غزوة بني قَيْنُقَاع
في ظلال السيوف
نصيحة الرسول لهم وردهم عليه:
قال ابن إسحاق: وقد كان فيما بين ذلك من غزو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر بني قينقاع، وكان من حديث بني قينقاع أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جمعهم بسوق "بني قينقاع"، ثم قال: يا معشرَ يهود، احذروا من الله مثلَ ما نزل بقريشٍ من النقمة وأسلموا، فإنَّكم قد عرفتم أني نبيٌّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم ، قالوا : يا محمدُ، إنَّك ترى أنّا قومك؟! لا يغرنك أنَّك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فُرصةً، إنَّا- والله- لئن حاربناك لتعلمن أنا نحنُ الناس(1).
ما نزل فيهم:
قال ابنُ إسحاق : فحدَّثني مولى لآل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جُبير، أو عن عِكْرِمة عن ابنِ عبَّاس، قال: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (12) سورة آل عمران{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا}أي أصحاب بدر من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقريش {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} (13) سورة آل عمران.
كانوا أول من نقض العهد:
قال ابنُ إسحاق : وحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة : أنَّ "بني قينقاع" كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسولِ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
سبب الحرب بينهم وبين المسلمين:
قال ابنُ هشامٍ : وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون قال: كان من أمر "بني قينقاع" أنَّ امرأةً من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته بسوق "بني قينقاع"، وجلست إلى صائغٍ بها، فجعلوا يُريدونها على كشف وجهها، فأبتْ، فعمد الصائغُ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلمَّا قامتْ انكشفت سوأتُها، فضحكوا بها، فصاحتْ. فوثب رجلٌ من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، وشدت اليهودُ على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشرُّ بينهم وبين" بني قينقاع".
ما كان من ابن أُبي ابن سلول مع الرَّسول:
قال ابنُ إسحاق : وحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: فحاصرهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتَّى نزلوا على حُكْمه، فقام إليه عبدُ الله بن أُبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمدُ، أحسنْ في مواليَّ، وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -، فقال: يا محمدُ أحسنْ في مواليَّ قال: فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – (قال ابنُ هشامٍ : وكان يُقال لها: ذاتُ الفضولِ).
قال ابنُ إسحاق : فقال له رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (أرسلني)، وغضب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: (ويحك أرسلني)، قال: لا -والله -لا أُرسلك حتى تحُسنَ في مواليَّ، أربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداةٍ واحدةٍ، إني –والله- امرؤٌ أخشى الدوائرَ، قال: فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (هم لك).
مدة حصارهم:
قال ابنُ هشامٍ : واستعمل رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - على المدينة في محاصرته إيَّاهم بشيرَ بن عبد المنذر، وكانت محاصرتُه إيَّاهم خمس عشرة ليلة. راجع سيرة ابن هشام (3/113-115).
التسليم والجلاء:
وبعد الحصار نزلوا على حكم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا. وكان من ابن أبي ما كان، ثم أمرهم النبي أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوره بها فخرجوا إلى أذرعات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم، وقبض رسول الله أموالهم فأخذ منها ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة. راجع " الرحيق المختوم" ص 217.
تبرؤ ابنِ الصَّامت من حِلفهم، وما نزل فيه، وفي ابن أُبي:
قال ابنُ إسحاق : وحدَّثني أبي إسحاق بن يسار، عن عُبادة بن الوليد بن عُبادة بن الصَّامت، قال: لمَّا حاربت "بنو قينقاع" رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - تشبث بأمرهم عبدُ الله بن أُبي ابن سلول ،وقام دونهم. قال: ومشى عُبادة بن الصَّامت إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وكان أحدَ بني عوف، لهم من حلفه مثلُ الذي لهم من عبد الله بن أُبي، فخلعهم إلى رسولِ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم - وتبرَّأ إلى الله - عَزَّ وجَلَّ - وإلى رسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم - من حِلْفهم ، وقال: يا رسولَ الله ، أتولَّى الله ورسولَهُ- صلَّى الله عليه وسلَّم– والمؤمنين، وأبرأُ من حِلْف هؤلاءِ الكُفَّار وولايتهم.
قال : ففيه، وفي عبد الله بن أُبي نزلتْ هذه القصةُ من المائدة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين َفَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (51) سورة المائدة. أي لعبد الله بن أُبي، وقوله: إنِّي أخشى الدوائرَ {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (52)(53) سورة المائدة.ثم القصة إلى قوله تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة. وذكر لتولي عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا، وتبرئه من" بني قينقاع" وحِلْفهم وولايتهم {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (56) سورة المائدة.(2)
للمزيد راجع:
"السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" لمهدي رزق الله أحمد (369-371) و"سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" للصالحي (4/179-181)، و"زاد المعاد" لابن قيم الجوزية (3/190)، و"الرحيق المختوم" للمباركفوري (262-267)، و"ابن هشام" (3/9-11)، و"عيون الأثر في سيرة خير البشر" لابن سيد الناس (1/443-446).
الفوائد من غزوة بني قينقاع
1. تسجيل خيانة اليهود وغدرهم وانعدام وفائهم بأي التزام يدعونه.
2. تقرير أن الحجاب هو ستر وجه المرأة عن الرجال الأجانب.
3. بيان فضل المؤمن الذي غضب لله فقتل اليهودي الساخر من المؤمنة فقتل شهيداً -رضي الله عنه-.
4. تسجيل الكرم المحمدي في أعظم صورة وأعلى مثال، وذلك بين ظاهر في قبوله شفاعة ابن أبي وعفوه عن الخائنين الغُدَّر عليهم لعائن الله.
5. فضيلة عبادة بن الصامت الذي تبرأ من اليهود وأعلن ولاءه لله ورسوله وللمؤمنين. راجع "هذا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- يا محب" ص (247 - 248).
6. هذه الواقعة تدل في جملتها، على مدى ما رُكِّب في اليهود من طبيعة الغدر والخيانة، فلا تروق لهم الحياة مع من يجارونهم أو يخالطونهم إلا بأن يبيتوا لهم شراً، أو يحيكوا لهم غدراً، وهم على أتمَّ الاستعداد لأن يخلقوا جميع الوسائل والأسباب لذلك.
7. هذه الحادثة تدل على حقد دفين في صدور اليهود على المسلمين، والذي ألهب مشاعرهم وأثار الحقد الدفين في نفوسهم إنما هو ما وجدوه من انتصار المسلمين في بدر، وهو أمر لم يكونوا يتوقعونه بحال، فضاقت صدورهم بما احتوته من الغيظ والأحقاد، ولم يجدوا إلا أن ينفسوا عنها بمثل هذا الذي أقدموا عليه.
8. معاملة المنافق في الإسلام: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عامل ابن أبي على رغم ما عمله على أنه مسلم، فلم يخفر ذمته، ولم يعامله معاملة المشرك، أو المرتد أو الكاذب في إسلامه، وأجابه إلى ما أصر وألح في طلبه، وذلك يدل - كما أجمع العلماء- على أن المنافق إنما يعامل في الدنيا من قبل المسلمين على أنه مسلم، وإن كان نفاقه مقطوعاً به، وسبب ذلك أن الأحكام الإسلامية في مجموعها تتكون من جانبين: جانب يطبق في الدنيا ويكلف المسلمون بتطبيقه على مجتمعاتهم، وفيما بينهم، ويشرف على ذلك الخليفة أو رئيس الدولة، وجانب آخر يطبق في الآخرة، ويكون أمره عائداً إلى الله - تعالى-.
9. لا يجوز لأي مسلم أن يتخذ من غير المسلمين ولياً له، أي صاحباً تشيع بينهما مسؤولية الولاية والتعان، وهذا من الأحكام الإسلامية التي لم يقع الخلاف فيها بين المسلمين. راجع "فقه السيرة النبوية" للبوطي (168-171).
10. إن طوائف اليهود التي عاشت بين العرب كانت عصابات من المرتزقة اتخذت الدين عنواناً لمطامع اقتصادية بعيدة المدى، فلما توهمت أن هذه المطامع مهددة بالزوال ظهر الكفر المخبوء، فإذا هو كفر بالله وسائر المرسلين، ولم يعرف أولئك شرفاً في حرب الإسلام، ولم يقفهم حد أو عهد في الكيد له، فلم يكن بد من إجلائهم وتنظيف الأرض منهم. راجع "فقه السيرة" للغزالي (ص243)
محمد رجب سعيد Medo_pasha2010
ااااااااااااااا