روي أنه كان في البصرة نساءٌ عابدات ، و كانت منهن أم إبراهيم الهاشمية ، فأغار العدو على ثغرٍ من ثغور المسلمين ، فانتدب الناس للجهاد ، فقام عبد الواحد بن زيد البصري في الناس خطيباً ، فحظّهم على الجهاد ، و كانت أم إبراهيم هذه حاضرةً في مجلسه ، و تمادى عبد الواحد في كلامه ، ثم وصف حور العين و ذكر ما قيل فيهن ، و أنشد في وصف حوراء :
غادة ذات دلالٍ و مــرح *** يجد الناعت فيها ما اقترحْ
خُلِقَت من كل شيء حسـنٍ *** طيّبٍ ، فاللَّيت فيها مطَّرحْ
زانها الله بوجهٍ جمعـــت *** فيه أوصافٌ غريباتُ الُملَحْ
و بعينٍ كحلها من غنجها *** و بخدٍ مسكه فيه رَشَحْ
ناعمٌ تجري على صفحتــه *** نضرةُ المُلك و لألاءُ الفرحْ
فماج الناس بعضهم في بعض ، و اضطرب المجلس ، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس ، وقالت لعبد الواحد : " يا أبا عبيد ، ألست تعرف ولدي إبراهيم ، و رؤساء أهل البصرة يخطبونه على بناتهم ، و أنا أضن به عليهم ، فقد و الله أعجبتني هذه الجارية ، و أنا أرضاها عروسا لولدي ، فكرر ما ذكرت من حسنها و جمالها ".. فأخذ عبد الواحد في وصف الحوراء ، ثم أنشد :
تولًّد نورُ النور من نور وجهها + فمازج طيب الطّيبِ من خالص العطرِ
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى + لأعشبت الأقطار من غير ما قَطْرِ
و لو شئتَ عَقْدُ الخِصْرِ منها عقدتُه + كغصنٍ من الريحان ذي ورقٍ خضرِ
و لو تفلتْ في البحر شهدَ رضابَهـا + لطاب لأهل البَّر شربٌ من البحرِ
فاضطرب الناس أكثر ، فوثبت أم إبراهيم ، و قالت لعبد الواحد : " يا أبا عبيد ، قد و الله أعجبتني هذه الجارية و أنا أرضاها عروساً لولدي ، فهل لك أن تزوّجه منها ، و تأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار ، و يخرج معك في هذه الغزوة ، فلعل الله يرزقه الشهادة ، فيكون شفيعا لي و لأبيه يوم القيامة ؟ " ..
فقال لها عبد الواحد : " لئن فعلتِ ، لتفوزنّ أنتِ و ولدكِ و أبو ولدكِ فوزاً عظيماً " . فنادت ولدها : " يا إبراهيم " ، فوثب من وسط الناس ، و قال لها : " لبيك يا أماه " ، قالت : " أي بني ، أرضيتَ بهذه الجارية زوجةً لك ، ببذل مهجتكَ في سبيل الله ، و تركِ العود من الذنوب ؟ "
فقال الفتى : " إي و الله يا أماه .. رضيتُ أي رضى " ، فقالت : " اللهم إني أشهدك أني زوجت ولدي بهذه الجارية ، ببذل مهجته في سبيلكَ ، و تركِ العود في الذنوب ، فتقبله مني يا أرحم الراحمين " .
ثم انصرفتْ ، فجاءت بعشرةِ آلافِ دينار ، و قالت : " يا أبا عبيد ، هذا مهر الجارية تجهّزْ به و جهّزِ الغزاةَ في سبيل الله " ، و انصرفتْ فاشترتْ لولدها فرساً جيداً و استجادتْ له سلاحاً ، فلما خرج إبراهيم يعدو و القراء حوله يقرءون : " إِنَّ الله اشتَرَى مِنَ الُمؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بَأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ " ، فلما أرادت أم إبراهيم فراقَ ولدِها ، دفعتْ إليه كفناً و حنوطاً ، و قالت له :
" أي بني ، إذا أردت لقاءَ العدو فتكفّنْ بهذا الكَفَن ، و تحنًّطً بهذا الحنوط ، و إياك أن يراك الله مقصراً في سبيله " ، ثم ضمَّتْه إلى صدرها و قبَّلَتْ ما بين عينيه و قالت : " يا بني ، لا جمع الله بيني و بينك إلا بين يديه في عرصاتِ يوم القيامة " !!
قال عبد الواحد : فلما بلغنا بلاد العدو ، و برز الناس للقتال ، برز إبراهيمُ في المقدمة فقتل من العدوِّ خلقاً كثيراً ، ثم اجتمعوا عليه فقتلوه ..
فلما أردنا الرجوعَ إلى البصرة ، قلت لأصحابي : " لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء ، لئلا تجزعْ فيذهب أجرها "..
قال فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقوننا ، و خرجت أم إبراهيم فيمن خرج ، فلما أبصرتْني قالت : " يا أبا عبيد ، هل قُبِلَتْ مني هديتي فَأُهَنَّأ ، أم رُدَّتْ عَلَيَّ فَأُعَزَّى ؟" .. فقلتُ لها : " قد قُبِلَتْ و الله هديتكِ ، إن إبراهيم حي مع الشهداء – إن شاء الله – " ، فخرَّتْ ساجدةً لله
ً ، و قالت : "
الذي لم يخيِّب ظني ، و تَقَبَّلَ نُسُكي مِنِّي " .. و انصرفت ..
فلما كان من الغد أتت المسجد ، فقالت : " السلام عليكَ يا أبا عبيد ، بُشراكَ..بُشراكَ "، فقال : " لا زلتِ مبشِّرَةً بخير " ، فقالت : " رأيتُ البارحةَ ولدي إبراهيم في روضةٍ حسناءَ ، و عليه جبةٌ خضراءَ ، و هو على سريرٍ من لؤلؤٍ ، و على رأسه إكليلٌ ، و هو يقول لي :
" يا أمَّاه .. أبشري ..
فقد قُبِلَ المَهْرُ ..
وَ زُفَّتِ العروس " ..