بسم الله الرحمن الرحيم
حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، والصلاة والسلام على خير الورى جوهر الحق وريحانه .
أما بعد :
فهذا الكتاب إنما هو فصلٌ من فصول كتابٍ كنت قد أعددته ، بعنوان " الاعجاز البلاغي في قصة يوسف عليه السلام ، ولما كان للإعجاز وجوه متعددة رأيت أن أفرد الحديث هنا عن الاعجاز القصصي ، فتناولت فيه المحاور التالية ، فتناولت المعنى اللغوي للقصص القرآني ، من ثم جماليات وحقيقة القصص القرأني ، تطرقت للمقاصد والأغراض التي جاء من أجلها القصص القرآني ، ولله المثل الأعلى فقد قمت بمقارنة سردية بين القصصي القرآني والعهد القديم " التوراة " ، وتم سرد بعض الدلالات النفسية في قصة يوسف عليه السلام ،وقد كان للقصص القرآني الأثر الكبير في الأدب العربي ، شعراً وقصة إلى غير ذلك من أبواب الأدب ؛ فاستعرضت بعض آثار قصة يوسف في الأدب والشعر ، ومن الملاحظ أن القصص القرآني كثيراً ما يتكرر في مواضع متعددة من القرآن الكريم ، إلا أن قصة يوسف عليه السلام لا يتكرر ذكرها ، ولذلك حكمة ، فمالحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام؟ ، ثم تطرقت للمستويات التي جاءت عليها القصة ، فذكرت المستويات هذه ،ثم تناولت شخصيات هذه القصة القرآنية .
والله أرجو أن يكون هذا العمل في ميزان الحسنات ، وأن يستفيد منه القارئ الكريم ، كما أرجو أن لا يفوته ال
لي وللمسلمين ، وما توفيقي إلا بالله .
المعنى اللغوي للقصص .
حين ننظر إلى المعنى اللغوي للقصة نجد أن أصل اشتقاقها يتلاقى مع أصل التسمية للقصص القرآني ؛ فالقصة مشتقة من القصص وهو تتبع الأثر واقتفائه ،قال الله تعالى:﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(1) ومن هذا قولهم:"قص الأثر"؛ أي نظر إليه واقتفى آثاره وشواهده قال الشاعر : قُلتَ في عينيهِ أفئدةٌ تُنَحِّي ما قص من أثره
يقال : قصصتُ أثره واقتصصته وتقصصته ، وخرجت في أثر فلان قصصاً ، قال عز وجل : ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ (2)، ومنه :
قص عليه الرؤيا والحديث ، قال تعالى في سورة يوسف:﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾(3) ؛ فالقص للأثر أشبه بما يعرف الآن بتصوير البصمات ، أو رفع الآثار وتصويرها ؛ ليستدل على ما وراءها من أحداث مضت ، والقصة في القرآن هي تتبع أحداثٍ ماضيةٍ واقعةٍ ، يعرض فيها ما يمكن عرضه ، ومن هنا جاءت تسمية الأخبار التي جاء بها القرآن قصصاً مما يدخل في المعنى العام لكلمة خبر أو نبأ ؛ فقد استعمل القرآن الخبر والنبأ بمعنى التحدث عن الماضي ، وإن كان قد فرق بينهما في المجال الذي استعملا فيه ، ومن هذه التفرقة نتبين دقة ألفظ القرآن الكريم ؛ جرياً على ما قام عليه نظمه من دقة وإحكام وإعجاز ؛ فقد استعمل النبأ عن الأحداث البعيدة زماناً أو مكاناً في حين استعمل الخبر في الكشف عن الوقائع قريبة العهد والوقوع، أو التي
لا تزال مشاهدتها قائمة للعيان (4) ؛ قال تعالى : ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القصص 11 2 - الكهف64
3- يوسف 5
4- القصص القرآني : عبد الكريم خطيب ، دار الفكر العربي ، ص 44
بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ (1) ، نجد أن القصص القرآني من قبيل الأنباء أو الأخبار التي بعد الزمن بها، واندثرت أو كادت تندثر؛ ولهذا سماها القرآن " أنباء الغيب "، وعندما نمضي بالنظر في القصص القرآني نرى أنه يجيء بمادته من الماضي البعيد، دون أن يكون فيه شيء من واقع الحال أو من متوقعات المستقبل (2) .