تأمل ـ أيها الوالد ـ مفردات هذا الفيلم، وتَخيَّل معي أن طفلك يشاهده!
قتيل منبطح على الأرض، وحوله الدماء تسيل.
وهناك في ركن آخر من الغرفة، رجلان يُعذَّبان، تُقطَّع آذانهم، وتُبقر بطونهم، وتُفقأ عيونهم، والدم على الأرض يسيل.
وفجأة!
إذا برجلين في الغرفة مقيدين بالأغلال, ولا يعرفان من الذي جاء بهما إلى هذا المكان الموحش, كل واحد منهما يحاول أن يفك قيده، ولكن لا يستطيع, فيسرع كل واحد منهما إلى الجثة الملقاة على الأرض، فإذا بيدها جهاز تسجيل.
يحاولان تشغيله, فيبدأ الشريط, وينطق التسجيل ليخاطب الرجلين المقيدين, إنه لابد أن يقتل كل واحد منكما الآخر حتى لا يعذب أبناؤه, وفجأة يظهر الخنجر أمام عينيهما, فيسرع كل واحد منهما إليه يدفع كل واحد منهما الآخر, ولكن؟!
انطلق صوت الرصاص في المكان، وأظلمت الغرفة، وارتفعت أصوات أقدام تقترب من المكان.
ما شعورك أيها الوالد؟ أنت خائف، أم مرتعد، أم أنك منجذب لهذا السيناريو، وهذه الصرخات التي أطلقها المارد العملاق "جهاز التلفاز"، وهو يذيع في ساعة متأخرة من الليل هذا الفيلم "الكلاسيكي"، الذي يطلق عليه الهواة: "فيلم الرعب".
الحقيقة أني رأيت بعض الأطفال وهم جلوس أمام هذا المشهد المؤثر، ولكني للأسف لا أنسى أبدًا نظرات هؤلاء الأطفال المذهولة، وأفواههم المفتحة، وأياديهم المرتعدة.
ولكن فجأة, قام محمود الطفل صاحب السبع سنوات فزعًا، وهو يبكي ويرمي بنفسه في أحضان أمه.
وهي تسأله في بلاهة: ما بك يا بني؟! ماذا حدث؟! وهو صامت لا يجيب, مسكين محمود لم يستطع النوم هذه الليلة, كلما أغمض عينيه تذكر الأشلاء والدماء والجثة والرصاص؛ فصرخ وبكى وجرى إلى حجر أمه.
ولكن العدوان زُرع في قلبه.
وهل يمكن أن يُعلِّم المارد العملاق طفلك العدوان؟
وهل لبرامج التلفاز وأفلام الكرتون، دور في تعليم الطفل العدوان؟
وهل لأفلام الرعب والعنف دور أيضًا؟
الإجابة: بالتأكيد نعم.
فهذا الطفل الذي شاهد هذه الأفلام العنيفة يتحوَّل بصورة تلقائية إلى طفل عنيف وعدواني، ولقد رأينا هذا الطفل الذي شاهد فيلم "سوبرمان"، ورأى هذا البطل الخرافي وهو يطير, فحاول هذا الطفل أن يتعلَّم الطيران هو الآخر! وقال في نفسه: هو إنسان وأنا إنسان وسأطير! وبالفعل رمى بنفسه من مكان شاهق ومات!
قصة واقعية: بل إني رأيت بنفسي طفلًا صغيرًا لديه خمس سنوات على الأكثر, رأيته يصعد فوق السرير ويرمي بنفسه على الأرض, فقلت له: ماذا تفعل؟! فلم يرد عليَّ، ولكنه صعد ورمى بنفسه مرة أخرى على الأرض، والعجيب أنه لم يمل من هذه الفعلة مع الألم الذي يلاقيه, مرات ومرات, فتأملت حاله فوجدت على قميصه صورة لرجل أحمر اللون محاط بخيوط سوداء، فقلت له: من هذا يا بني؟
فقال لي بفخر: هذا "سبيدرمان" ـ الرجل العنكبوت ـ الحقيقة أني لم أفهم لأول وهلة من هو "سبيدرمان"، ولكني تأملت في قميصه الصغير، فتذكرت هذا الكرتون لهذا البطل الخرافي المدعو "سبيدرمان"، المنقذ المدافع عن الفضيلة والشرف، وتذكرت أن هذا السبيدر كان يرمي بنفسه هكذا تمامًا كما يرمي هذا الطفل بنفسه بالضبط، فهمت في هذه اللحظة سر هذا العدوان.
لقد أثَّرت برامج الأطفال والكرتون غير التربوية وغير الهادفة على سلوكيات أطفالنا، وعلمتهم العدوانية، فتجد الأطفال يقومون بعد مشاهدة أحد هذه الأفلام الخيالية أو العنيفة يقلدون الأبطال في الحركات والأصوات، بل إن ألعاب الكمبيوتر أيضًا تضم في خباياها عدوانًا دفينًا؛ فأنت ترى طفلك بعد أن يلعب هذه الألعاب التي تشتمل على القتل والضرب والإيذاء، يتحوَّل بصورة تلقائية إلى هذا البطل الذي كان يلعب دوره في اللعبة.
أيها الوالد: إن التلفاز يؤكد على اكتساب العدوان من خلال نظرية التعلم, تلك النظرية التي تؤكد على أن لسبل التنشئة تأثيرًا في ظهور السلوك العدواني بين الأطفال، وهذا ما ينقلنا إلى التساؤل السابق وهو:
هل يتعلم الأطفال العنف والعدوان في برامج التلفزيون؟
وللإجابة على هذا السؤال توجد نظريتان:
الأولى: نظرية التفريغ: وتقوم هذه النظرية على فرضية مؤداها، أن لأفلام الرعب والعنف القدرة على تفريغ العدوان، والعنف من المشاهد، وإذا كان الأمر هكذا فلا توجد مشكلة تستحق البحث.
والثانية: نظرية النمذجة: ومؤدى هذه النظرية أن الإنسان عندما يتعلم عن طريق المشاهدة، فإنه ينتج سلوكه على أساس ما يشاهده، وأن الإنسان يقلد الإنسان الذي يشبهه أو الأقرب إليه.
إذ كلما ازداد تشابه النموذج مع المشاهد "المقلد"، ازدادت نسبة تقمص النموذج، ولهذه النظرية أسس تقوم عليها؛ إذ يستنتج من يبحر في تجارب القائلين بها أن روعة مشاهد العنف والعدوان في البرامج التلفزيونية تعمل على استثارة الشعور العدواني عند المشاهد، وأن الأطفال يتعلمون من خلال ما يشاهدونه، وأنهم عندما يواجهون ظرفًا مناسبًا فيما بعد يحاولون تطبيق ما شاهدوه على الشاشة)[الأطفال والعنف في برامج التلفزيون, مجلة الزهراء].
ولذلك يكاد خبراء التربية وعلم النفس يُجمعون على أن ظاهرة الطفل العنيف، أو الطفل العدواني، التي تكثر في أيامنا هذه، نابعة بالأساس من البرامج التلفزيونية غير المنضبطة وغير المدروسة.
أيها الوالد: لقد شبه أحدهم التلفزيون في إحدى الأساطير بمارد له قوة خرافية، وطاقات فوق مستوى التصور البشري، نزل إلى قرية فعمل فيها هدمًا وتحطيمًا وتخريبًا؛ فاجتمع حكماء القرية ليتشاوروا في أمر هذا المارد الجبار، وانتهى بهم الرأي إلى الشيء الوحيد الذي ينقذهم من شروره، وهو أن يقوموا بتركيب عقل في رأسه, وانتهزوا بالفعل فرصة نوم المارد، ونجحوا في أن يُرَكبوا عقلًا في رأسه، فلما أصبح الصباح كان المارد بقدراته الهائلة قد أخذ على عاتقه مساعدة كل أهل القرية في أعمالهم.
وهذا هو دورك ـ أيها الوالد ـ أن تضع العقل في رأسه.
ومن هنا تبيَّن ـ أيها الوالد ـ أن هناك علاقة وثيقة بين العنف التلفازي وبين عدوان الأطفال، فقد (لوحظ أن عرض المشاهد العدوانية في الأفلام أو في التلفاز، كان يصحبه زيادة عدوانية الأطفال خلال الأسبوع الذي تم فيه عرض تلك الأفلام، وكذلك لفترات تالية, ويتضح من رصد سلوك الأطفال المشاهدين لتلك الأفلام، أن ذلك التأثير الذي تركه مشاهدة الفيلم يظهر فيه المحاكاة والتقليد, فقد كان الصغار بين حين وآخر يُقلِّدون ويحاكون الحركات البدنية العدوانية، التي ظهرت على الشاشة، وعلى سبيل المثال تقليد ضربات الملاكمين وحركاتهم) [عدوان الأطفال, محمد علي قطب ووفاء محمد عبد الجواد, ص(26-44)].
(وفي تقرير لوزيرة الصحة الأمريكية "جوسلين ألدرز" كشفت فيه عن حقائق مروعة، تؤكد أن العنف في بلادها بلغ مستويات قياسية؛ حيث أبانت أن 50 ألف شخص يذهبون ضحايا لأعمال العنف والجريمة سنويًّا.
وأضافت أن هذا الرقم المخيف يزيد على ضحايا مرض الإيدز القاتل، الذي لا يتجاوز 30 ألف شخص سنويًّا, كما أنه يمثل ثلاثة أضعاف نسبة ضحايا حوادث المرور، وهم لا يزيدون على 18 ألفًا, وفي عبارات مؤثرة أعربت المسئولة الأمريكية عن أسفها لهذه الحقائق المخيفة، وقالت: إن العثور على سلاح ناري أصبح أسهل لكثر من الشباب والصغار من العثور على صديق مخلص أو مُعلِّم جيد) [سيكولوجية العدوان, د.عصام عبد اللطيف العقاد, ص(96)].
يجب أن نوقن جميعًا أن وسائل الإعلام يمكن أن تمتلك تأثيرًا شديدًا ومحيرًا على سلوك الأطفال؛ فالصبيان اللذان قتلا خمسة عشر شخصًا، بما في ذلك أنفسهما في المدرسة الثانوية في كولومباين 20 إبريل عام 1999م، قد تأثرا ولو جزئيًّا بألعاب الفيديو، ومواقع الإنترنت التي تمجد القتل.
وعندما نتدبر العنف الذي يُغلِّف عالم التلفزيون, هناك نحو ثمانية آلاف جريمة يطالعها الطفل العادي في التلفزيون قبل أن يصل إلى المدرسة الثانوية, ويستمع إلى كلمات آلاف الأغاني المنتشرة, فمن الصعب عندئذ ألا ننشغل بتأثيرات وسائل الإعلام على الأطفال, والأهل بحاجة إلى يقظة تامة وشعور مرهف وشجاعة في مساعدة أبنائهم؛ لأن يختاروا أفضل ما يعرض في وسائل الإعلام، ويشقوا بهم طريقًا آمنًا وسط الأخطار.
شعبية عظيمة:
ويتمتع التلفزيون من بين كل وسائل الإعلام بالتأثير الأعظم انتشارًا على الأطفال؛ فالنشء يقضي ثلاث ساعات في المتوسط يوميًّا في مشاهدة التلفزيون, كما يقضي نحو ثلاث ساعات أخرى، أو أكثر أمام مواد معروضة على شاشات أخرى, وتتوقع بعض التقديرات أن الأبناء يشاهدون سنويًّا نحو عشر آلاف جريمة وانتهاك واغتصاب, وعشرين ألف إعلان وخمسة عشر آلف موقف جنسي, وهناك ما يقرب من ثلث عدد الأطفال في سن ما بين الثانية إلى السابعة ممن لديهم جهاز تلفزيون في غرف النوم، وما يقرب من ثلثي الأطفال الأكبر سنًّا ممن يمتلكون جهازًا في غرف نومهم.
ويتعلم الأطفال الذين يسرفون في مشاهدة التلفزيون أن احتساء الكحوليات وتدخين السجائر، من شأنهما جعل الشباب جذابين ولطيفي المعشر؛ فالكثير من أبطال الأفلام الشائعة يدخنون بكثرة، وكثيرًا ما يصور احتساء الخمور أو تدخين المخدرات غير المشروع، على أنه ضرب من المغامرة أو الجسارة؛ بدلًا من أن يتصور على أنه غباء وخطر.
والعنف هو الآخر شاغل حقيقي، وتشير دراسات عديدة إلى أن التعرض لمشاهد العنف على الشاشة يدفع بالأطفال إلى أن يسلكوا سلوكًا عدائيًّا نحو نظرائهم، كما يصبحون في نفس الوقت عرضة للاعتداء, ولا يعني هذا بالطبع أن كل طفل يشاهد العنف سوف يصبح نسخة مطابقة لما يراه، ولكن احتمال قيام أولئك الأطفال بعمل من أعمال العنف، سوف يغدو بلاشك مرتفعًا, إن جعل الأطفال يشاهدون عروضًا تلفزيونية يعرضهم لمخاطر مؤكدة، مثلما يحدث إذ تُركوا ليعبوا في الشارع أو ليقودوا سيارة دون استعمال حزام الأمان) [دليل د.سبوك لرعاية الطفل, د.بنجامين سبوك, ص(461-462)].
ورقة عمل:
ـ جنب أطفالك مشاهدة العنف في التلفاز، اجعلهم يشاهدون البرامج وأفلام الكارتون النافعة التي تزيد من مهاراتهم وتنمي قدراتهم.
==========
المصادر:
· دليل د.سبوك لرعاية الطفل, د.بنجامين سبوك.
· سيكولوجية العدوان, د.عصام عبد اللطيف العقاد.
· الأطفال والعنف في برامج التلفزيون, مجلة الزهراء.
· عدوان الأطفال, محمد علي قطب ووفاء محمد عبد الجواد.
==========