الأرض تدور في مستقر لها، وعلى محور ثابت صنعه من صنع الكون سبحانه وتعالى، المعجز في التمام والكمال ...
وفي ذات الوقت يدور الناس في هذا الملكوت عبر قوانين دنياهم بين مقتضيات حياتهم واحتياجاتهم ورغباتهم اليومية، إما باحثين عن لذة أو هاربين من ألم ..
حياتهم تجول بين الفرص والتحديات , بين الأهداف والتهديدات , بين الأمل والعمل , بين الواقع والمأمول , يخرج لنا في ثنايا ذلك كله شخوص كبيرة لا يمكن إلا أن تميزها لطول قامتها بين تلك الجموع، إما لعلم نافع أو لعمل صالح أو لمال مبذول أو جاه مقدم أو بصمة عظيمة أو تضحية مقدرة تركت هنا أو هناك في دروب الخير والنماء , رفعوا لواءً فاجتمع حولهم الناس، وساروا في طريق آخره فلاح ونجاح ونهضة فأثروا وتأثروا , أصابوا وأخطئوا، ولكن صوابهم وفضلهم كان اللون الطاغي على مسيرة حياتهم ومسار أعمالهم.
رحيق أحرفي هذا اليوم سيكون عن من أدركت وأبصرت وتعاملت معه وتتلمذت على يديه , حيث غرس بي الكثير من القيم والمنطلقات والمعاني التي آليت على نفسي أن تكون مبذولة للجميع، فزكاة العلم تعلميه، وحق العظماء الذي غادروا عالمنا هو الإنصاف والدعاء والتكريم وذكر المحاسن والشمائل.
حديثي اليوم عن رجل أعجوبة، سوف تتعلم منه الكثير لحياتك وحياة من حولك، ففي قصص العظماء عظة وعبرة ومعالم لطريق طويل يُضاء لنا بالعلم والحكمة والصبر وتبسط لنا مرتفعاته بالإيمان واليقين والكفاح.
بوحي هذا اليوم سيكون عن قصة من قصص النجاح والتغير والتأثير التي سجلت في عالمنا العربي المتلهف لهذه النماذج التي تمثل له الكثير من الإلهام والحشد والدافعية.
عن بطلها نقول:
تعود أصول ذاك الفتى الألمعي إلى مدينة الإسكندرية المصرية، وهو ابن أحد تجار المقاولات هناك، ولكن والده توفي وهو في صغره، وشاء الله أن ينشأ معتمدًا على الله ثم نفسه بعد إشكاليات داهمة تجارة والده, كان طاقة جبارة منذ صغره، حيث رفض البكاء على واقعه والاستسلام للظروف، ونزل الميدان مبكرًا، واتجه إلى أحد معاهد الضيافة لكي يعمل نادلًا يحمل القهوة والشاي في الفنادق والمقاهي، رغم أن هذا العمل كان عيبًا في مجتمعه القريب في ذلك الزمن، ولكنه ذلك العالم كان يأسره، بالإضافة إلى إيمانه الكبير بأن الكفاح هو وقود العبقرية، وأن الجبل العظيم يتكون من صغار الحجر، وأن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة.
لم يسقط في فخ ظروف الحياة، أو يكن عالة على أحد، بل تحدى كل شيء، حتى تهكم أصحابه به وهم يطالبونه أن يصنع لهم الشاي أو يحضر لهم الماء، ولكن عالمه الداخلي كان متماسكًا وصلبًا جدًا.
لا يمكن لأحد أن يخترقه على الإطلاق , واصل العمل ولكنه كان بحاجة إلى فضاء أوسع، حيث كان طموحه أكبر وقدراته أعظم , فقرر الهجرة إلى كندا عام 1978 ليصدم هناك بأن الجالية العربية تبادره بالعتب وتتهمه بالجنون وتقول له لـمَ جئت إلى هنا , لا يوجد فرص عمل إطلاقا!!
تجاوز تلك الطاقة السلبية وبدء العمل والتقدم في القطاع الذي أحبه في شبابه، وهو قطاع الفنادق، كانت البداية صعبة، وفعلا رغم رضاه بالأعمال البسيطة إلا إنه طرد من أكثر من مكان، إلى أن تحصل على فرصة بسيطة أخرى في أحد الفنادق، وكان يعمل في البداية غاسل أطباق في مطبخ المطعم، ثم مساعدًا لحامل الطاولات، وحارسًا في المساء، وكان التدرج مذهلًا لهذا الإنسان، حيث اجتهد وحدد الهدف وعمل على الوصول إليه، حتى وصل إلى منصب مدير عام ذلك الفندق، ومن ثم سلسلة فنادق أخرى، وبعد ثمان سنوات حاز على جائزة أفضل مدير في قطاع الفنادق على مستوى أمريكا الشمالية قاطبة.
واصل ذلك الفتى التعلم والكسب معًا , حيث ضاق به المكان مرة أخرى، وانطلق في رحلة شيقة في كندا والولايات المتحدة الأمريكية للتدريب والتطوير، بعد أن حصل على خلفية علمية وعملية قوية مكنته من ذلك , رفع لواء التنمية البشرية هناك، وأبدع حتى حضر له الآلاف وهو في بداياته، وانهالت عليه العروض من كل حدب وصوب، فقد كان طاقة جبارة في التحفيز والتشجيع والإيجابية وفنون التغيير والتطوير الشخصي والإداري والنفسي والاجتماعي، لا يملك من أمامه إلا أن يستجيب لتلك الروح الدافعة إلى الأمام بلا تردد.
كان لقاؤه بشاب مغربي في بلاد الغرب محور تحول كبير , عندما اتهمه بالأنانية، فاستغرب ذلك الاتهام، واستفسر عن سببه، فرد عليه الشباب المغاربي بحرقة: "كيف يكون لديك كل هذا العلم والمعرفة والمهارة والعبقرية" وتحرم أهلك في العالم العربي من ذلك؟!!
كان اتخاذ القرار سريعًا , وقرر أن يبشر بهذه العلوم، وينطلق لبث رسالة التنمية البشرية ومشروع التغيير في كل أرجاء العالم العربي، والتأسيس لأرضية صلبة لهذا العلم هناك , فالحاجة كبيرة والواجب والانتماء يقتضيان ذلك.
بدأ العمل في العالم العربي بشكل مكثف، للإسهام في رقي الإنسان والمنظمات وتغير الأفكار والقناعات والممارسات ونشر ثقافة النجاح والأمل والاجتهاد والطموح والتنمية بالإيمان في كل مكان , كانت الأصداء مدوية، فالجميع كان حفيًا بهذا الطرح والأسلوب والفكر الجديد الذي يبث هنا وهناك.
وفعلًا كانت له الريادة في هذا الأمر، وبدأت الأفكار تنتشر بشكل سريع جدًا، عبر دوراته وكتبه وطلابه وألبوماته وبرامجه ومقابلاته, وكانت الأصداء فوق الوصف، مما زاد المسئولية، وبدأ الكثير من العلماء والباحثين العرب يشاركونه نفس الهم، كلٌّ في بلده ومحيطه الجغرافي.
رحل قبل أيام وقد ترك بصمة العلماء وسيرة الأخيار وبكاء الملايين الذين غيرهم وأسعدهم , فكم من الطاقات أُطلقت؟ وكم من الأعمال تحققت، وكم من المشاريع نفذت بفضل الله ثم بفضل نشر هذه الثقافة والإيجابية والفكر المستنير والعلم النافع والإيمان الصادق.
ليس من السهل أن يدرب أحد منا مليون إنسان بشكل مباشر خلال ربع قرن، وليس سهلًا أن تبيع إصدارات وكتب بملايين النسخ، وليس سهلًا تؤلف علمين وتسجلهما عالميًا خدمةً للبشرية والعالم , وليس سهلًا أن يحصل الإنسان على 23 دبلوما في علوم شتى لخدمة البشرية ومشروعه الفكري والتنموي.
ليس سهلًا تعلم أربع لغات والعمل بها , وليس سهلًا أن يصاب الإنسان بجلطة في الدماغ قبل 8 سنوات ويواصل العمل بكل نشاط وحيوية، حتى أن المتدربين يصيبهم الإجهاد وهو يعرض عليهم المزيد ولا يبالي , قارئ نهِم، قرأ أكثر من 10 آلاف كتاب، وحاضر ودرب في أكثر من 50 دولة حول العالم، وسجل أكثر من 500 حلقة تلفزيونية، وأسس مجموعة عالمية مكونة من 5 شركات للاستثمار في العلم والتدريب وتحويل الفكر والمعرفة إلى عمل مؤسسي منظم , ناهيك عن أكثر من ألف مقولة وحكمة صاغها بنفسه، وانتشرت في الآفاق.
في اليوم الذي مات فيه، وقد كان صبيحة يوم الجمعة، كان ينوي المرور والاطمئنان على الأسر التي تبين بعد وفاته أنه يتكفل بها، وعددها 140 أسرة، لا شك أنها تبكيه أكثر منا الآن , قاموس العطاء يعجز أمام قامته، وحروف الأمل تبكي غيابه، وأوراق الربيع تسأل من زرع البذر لكي تأتي أجيال وأجيال تقطف الثمر.
كان يقول لنا: لا تتأخروا عن تلبية حاجة الجمعيات الخيرية والإنسانية والمؤسسات المجتمعية، وقدروا العلم الذي تحملون، وكونوا سفراء لكل ذلك في بلدانكم.
كان يقدر ما يحمل من مسئولية وأمانة، ويريد الأجيال أن تتعاقب على نهضة أوطانها وأمتها ورفعتها، فلم تخطو أقدامنا في أول لقاء كان بيننا في أحد دورات إعداد المدربين إلا وقد أدينا قسمًا مكتوبًا على الإخلاص والصدق والأمانة في القول والعمل.
غادر بجسده لكن روحه بيننا، تحرضنا على إكمال المسيرة، وعلمه الغزير صدقة جارية تعطر المكان والزمان, ونموذج للصبر والكفاح والعمل والتأثير، ونبراس لرفض ثقافة المستحيل والغير ممكن والفشل والركون وإدمان الشكوى.
وضعت قبلةً على رأسه وهو حي.. وأعود وأقبل رأسه مع دموعي وهو ميت.
د. إبراهيم الفقي في ذمة الله