عدد المساهمات : 6 نقاط : 18 تاريخ التسجيل : 20/11/2011
موضوع: رسالة الدين: الأحد 20 نوفمبر 2011 - 19:58
رسالة الدين:
ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره، ولا ان تحقق أهدافها البناءة واغراضها الرشيدة إلاّ على اسسه وقواعده، فيربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان، وحب الذات المرتكزة في فطرته.
وفي تعبير آخر: ان الدين يوحد بين المقياس الفطري للعمل والحياة، وهو حب الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة.
{91}
إن المقياس الفطري يتطلب من الإنسان: أن يقدم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقومات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي أن يحكم ويسود هو المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.
فكيف يتم التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين، لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملاً من عوامل الخير والسعادة للمجموع بعد أن كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنن في الأنانية وأشكالها؟.
إن التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة، وتتخذ العملية اسلوبين:
الاسلوب الاول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح، كمقدمة تمهيدية إلى حياة اخروية يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه، في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي ـ أو رضا الله تعالى ـ: يضمن المصلحة الشخصية، في نفس الوقت الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الإنسان الى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد والمحافظة على قضايا العدالة فيه، التي تحقق رضا الله تعالى، لأن ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي، ما دام كل عمل ونشاط في هذا الميدان يعوض عنه باعظم العوض واجله.
{92}
فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضاً، في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها. ولا يمكن أن يحصل هذا الأسلوب من التوفيق في ظل فهم مادي للحياة، فإن الفهم المادي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلاّ إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدمه الإسلام، فانه يوسع من ميدان الإنسان، ويفرض عليه نظرة أعمق الى مصالحه ومنافعه ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً في هذه النظرة العميقة، ومن الارباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف:
«من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها». «ومن عمل صالحاً من ذكر أو انثى وهو مءؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب». «يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره». «ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ، ولا نصب، ولا مخصمة في سبيل الله ولا يطؤن موطناً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا.. إلاّ كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً.. إلاّ كتب لهم ليجزيهم أحسن ما كانوا يعملون».
هذه بعض الصور الرائعة التي يقدمها الدين مثالاً على الأسلوب
{93}
الأول، الذي يتبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين فيربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة، ويطور من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن: بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانية ـ التي يحددها الإسلام ـ مترابطتان (1).
وأما الاسلوب الثاني: الذي يتخذه الدين، للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الإجتماعية: فهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة، تعني بتغذية الإنسان روحياً، وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه. فان في طبيعة الإنسان ـ كما ألمعنا سابقاً ـ طاقات واستعدادات لميول متنوعة، بعضها ميول مادية تتفتح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، وبعضها ميول معنوية تتفتح وتنمو بالتربية والتعاهد ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان ـ إذا ترك لنفسه ـ أن تسيطر عليه الميول المادية لأنها تتفتح بصورة طبيعية، وتظل الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة. والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله. فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة ويصبح الإنسان يحب القيم الخلقية والمثل التي يربيه الدين على
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر اقتصادنا ص 307.
{94}
احترامها ويستبسل في سبيلها ويزيح عن طريقها ما يقف امامها من مصالحه ومنافعه وليس معنى ذلك أن حب الذات يمحى من الطبيعة الإنسانية بل أن العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حب الذات فان القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبراً عن لذة شخصية خاصة فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقاً للذة الخاصة بذلك.
فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخلقية بالمسألة الفردية، ويتلخص أحدهما في: اعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية لا لأجل أن يزهد الإنسان في هذه الحياة، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقر على غير العدل.. بل لاجل ضبط الإنسان بالمقياس الخلقي الصحيح، الذي يمده ذلك التفسير بالضمان الكافي.
ويتلخص الآخر في: التربية الخلقية التي ينشأ عنها في نفس الإنسان مختلف المشاعر والعواطف، التي تضمن إجراء المقياس الخلقي بوحي من الذات.
فالفهم المعنوي للحياة والتربية الخلقية للنفس في رسالة الإسلام.. هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانية.
ولنعبر دائماً عن فهم الحياة على أنها تمهيد لحياة أبدية: بالفهم المعنوي للحياة ولنعبر أيضاً عن المشاعر والاحاسيس، التي
{95}
تغذيها التربية الخلقية: بالاحساس الخلقي بالحياة.
فالفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها، هما الركيزتان اللتان يقوم على اساسهما المقياس الخلقي الجديد، الذي يضعه الإسلام للإنسانية وهو: رضا الله تعالى. ورضا الله ـ هذا الذي يقيمه الإسلام مقياساً عاماً في الحياة ـ هو الذي يقود السفينة البشرية الى ساحل الحق والخير والعدالة.
فالميزة الاساسية للنظام الإسلامي تتمثل: فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها، والخط العريض في هذا النظام هو: اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن. فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر اليه الدولة وتشرع لحسابه.
وكل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والاحساس فهو إما نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية، فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات واشد الأخطار. وإما نظام يحبس في الفرد نزعته ويشل فيه طبيعته لوقاية المجتمع ومصالحه. فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته والأفراد ونزعاتهم بل يتعرض الوجود الاجتماعي للنظام دائماً للانتكاس على يد منشئيه ما دام هؤلاء يحملون نزعات فردية أيضاً، وما دامت هذه النزعات تجد لها ـ بكبت النزعات الفردية الاخرى وتسلم
{96}
القيادة الحاسمة ـ مجالاً واسعاً وميداناً لا نظير له للانطلاق والاستغلال.
وكل فهم معنوي للحياة احساس خلقي بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة يحسب فيه لكل جزء من المجتمع حسابه وتعطى لكل فرد حريته التي هذبها ذلك الفهم والاحساس والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما.. أقول: أن كل عقيدة لا تلد للإنسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيفاً للجو وتخفيفاً من الويلات وليست علاجاً محدوداً وقضاء حاسماً على أمراض المجتمع ومساوئه. وانما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها ينبثق عنهما نظام يملأ الحياة بروح هذا الاحساس وجوهر ذلك الفهم.
وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها: فهو عقيدة معنوية وخلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدد، ويضع لها هدفاً، اعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه.
واما ان يقضي على الفهم المعنوي للحياة، ويجرد الإنسان عن احساسه الخلقي بها، وتعتبر المفاهيم الخلقية أوهاماً خالصة خلقتها المصالح المادية، والعامل الاقتصادي هو الخلاق لكل القيم والمعنويات وترجى بعد ذلك سعادة للإنسانية، واستقرار اجتماعي لها، فهذا الرجاء الذي لا يتحقق إلاّ اذا تبدل البشر
{97}
الى أجهزة ميكانيكية يقوم على تنظيمها عدة من المهندسين الفنيين.
وليست اقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها عملاً شاقاً وعسيراً، فان الاديان في تاريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار وليس لجميع ما يحفل به العالم اليوم من مفاهيم معنوية، وأحاسيس خلقية، ومشاعر وعواطف نبيلة.. تعليل أوضح واكثر منطقية من تعليل ركائزها واسسها بالجهود الجبارة التي قامت بها الاديان لتهذيب الإنسانية والدافع الطبيعي في الإنسان، وما ينبغي له من حياة وعمل.
وقد حمل الإسلام المشعل المتفجر بالنور، بعد ان بلغ البشر درجة خاصة من الوعي، فبشر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى، ورفع على أساسها راية انسانية وأقام دولة فكرية، أخذت بزمام العالم ربع قرن، واستهدفت الى توحيد البشر كله، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم اسلوب الحياة ونظامها. فالدولة الإسلامية لها وظيفتان: احداهما : تربية الإنسان على القاعدة الفكرية، وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها. والاخرى: مراقبته من خارج وارجاعه الى القاعدة الفكرية اذا انحرف عنها عملياً.
ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية
{98}
من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق مرده الى نظرة كلية كاملة نحو: الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل.
وكل وعي سياسي آخر فهو اما ان يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر الى العالم إلاّ من زاوية معينة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصة.. أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تمون البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه.