جانبي فروقة
مقالات سابقة للكاتب
إبحث في مقالات الكتاب
حقوق الإنسان تدمى في عالم مزدوج المعايير.. الامة السليمة من تجعل الحرية عنوان نبالتها
منذ إصدار الإعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 وانعقاد المؤتمر العالمي الأول لحقوق الانسان في طهران سنة 1968 ومن ثم انعقاد المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الانسان في فيينا عام 1993 ومفاهيم حقوق الانسان تظهر وتتبلور في ثنايا الرأي العالمي وبين كل الجادين والباحثين في هذا الميدان لتخرج بفهم جديد يسبغ على هذه الحقوق صفة الشمولية وعدم إمكانية تجزئتها ورفض كل المعايير المزدوجة في التعامل مع قضية حقوق الانسان، والتأكيد على حرية تقرير المصير ومنهجية الديمقراطية التي تبدأ من القاعدة لتنتهي ببناء هرم السلطة، والقلق المتزايد من الطابع العسكري لأنظمة الحكم في دول العالم الثالث والغوص في مستنقع الحروب الطائفية والنزاعات الإقليمية والدينية التي تستنزف خيرات وطاقات البلاد والشعوب، حيث ما زال القرن المنصرم شاهدا على فناء أكثر من مائة مليون شخص نتيجة قرار بشري.
ورد مؤخرا في تقرير منظمة العفو الدولية السنوي لعام 2000 والذي يستعرض انتهاكات حقوق الانسان في 144 بلدا لعام 1999، أن الكثير من أزمات حقوق الانسان التي ما زلنا نشهدها في شتى أنحاء العالم كان بالإمكان تجنبها لو أن المجتمع الدولي وضع حقوق الإنسان على رأس أولوياته. وأن أزمات حقوق الانسان ليست على الإطلاق حتما محتوما، وإنما يمكن، بل يجب، منعها. العبودية المختارة يقول ضاهر غندور: إن الانسان عبارة عن جهاز صغير في آلة ضخمة تخضع لها، وهي الدولة وأولئك الذين يسكتون عن وجود الظلم، إنما هم في الواقع شركاء فيه، فإذا تلاقت السلطة مع الطاعة باستمرار فسوف تدعي عاجلا أو أجلا، عصمتها عن الخطأ.
إن الأمة السليمة هي من تجعل من الحرية عنوان نبالتها. وإذا كان تطور الأمة مرهونا بأفرادها، فإن الانسان لا يتطور بامتلاك الوسائل بل بتطوير الغايات. وفي وصفة سياسية صحية للدكتور خالص جلبي يقول: يجب أن لا تختزل الأمة في فرد فتصادر الحريات وتوأد الأفكار. وتناول سارتر مفهوم الحرية بفهم عميق قائلا: «إن حريتنا كانت الشيء الوحيد الذي ليس لنا الحرية في أن نتخلى عنه، ومع ذلك وبالرغم من أن الانسان هو الموجود الوحيد الذي يشعر بأنه حر إلا أنه الوحيد الذي لا يكاد يكف عن تكذيب شهادة شعوره واضعا نفسه موضوع التساؤل». لقد أفلتت شمس الحرية عندما دخل الانسان في أتون العبودية المختارة المليء بأحداث العنف والاضطهاد في ظل الطغاة المستبدين. وخير من عبر عن ذلك كان آتين لابواسيه وهو يقول في مقاله «العبودية المختارة»: لست أبتغي إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم أن يحتملوا أحيانا طاغية واحدا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته. إنه لأمر جلل حقا، وانتشر انتشارا ادعى منه إلى العجب، أن نرى الملايين من البشر يخدمون في بؤس، وقد غلت أعناقهم من دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر، بل هم في ما يبدو قد سحرهم وأخذ بألبابهم مجرد الاسم الذي ينفرد به البعض، كان أولى بهم ألا يخشوا جبروته فليس معه غيره ولا يعشقوا صفاته فما يرون منه إلا خلوه من الانسانية ووحشيته. إن ضعفنا نحن البشر كثيرا ما يفرض علينا طاعة القوة. ولطالما كانت فكرة تأليه الأشخاص بمثابة الموجة العاتية التي تقذف بالحرية في وجه الأعاصير وهيجان رحلة القفز إلى العرش فوق خنادق الموت. كان لابواسيه يملك بصيرة نافذة على الأحداث وهو يرصد طريق العبودية قائلا: طالما بقي بالانسان أثر من الانسان فهو يقينا لا ينساق إلى العبودية إلا عن أحد سبيلين إما مكروه أو مخدوع. إن الشعوب هي التي تترك القيود تكبلها أو قل إنها تكبل نفسها بنفسها ما دام خلاصها مرهونا بالكف عن خدمة طغاته والشعب أيضا هو الذي يقهر نفسه بنفسه ويشق حلقه بيده. العادة أول أسباب العبودية المختارة، والثقافة والتربية العاملان الرئيسيان في صنع العادات وصيرورتها. وهنا نستذكر قصة ليكورج (مشرع اسبرطة) الذي ربى كلبين خرجا من بطن واحد ورضعا الثدي ذاته، فجعل أحدهما يسمن في المطابخ وترك الآخر يجري في الحقول وراء أبواق الصيد. فلما أراد أن يبين لشعب لاسي
ونيا أن الناس هم من ما تصنع بهم تربيتهم، جاء بالكلبين وسط السوق، ووضع بينهما حساء وأرنبا، فإذا أحدهما يجري وراء الطبق والآخر وراء الأرنب، فقال ليكورج: ومع هذا فهما أخوان إن المصيبة الكبيرة هي في تعود الشعوب على تحمل الآلام لدرجة فقدان الحساسية فيصبح مرضا مميتا ولا يفضي إلى المخاض والولادة من جديد.
يكمن جوهر حقوق الانسان في الحرية وخزنتها كل الشرائع السماوية، كان لدوي صرخة عمر بن الخطاب رضي الله عنه «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» أكبر أثر في التأكيد على الكينونة المقدسة للحرية، وفي تنازل الفرد عن حريته خيانة لعهده وزج لصيرورته في غياهب التخلف. والحرية المنشودة هنا لا نعني بها إطلاق الرغبات دون قيود وعلى حد تعبير الدكتور نعيم عطية: ان الحرية لا تتمثل في التحلل من الالتزامات بل في أن يقدر المرء التزاماته بنفسه ويقوم بتنفيذها بمحض رضاه لأن حياة الانسان هي اجتماعية مهما كانت ولا بد أن تقدر حريته في إطار المجتمع. وقد كان سبينوزا يعتبر أن العجز الانساني عن التحكم بالعواطف أو الاعتدال فيها هو عبودية، ولكن الرغبة التي تنبعث من العقل لا يمكن أن تكون مسرفة. ومن هنا ينتهي إلى عبارته الشهيرة «ان الحرية هي الضرورة المدركة» وعن طبيعة الحرية نسمع فخر الدين الرازي يقول «الحرية عفة غريزية للنفس لا تكون بالتعويد والتعليم». وعن مفاهيمها يميز الدكتور زكريا ابراهيم بين أربعة مفاهيم للحرية: حرية الاختيار القائمة على الإرادة المطلقة ثم الحرية الأخلاقية أو حرية الاستقلال الذاتي القائم على التدبير والرؤية ثم حرية الحكيم أو حرية الكمال المتحررة من كل رغبة أو كراهية، وأخيرا حرية العملية السيكولوجية القائمة على الفعل الروحي التلقائي الذي يعبر عن شخصيتنا وهذه هي المرتبة العليا للحرية تلتقي مع تعريف فخر الدين الرازي. لذلك فالحرية الكوزموبوليتية (المتحررة من الأحقاد والشرور) هي شرط الوصول إلى وعي للحرية بمفهومها الشامل.
كاتب من الشيشان مقيم بالسعودية