هـ، ص8.
(([2])) تدريس الشعر، جيمز ريف (باللغة الإنكليزية)، لندن، ط1، 1958، ص87، 88.
([3]) قاموس المصطلحات النقدية الحديثة (باللغة الإنكليزية)، تحرير، روجر، فاولر، لندن، 1978، ص49، 50.
([4]) بنية اللغة الشعرية، جان كوهن ترجمة محمد الولي ومحمد العمري المعرفة الأدبية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1986، ص25، 26.
([5]) مبادئ النقد الأدبي، ريتشارد، ترجمة د. مصطفى بدوي، مراجعة الدكتور لويس عوض، مطبعة مصر، القاهرة، 1963، ص262.
([6]) قاموس لونكمان للمصطلحات الشعرية (باللغة الإنكليزية) جاك مايرز ومايكل سيمز، لندن، 1989، ص 81-82.
([7]) بنية اللغة الشعرية،
.
([8]) الموشح، المرزباني، تحقيق علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1965، 547.
([9]) بنية اللغة الشعرية، ص15.
([10]) لغة الشعر عند المعري، د. زهير غازي زاهد، دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1989، ص22.
([11]) تشريح النقد، محاولات أربع- نورثرب فراي، ترجمة د. محمد عصفور، منشورات الجامعة الأردنية-عمان، 1991، ص103.
([12]) نفسه، ص108.
([13]) لغات النقد وبنية الشعر (باللغة الإنكليزية)، د. س. كرين، مطبعة جامعة تورنتو، كندا، 1953، ص84.
([14]) الشعر الحر، مقال في العروض، جالز و. هارثمان (باللغة الإنكليزية)، مطبعة جامعة برنستون، برنستون، نيو جرسي، 1980، ص140.
([15]) دراسة في المعنى، أوين بارفيلد، (باللغة الإنكليزية)، نيويورك، 1964، ص58.
([16]) مستقبل الشعر وقضايا نقدية، د. عناد غزوان، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد 1994، ص114، 115،116.
([17]) الصورة الأدبية، د. مصطفى ناصف، ط1، القاهرة، 1958،
.