وأما المؤاخاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة حتى أنزل الله تعالى: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " فصاروا يتوارثون بالقرابة وفي ذلك أنزل الله تعالى: " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " وهذا هو المحالفة واختلف العلماء عل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ على قولين: أحدهما أن ذلك منسوخ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: " لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلى شدة ".
والثاني: أن ذلك محكم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه.
وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال أنه آخى بين أبي بكر وعمر وأنه آخى علياً ونحو ذلك فهذا كله باطل وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة وذلك نقل ضعيف إما منقطع وإما بإسناد ضعيف والذي في الصحيح هو ما تقدم ومن تدبر الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية الثابتة تيقن أن ذلك كذب.
وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: " إنما المؤمنون إخوة " وقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه " وقوله: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا يستام على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه " وقوله: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه " ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان والتزامها بمنزلة الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار فهذه فيها للعلماء قولان بناءً على أن ذلك منسوخ أم لا فمن قال: إنه منسوخ - كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه - قال: إن ذلك غير مشروع.
ومن قال إنه لم ينسخ - كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - قال: إنه مشروع.
وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول: على المشاركة في الحسنات وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه ونحو ذلك فهذه كلها شروط باطلة فإن الأمر يومئذ لله هو " يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً " وكما قال تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم وكذلك يشترطون شروطاً من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها وما أعلم أحداً ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ما شرطه الله ورسوله وفى بها بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال لا حقيقة له في المال وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله فضلاً عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك - وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع والله أعلم.
قاله أحمد بن تيمية الحراني.
كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى العارف بالله الشيخ نصر المنبجي قال الراوي: كتاب كتبه الشيخ الإمام وحيد دهره وفريد عصره علامة زمانه ناصر السنة مؤيد الشريعة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني فسح الله تعالى في مدته وأعاد علينا من بركته إلى الشيخ القدوة أبي الفتح نصر المنبجي سنة أربع وسبعمائة.
بسم الله الرحمن الرحيم: من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته وإرادته ومحبته حتى يظهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية وبين المؤمنين الصادقين الصالحين ومن تشبه بهم من المنافقين كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته.
أما بعد فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً منزلة عليه ومودة إليه لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد فإن العلم والإرادة أصل لطريق الهدى والعبادة وقد بعث الله محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم بأكمل محبة في أكمل معرفة فأخرج بمحبة الله ورسوله هي أصل الأعمال المحبة التي فيها إشراك وإجمال كما قال تعالى: " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله " وقال تعالى: " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره " .
ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني كما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " فجعل صلى الله تعالى عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقاً بمحبة الله ورسوله الفاضلة وبالمحبة فيه في الله وبكراهة ضد الإيمان.
وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً " فجعل ذوق طعم الإيمان معلقاً بالرضى بهذه الأصول كما جعل الوجد معلقاً بالمحبة ليفرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين الذوق والوجد الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة وبين ما أمر الله به ورسوله وبين غيره كما قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل إذ كان كل من أحب شيئاً فله ذوق بحسب محبته ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ".
قال الحسن البصري: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله فطالبهم بهذه الآية فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده وقد ذكرت نعت المحبين في قوله: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال الذي نعت لله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال المفرق في الملتين قلنا وهو الشدة والعزة على أعداء الله والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق كما قال فيه كبير من كبرائهم: مشرد عن الوطن مبعد عن السكن يبكي الطلول والدمن يهوى ولا يدري لمن.
فالشيخ أحسن الله إليه قد جعل فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة عن المجملة المشتركة وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضاً في التوحيد قال الله تعالى في أم الكتاب التي هي مفروضة على العبد وواجبة في كل صلاة أن يقول: " إياك نعبد وإياك نستعين " وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد "
رب العالمين " قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: " الرحمن الرحيم " قال الله: أثنى عليّ عبدي وإذا قال: " مالك يوم الدين " قال: مجدني عبدي أو قال فوض إلي عبدي وإذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال: فهؤلاء ولهذا روي أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في القرآن ومعاني القرآن في المفصل في أم الكتاب ومعاني أم الكتاب في هاتين الكلمتين " إياك نعبد وإياك نستعين " وهذا المعنى قد ثناه الله في مثل قوله: " فاعبده وتوكل عليه " وفي مثل قوله: " عليه توكلت وإليه أنيب " وقوله: " عليه توكلت وإليه متاب ".
وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في نسكه: " اللهم هذا منك وإليك " فهو سبحانه مستحق التوحيد الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين له
العباد بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته و
المسألة والاستعانة بالتوكل عليه والالتجاء إليه والسؤال له ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته وهو سبحانه الأول والآخر والباطن والظاهر.
ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب فيقول المصلي والذاكر الله أكبر وسبحان الله و
ولا إله إلا الله وكلمات الآذان: الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك.
وفي السؤال: " ربنا ظلمنا أنفسنا - رب اغفر لي ولوالدي - رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين - رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي " " ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " ونحو ذلك وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق من الأعيان والصفات وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية التي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستعيذ بها فيقول: " أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن " فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضاً ومطلوبه وهو محبوب الحق ومرضيه من التوحيد الإلهي الذي هو عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله والأمر بما أمر به والنهي عما نهى عنه والحب فيه والبغض فيه ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول فهو يشبه القدرية المشركية الذين قالوا " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " ومن أخذ بالثاني دون الأول فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد ولا شاء جميع الكائنات كما تقول المعتزلة والرافضة ويقع في كلام كثير من المتكلمة والمتفقهة والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم وإلا فهو لا يستمر وهو كثير في المتألهة الخارجين عن الشريعة خفو العدو وغيرهم فإن لهم زهادات وعبادات فيها ما هو غير مأمور به فيفيدهم أحوالاً فيها ما هو فاسد يشبهون من بعض الوجوه الرهبان وعباد البدود.
ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والولي من يكون منازعاً للقدر لا من يكون موافقاً له.
وهذا الذي قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية أي أن المسلم مأمور أن يفعل ما أمر الله به ويدفع ما نهى الله عنه وإن كانت أسبابه قد قدرت فيدفع الله بقدر الله كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب ال
عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن ال
والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض " وفي الترمذي قيل: يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً فقال: " هن من قدر الله " وإلى هذين المعنيين أشار الحديث الذي رواه الطبراني أيضاً عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " يقول الله يا ابن آدم إنما هي أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي.
فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه وأما التي هي بيني وبينك فمنك ال
وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين خلقي فأت الناس بما تحب أن يؤتوه إليك ".
ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية أو توحيد أحدهما للعبد فيه ثلاث مقامات: والثاني مقام الجمع والفناء بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده وبمعبوده عن عبادته وبموحده عن توحيده وبمذكوره عن ذكره وبمحبوبه عن حبه فهذا فناء عن إدراك السوى وهو فناء القاصرين.
وأما الفناء الكامل المحمدي فهو الفناء عن عبادة السوى والاستعانة بالسوى وإرادة وجه السوى وهذا في الدرجة الثالثة وهو شهود التفرقة في الجمع والكثرة في الوحدة فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها وأنه على كل شيء وكيل وأنه رب العالمين وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده لا خالق غيره و نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه ويشهد أيضاً فعل المأمورات مع كثرتها وترك الشبهات مع كثرتها لله وحده لا شريك له.
وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء والإسلام العام والإيمان العام وبه أنزلت السور المكية وإليه الإشارة بقوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " وبقوله: " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وبقوله تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ولهذا ترجم البخاري عليه: وقد قال تعالى: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " فجمع في الملل الأربع: " من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً " وذلك قبل النسخ والتبديل وخص في أول الآية المؤمنين وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: " لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً " والشرعة هي الشريعة والمنهاج هو الطريقة والدين الجامع هو الحقيقة الدينية وتوحيد الربوبية هو الحقيقة الكونية فالحقيقة المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين.
فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم " خير أمة أخرجت للناس " وبها أنزلت السور المدنية إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع وسنت السنن ونزلت الأحكام والفرائض والحدود فهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى والسكر وجد بلا تمييز فقد يقول في تلك الحال سبحاني أو ما في الجبة إلا الله أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء وكلمات السكر أن تطوى ولا تروى ولا تؤدى إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه.
فأما إذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني فسكر الأجسام بالطعام والشراب وسكر النفوس بالصور وسكر الأرواح بالأصوات وفي مثل هذا الحال غلط من غلط بدعوى الاتحاد والحلول العيني في مثل دعوى النصارى في المسيح ودعوى الغالية في علي وأهل البيت ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي.
فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " يقول الله: عبدي! مرضت فلم تعدني فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده عبدي! جعت فلم تطعمني فيقول: ربي كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي " ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أن جوع عبده ومحبوبه لقوله: " لوجدت ذلك عندي " ولم يقل لوجدتني قد أكلته ولقوله: " لوجدتني عنده " ولم يقل لوجدتني إياه وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضى أحدهما بما يرضاه الآخر ويأمر بما يأمر به ويبغض ما يبغضه ويكره ما يكرهه وينهى عما ينهى عنه.
وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولهذا قال تعالى فيه: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " وقال: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " وقال: " من يطع الرسول فقد أطاع الله ".
وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة إن صح أن المسيح قالها فهذا معناها كقوله: أنا وأبي واحد من رآني فقد رأى أبي.
ونحو ذلك وبها ضلت النصارى حيث اتبعوا المتشابه كما ذكر الله عنهم في القرآن لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وناظروه في المسيح.
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي " فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه.
وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل وإن قرب الفرائض أن يكون هو إياه فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة فهذا القرب يجمع الفرائض والنوافل فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية أتباع الأنبياء والمرسلين.
وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتاباً اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء ولم يكن القصد به والله واحداً بعينه وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين فعلينا أن نعينه في الدين والدنيا بما هو اللائق به وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم وقد كتبت في ذلك كتاباً ربما يرسل إلى الشيخ وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل والله تعالى يعلم وكفى به عليماً لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات - وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين - لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكشف أسرار الطريق وتهتك أستارها ولكن الشيخ أحسن الله تعالى إليه يعلم أن المقصود الدعوة النبوية بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل أن يكون الدين كله لله هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى: " إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً " وقال سبحانه: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ".
وقال تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور " وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى به الكتب وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيداً وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق وإنما كنت قديماً ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات والكنة والمحكم المربوط والدرة الفاخرة ومطالع النجوم ونحو ذلك ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه ونكشف حقيقة الطريق فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء وجب البيان وكذلك كتب إلينا من أطراف الشام رجال سالكون أهل صدق وطلب أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم والشيخ أيده الله تعالى بنور قلبه وذكاء نفسه وحق قصده من نصحه للإسلام وأهله ولإخوانه السالكين يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه ومغفرته في الدنيا والآخرة.
هؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين وذلك أن القسمة رباعية فإن كل واحد من الاتحاد والحلول إما معين في شخص وإما مطلق أما الاتحاد والحلول المعين كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة وفي المشايخ من جهال الفقراء والصوفية فإنهم يقولون به في معنى إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط وإما بالحلول وهو قول النسطورية وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية.
وأما الحلول المطلق: وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانوا يكفرون بذلك.
وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام فما علمت أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع مثل فرعون والقرامطة وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق وإن وجود ذات الله خالق السموات والأرض هي نفس وجود المخلوقات فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره ولا أنه رب العالمين ولا أنه غني وما سواه فقير لكن تفرقوا على ثلاثة طرق وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم لأنه أمر مبهم: الأول أن يقولوا إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية حتى ذوات الحيوان والنبات والمعادن والحركات والسكنات وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات فوجودها وجود الحق وذواتها ليست ذوات الحق ويفرقون بين الوجود والثبوت فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك ويقولون إن الله سبحانه لم يعط أحداً شيئاً ولا أغنى أحداً ولا أسعده ولا أشقاه وإنما وجوده فاض على الذوات فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك ويقولون إن هذا هو سر القدر وإن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجاً عن نفسه المقدسة ويقولون إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم وإنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها سبحانه فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد وإنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به الرسل ويقولون إنهم لم يعبدوا غير الله ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى وإن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه وإن قوله تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " معنى حكم لا معنى أمر فما عبد غير الله في كل معبود فإن الله تعالى ما قضى بشيء إلا وقع ويقولون إن الدعوة إلى الله تعالى المكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية وإن قوم نوح قالوا: " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً " لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منهم لأن الحق في كل معبود وجهاً يعرفه من عرفه وينكره من أنكره وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة كالقوى المعنوية في الصورة الروحانية وإن العارف منهم يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد فإن الجاهل يقول هذا حجر وشجر والعارف يقول هذا محل إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر فإن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا وإن عباد الأصنام ما أخطأوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر والعارف يعبد كل شيء والله يعبد أيضاً كل شيء لأن الأشياء غذاؤه بالأسماء والأحكام وهو غذاؤها بالوجود وهو فقير إليها وهي فقيرة إليه وهو خليل كل شيء بهذا المعنى ويجعلون أسماء الله الحسنى وهي مجرد نسبة وإضافة بين الوجود والثبوت وليست أموراً عدمية ويقولون: من أسمائه الحسنى العلي عن ماذا وما ثم إلا هو وعلى ماذا وما ثم غيره فالمسمى محدثات وهي العلية لذاتها وليست إلا هو وما نكح سوى نفسه وما ذبح سوى نفسه والمتكلم هو عين المستمع.
وإن موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل لضيقه وعدم اتساعه وإن موسى كان أوسع في العلم فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله وإن أعلى ما عبد الهوى وإن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله وفرعون كان عندهم من أعظم العارفين وقد صدقه السحرة في قوله أنا ربكم الأعلى وفي قوله: ما علمت لكم من إله غيري وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين وأقول إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون المنكر لوجود الخالق الصانع حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون نحن على قول فرعون وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص المضاف إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه جاء به وهو ما إذا فهم المسلم بالاضطرار أن جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الأولياء والصالحين بل جميع عوام أهل الملل من اليهود والنصارى والصابئين يبرؤون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه كله ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع الخالق البارئ المصور - الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور - ربهم ورب آبائهم الأولين - رب المشرق والمغرب.
ولا يقول أحد منهم أنه عين المخلوقات ولا نفس المصنوعات كما يقوله هؤلاء حتى أنهم يقولون لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله وهذا مركب من أصلين: أحدهما أن المع
شيء ثابت في العدم كما يقوله كثير من المعتزلة والرافضة وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب والسنة والإجماع وكثير من متكلمة أهل الإثبات كالقاضي أبي بكر: كفر من يقول بهذا وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها وإنها مثبتة عنده في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن ظلم الله تعالى فإن مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سورة " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " فذكر المراتب الأربع وهي الوجود العيني الذي خلقه والوجود الرسمي المطابق للفظي الدال على العلمي وبين أن الله تعالى علمه ولهذا ذكر أن التعليم بالقلم فإنه مستلزم للمراتب الثلاثة وهذا القول - أعني قول من يقول: إن المع
شيء ثابت في نفسه خارج عن علم الله تعالى - وإن كان باطلاً ودلالته واضحة لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة وابن العربي وافق أصحابه به وهو أحد أصلي مذهبه الذي في الفصوص.