مولده وعائلته
في بيت صغير متواضع،"من بيوت وزارة الأوقاف المصرية ب"درب الميضة" ـ الميضأة ـ وراء "المقام الزينبي" في حي السيدة زينب بالقاهرة؛ ولد "يحي حقي" في يوم السبت الموافق 7 يناير سنة 1905 م، لأسرة تركية مسلمة متوسطة الحال؛غنية بثقافتها ومعارفها، هاجرت من ( الأناضول ) وأقامت حقبة في شبه جزيرة "المورة"، وقد نزح أحد أبناء هذه العائلة إلى مصر ـ في أوائل القرن التاسع عشر ، قادما من اليونان ، ـ هو " إبراهيم حقي " ( توفي سنة 1890 ) وكانت خالته السيدة حفيظة المورالية (خازندارة ) بقصور الخديوي إسماعيل ؛ فتمكنت من تعيين قريبها الوافد في خدمة الحكومة ، فاشتغل زمناً في دمياط ثم تدرج في الوظائف حتى أصبح مديراً لمصلحة في بندر المحمودية بالبحيرة ؛ ثم وكيلاً لمدرية البحيرة ؛ هذا الرجل هو جد يحيى حقي . وقد كون "إبراهيم حقي" أسرة تركية المعدن تنصهر في بوتقة البيئة المصرية؛ فأنجب ثلاثة أبناء هم على الترتيب:محمد (والد يحيى حقي)، ومحمود طاهر حقي ( ولد في دمياط سنة 1884م ،وتوفي في يناير 1965م، وهو الأديب المعروف )، وأخيراً كامل حقي ( توفي في 2 من مايو سنة 1972 م ) .
وكان محمد إبراهيم حقي ـ والد يحيى ـ من بين أفراد تلك العائلة ، الذين جروا على أعراف أبناء جلدتهم حيث حرص على الزواج من سيدة تركية الأصل تجيد القراءة والكتابة في زمن تفشت فيه الأمية بين نساء جيلها عامة ، هذه الفتاة تدعى ( سيدة هانم حسين ) تنتمي إلى أب تركي وأم ألبانية ، وقد التقت أسرتا "سيدة هانم " ومحمد حقي في بندر المحمودية بالبحيرة ،وزفت "سيدة" إلى "محمد" الموظف بنظارة الأوقاف ؛ وكان لمحمد ميل شديد للآداب والفنون يوافق ميل زوجه للتفقه في الدين وقراءة السير والمغازي؛ وقد أنجب محمد حقي عدداً كبيراً من الأبناء ؛هم على الترتيب :إبراهيم، إسماعيل ، يحيى ، زكريا ، موسى ، فاطمة ، حمزة ، مريم ... ، وقد توفي حمزة ومريم وهما طفلان، كما توفي عدد آخر من الأطفال قبل أن يبلغوا من العمر شهوراً . كان والد يحيى حقي يقتني العديد من المجلات السيارة في مطلع هذا القرن ؛ أما والدته فكانت متعلمة لها حزم وبصر ، وتصرف في الأمور ؛ فكانت تدير المنزل وتدبر شئونه ؛ ويبدو أن محمد إبراهيم حقي شأنه شأن كل رجال الأُسَرِ في ذلك الوقت يترك لزوجته تحمل مسئولية تربية أبنائها ـ خاصة إذا كانت ربة الأسرة لها قسط من التعليم ـ وقد كانت أم يحيى حقي ضليعة في تربية أبنائها ومراعاة مصالحهم وسد احتياجاتهم ، وظلت حريصة على إلحاقهم بأعلى مستويات التعليم.
كان عمه محمود طاهر حقي:الأديب المعروف ، صاحب مجلة "الجريدة الأسبوعية ". أما الأخ الأكبر ليحيى فهو الأستاذ "إبراهيم حقي" كان يعمل في الخاصة الملكية ثم انتقل بعد ذلك للعمل في إحدى الشركات التجارية الكبرى ( فيلبس ) وكان له ولع بالكتابة حيث إنه شارك في مطلع حياته بالكتابة في مجلة ( السفور ) . ثاني اخوته الدكتور ( إسماعيل حقي )، قضى زمناً في التدريس في المعاهد المصرية ثم أحيل إلى المعاش وسافر إلى الرياض ليعمل بجامعة الملك سعود ، أما أخوه الذي يصغره وهو الرابع في الترتيب فهو " زكريا حقي " الذي درس الطب وعمل مديراً بإحدى مصالح وزارة الصحة ، ثم الأستاذ "موسى حقي " الذي تخرج في كلية التجارة ، ثم حصل على درجة ( الماجستير ) في السينما وكان يشغل وظيفة كبيرة بإحدى المؤسسات السينمائية ؛ أما فاطمة وزوجها الأستاذ "سيد شكري" فكانا قارئين نهمين للأدب. هذه هي عائلة يحيى حقي التي ولد بين أحضانها وتربى فوق مهاد أفكارها .
تعليمه
تلقى يحيى حقي تعليمه الأوليَّ في كُتَّاب "السيدة زينب" ، وبعد أن انتقلت الأسرة من "السيدة زينب" لتعيش في "حي الخليفة"، التحق سنة 1912 بمدرسة "والدة عباس باشا الأول" الابتدائية بحي "الصليبية" بالقاهرة ، و هذه المدرسة تتبع نفس الوقف الذي كان يتبعه ( سبيل أم عباس ) القائم حتى اليوم بحي "الصليبية" ، وهي مدرسة مجانية للفقراء والعامة ، وهذه المدرسة هي التي تعلم فيها مصطفى كامل باشا . قضى "يحيى حقي" فيها خمس سنوات غاية في التعاسة ، خاصة بعد رسوبه في السنة الأولى إثر ما لقي من مدرسيه من رهبة وفزع ؛ لكنه استطاع ـ بعد صدمة التخلف عن أقرانه ـ أن يقهر إحساسه بالخوف وأن يجتهد محاولاً استرضاء والدته التي تكد وتكدح جاهدة للوصول بهم إلى بر السلامة ، وفي عام 1917 حصل على الشهادة الابتدائية ، فالتحق بالمدرسة السيوفية ، ثم المدرسة الإلهامية الثانوية بنباقادان ، وقد مكث بها سنتين حتى نال شهادة الكفاءة ، ثم التحق عام 1920م بالمدرسة "السعيدية" ـ وكان يسكن حينئذ مع أسرته في شارع محمد على ـ عاماً واحداً ، انتقل بعده إلى المدرسة "الخديوية" التي حصل منها على شهادة ( البكالوريا ) ، ولما كان ترتيبه الأربعين من بين الخمسين الأوائل على مجموع المتقدمين في القطر كله ، فقد التحق في أكتوبر 1921م بمدرسة الحقوق السلطانية العليا في جامعة فؤاد الأول، وكانت وقتئذٍ لا تقبل سوى المتفوقين ، وتدقق في اختيارهم . وقد رافقه فيها أقران وزملاء مثل: توفيق الحكيم، وحلمي بهجت بدوي ، والدكتور عبد الحكيم الرفاعي ؛ وقد حصل منها على درجة (الليسانس) في الحقوق عام 1925، وجاء ترتيبه الرابع عشر، وكان يتمنى أن يكون بين أولئك الذين سترسلهم مدرسة الحقوق في بعثات إلى جامعات أوروبا ؛ لإعدادهم لشغل مناصب الأساتذة تدعيماً لحركة تمصير مدرسة الحقوق العليا، وإحلال الأساتذة المصريين محل الأساتذة الأجانب، إلا أنه رسب في الكشف الطبي وخرج من دائرة المرشحين الأصليين إلى مرتبة المرشح الاحتياطي.
وإنني أشك في هذه الرواية التي كتبها الأستاذ "مجدي حسنين" بمجلة "الشاهد" في مقدمته لحوار أجراه مع يحيى حقي؛ فقد كان لدى يحيى حقي الطموح لذلك قبل أداء الامتحانات ، لا بعده ؛ إذ أنه لم يوفق للتفوق في بعض المواد؛ فتأخر بترتيبه إلى المرتبة الرابعة عشرة. وأياً كان الأمر فقد كانت مدرسة الحقوق نهاية المطاف الرسمي للتعلُّم عند يحيى حقي، التعلّمُ المعتمد بشهادات رسمية، ليبدأ مراحل جديدة من التثقيف العلمي والمعرفي الذاتيين.
عمله
كان يحيى حقي صبوراً وطموحاً في آن واحد ، إذ يقبل ما يتاح له من عمل ويجتهد فيه ؛ لكنه لا يلبث أن يتقدم لغيره ما دام متاحاً ، وما كان ذلك ممكناً ؛ فهو في مطلع حياته العملية كان يطمح إلى العمل بالجامعة، وتعلقت نفسه تعلقا شديدا ببعثة إعداد خريجين لشغل منصب أساتذة بدلاً من الأجانب؛لكن "الكشف الطبي" حال دون بقاء هذا الأمل ؛ أو " أن الدور لم يأت عليه " مطلقاً ؛ فنـزل من مرتبة المرشح الأصلي إلى مرتبة الاحتياطي؛ لتصبح مدرسة الحقوق ـ كما قلت ـ هي نهاية المطاف الرسمي للتعلّم عنده.
لم يكن هناك بد من أن يقف في طابور طالبي الوظائف مثله في ذلك مثل جميع أفراد أسرته الذين لم يجرؤ أحد منهم على العمل في المهن الحرة ؛ فأصبح أمله أن يعينه ترتيبه المتقدم للحصول على وظيفة في قلم قضايا الحكومة، ولما أن كانت وظائف النيابة المختلفة حكراً على أولاد الذوات، وعلى من يجيد الحديث باللغة الفرنسية؛ اضطر ـ لذلك ـ أن يقدم طلباً للنيابة الأهلية ؛ فعمل بها فترة تحت التمرين؛ دون أن يكون راضياً عن عمله، وقد اختار العمل بمكتب نيابة " الخليفة " ومقرها شارع نور الظلام ـ ( وذلك في مبنى المحكمة الشرعية ) ـ لقربه من مسكنه ، وبهذه الوظيفة بدأ يحيى حقي حياته العملية، وأصدق وصف لها هو " صبي وكيل النيابة" ـ على حد تعبيره ـ ما لبث أن ترك بعد مدة وجيزة هذه الوظيفة التي تجعل منه تابعاً، ولا تعطيه الحق في تحمل المسئولية؛ ليعمل بعدها بالمحاماة تلك المهنة التي تحتاج إلى معارف ومعاملات مع الناس، الأمر الذي لا يتوفر له أو لعائلته، والقاهرة بلد كبير يحتاج فيها المحامي الناشئ إلى شيء من ذلك؛ ولما تحقق له الفشل الذي توقعه سافر إلى الإسكندرية ليعمل في أول الأمر عند الأستاذ زكي عريبي، المحامي اليهودي المشهور وقتذاك (وقد أسلم هذا الرجل بعد ذلك) ، بمرتب شهري قدره ستة جنيهات ، لم يقبض منها شيئاً ثم انتقل إلى مكتب محام مصري بمرتب قدره ثمانية جنيهات شهرياً، وسرعان ما هجر الإسكندرية إلى مديرية البحيرة ليعمل فيها بمرتب شهري قدره اثنا عشر جنيهاً، وقد سمح له هذا العمل بالتنقل بين مراكز مدينة البحيرة ، وكثيراً ما تعرض للخداع من قبل الوسطاء الذين يعملون بين المحامين والمتقاضين ، هذا الأمر جعله يفقد الإحساس بالأمن والاستقرار ، كما أغرقه في الشعور بالخوف من المستقبل ، فلم يلبث في عمله بالمحاماة أكثر من ثمانية أشهر ؛ لأن القلق على مستقبله بدأ يساور أهله؛ فبدؤوا يبحثون له عن عمل بالوساطات والشفاعات حتى وجدوا له وظيفة معاون إدارة في منفلوط بالصعيد الأوسط؛ وبعد وفاة والده عام 1926، لم يجد بُداً من الخضوع لأوامر العائلة وقبول تلك الوظيفة ؛ التي تسلم عمله بها في الأول من يناير عام 1927.
كانت الوظيفة الجديدة أقل كرامة من وظيفة النيابة ؛ فلم يقبل المنصب إلا صاغراً مستسلماً . وقد عانى فيه مشقة كبرى وامتحن فيه امتحاناً عسيراً وعرف الغم والهم والحسرة والألم . ولكنه ـ من جهة أخرى غنم من تلك الوظيفة مغانم كثيرة لا تحصى ؛ بالنسبة لمستقبله ككاتب.
عاش يحيى حقي في الصعيد، عامين كان يتطلع خلالهما للخلاص من تلك الحياة القاسية، حتى أتاه بالمصادفة المحضة ـ كما يقول ـ إذ قرأ إعلانا من وزارة الخارجية عن مسابقة لأمناء المحفوظات في (القنصليات)، و(المفوضيات)؛ فحرص على التقدم إلى تلك المسابقة التي نجح فيها، فعين أمينا لمحفوظات القنصلية المصرية في جدة، عام 1929 ثم نقل منها إلى استنبول عام 1930م، حيث عمل في القنصلية المصرية هناك، حتى عام 1934؛ بعدها نقل إلى القنصلية المصرية في روما، التي ظل بها حتى إعلان الحرب العالمية الثانية في سبتمبر عام 1939م؛ إذ عاد بعد ذلك إلى القاهرة في الشهر نفسه، ليعين سكرتيراً ثالثاً في الإدارة الاقتصادية بوزارة الخارجية المصرية، وقد مكث بالوزارة عشر سنوات رقي خلالها حتى درجة سكرتير أول حيث شغل منصب مدير مكتب وزير الخارجية، وقد ظل يشغله حتى عام 1949م ؛ وتحول بعد ذلك إلى السلك السياسي إذ عمل سكرتيراً أول للسفارة المصرية في باريس، ثم مستشاراً في سفارة مصر بأنقرة من عام 1951 إلى عام 1952 ، فوزيراً مفوضاً في ليبيا عام 1953.
أُقِيلَ من العمل الديبلوماسي عام 1954 عندما تزوج (في 22/9/1953م ) من أجنبية ، وعاد إلى مصر ليستقر فيها ؛ فعين مديراً عاماً لمصلحة التجارة الداخلية بوزارة التجارة ؛ ثم أنشئت مصلحة الفنون سنة 1955 فكان "أول وآخر مدير لها ، إذ ألغيت سنة 1958 "، فنقل مستشاراً لدار الكتب ، وبعد أقل من سنة واحدة أي عام 1959 قدم استقالته من العمل الحكومي ، لكنه ما لبث أن عاد في أبريل عام 1962 رئيساً لتحرير مجلة " المجلة " التي ظل يتولى مسئوليتها حتى ديسمبر سنة 1970 ، وبعدها بقليل أعلن اعتزاله الكتابة والحياة الثقافية.
حياته الاجتماعية
عاش يحيى حقي حياته محايداً ؛ مكشوف الطوية ؛ "من تعرف عليه ولو في كهولته، فكأنما عرفه منذ كان طفلاً في المهد ؛ إذ بقي معه ـ حتى نهاية حياته ـ شيء من طفولته ، وقليل من صباه ، وأَثَارَةً من شبابه ، وهذا في جملته يدل على أنه كاتب عظيم ".
صفاته الجسمية
كان يحيى حقي قصير القامة، " لايزيد طوله عن المتر " إلا ( بِلُكَّمِيَّة ) ـ على حد تعبيره ـ له وجه طفل سمح ، وردي اللون؛ ورأس كبير، زحفت جبهته حتى منتصفه، وفم لا تفارقه البسمة الخجول الغامضة، الودود المتوددة، في عينيه بريق حاد يجعلهما كعيني صقر، يشع منهما ذكاء فريد نصفه دهاء ونصفه حياء، و نفاذ بريقهما لا يكاد يتخلله سوى رعشة الخجل، ينكفئ بين العينين أنف ليس صغيراً، ترتاح على جانبيه وفوق كرسيي خديه، عدستا (منظار) كجناحي
، تزيد مسحة الذكاء إشعاعاً وانطلاقاً، ذلك (المنظار) الذي اعتاد عليه منذ وقت مبكر جداً من طفولته، مثله في ذلك مثل كل أفراد عائلته؛ في يده اليمنى يمسك عصاً معقوفة من الأعلى، قد يغطي مقبضها أحيانا بمنديل من قماش أبيض، كما يغطي رأسه بـ (بيريه).
تربيته وشخصيته
كان زملاء يحيى حقي يتندرون عليه بدعوى أنه مؤدب أكثر مما يجب ، وأنه يستخدم كلمة ( أفندم ) التركية ، في كل كبيرة وصغيرة؛ وكانت هذه الكلمة رمز الأدب وحسن التربية عند الطبقة الوسطى وما فوقها ، هذا الخلق لم يكتسبه يحيى حقي من صحبته للديبلوماسيين ؛ لكن ذلك كان غرس أمه ، التي هي منبع ذلك الخلق ؛ أدبته فأحسنت تأديبه، وعلمته ـ كما قال ـ كيف يجب أن يجلس ويتكلم، وكانت تقيد عليه وعلى إخوته الخمسة كل زلة لسان ينبو بها القصد ـ وإن كانت بريئة ـ فتنبههم إليها إذا انفض الجمع، و"انتهت طفولته، ومضى صباه وسارت حياته كسلسلة من حديد في قوانين صارمة لا يستطيع أن يتعداها". إن البيت الذي نشأ فيه يحيى حقي لم يعرف الفروق الطبقية أو الجنسية، في وقت كان الأتراك يتميزون فيه ويتصفون بالكبر والاستعلاء ، ويحار المرء في كنه هذا الأمر؛ هل هو مكتسب بالفقر، أو هو طبع أصيل ؟ ؛ " وسواء أكان الأمر هذا أم ذاك ؛ فإنه هو الذي نشأ عليه ذلك الطفل الغريب"، الذي عاش حياته كلها في ظل ألفة اجتماعية جعلته قريباً من كل قلب ؛ تخلل تلك الألفة بارقات من الضجر الاجتماعي الذي كان يعتوره أحياناً، وقد رصدته بعض المصادر بينما غفل عنه الكثيرون من دارسيه ورفقائه.
الائتلاف الاجتماعي
منذ عرف يحيى حقي الطريق إلى الشارع وإلى المدرسة ، أصبحت "الصداقة" هي عصب حياته ، وأهم عناصرها على الإطلاق ... وبدءاً بأيام مدرسة ( أم عباس ) ، ظل يحتفظ ببعضها حتى نهاية حياته ... وقد شكلت صداقته ـ طوال حياته ـ ثلاثة تجمعات رئيسة ؛ لكل واحدة منها اهتماماتها الخاصة
أولاً: جمعية الأخلاق الفاضلة
أولى التشكيلات الاجتماعية التي انخرط يحيى حقي فيها هي: "جمعية الأخلاق الفاضلة" في المدرسة الإلزامية، هذه الجمعية مهمتها أن تحمي الأخلاق وتحافظ عليها وعلى القيم الاجتماعية، والالتزام بها ... ؛ ولكن ما أعظم خيبة الأمل عندما اكتشف يحيى حقي أن أعضاء تلك الجمعية أنفسهم هم الذين لا يحمون خلقاً ، ولا يحافظون عليه أو يلتزمون به، فتركهم ليعيش الأخلاق الفاضلة في حياته، سجية وطبعا، دون أن ينضوي بها تحت شعار براق لا يحميه من يشرعه في وجوه الآخرين.
ثانياً : جماعة الحقوقيين
في مدرسة الحقوق انغمس يحيى حقي في دراسة القانون ، وزامل وصادق والتقى ـ فيها ـ بنخبة من العباقرة الذين عرفتهم مصر بعدئذ ، وكانت الجماعة التي انضم إليها ؛ جماعة من المجدين المجتهدين ، أخذ أفرادها الدرس أخذ حياة ومنهج ، كان منهم المرحوم حلمي بهجت بدوي ، وعبد الحكيم الرفاعي ، وسامي مازن ؛ كان اجتماعهم حلبة ساخنة للمناقشة ؛ يزكي أوارها نخبة من الأساتذة العظماء مثل عبد الحميد أبو هيف ، ونجيب الهلالي ، وأحمد أمين ... وغيرهم.
في اجتماعه مع هؤلاء، لم يكن للأدب نصيب وافر من المدارسة أو المناقشة، فلم تكن جماعتهم تناقش إلا القانون ،ولا تهتم بشيء قدر اهتمامها بما يدور في إطاره من ثقافات ومعارف، وكان القانون وثقافته ـ وقتئذ ـ يشغل يحيى حقي؛ فدخل في سباق رهيب، كان وطيسه يشتد كلما مضت السنوات واقترب موعد التخرج؛ لكنه في تلك الأيام استطاع أن يتلمس من خلال معطياتها الدوافع الأولى للكتابة في حياته .
ثالثاً: جماعة الأدباء
انخرط يحيى حقي في جماعة موازية لجماعة الحقوقيين الذين لم يهتموا إلا بالقانون، هذه الجماعة هي "جماعة الأدباء"، يجتمعون بمقهى "الفن" الشهير في عماد الدين، أمام مسرح رمسيس ـ (مسرح الريحاني الآن) ـ وعن طريق شقيقه إبراهيم حقي التقى بزملاء الشباب الواعد، وعلى مقهى "الفن"، كان أقرب الأصدقاء إلى نفسه المهندس محمود طاهر لاشين (1894 ـ 1954م)، والدكتور حسين فوزي (1900 ـ 1988) إلى جانب أنواع وأنواع من الفنانين والكتاب الذين التقى بهم يحيى حقي في مقهى "الفن" .
هذه ثلاثة أنواع من التجمعات التي انتمى إليها يحيى حقي ؛ لكل تجمع منها أهدافه وتوجهاته ورؤاه وطموحاته الخاصة، وكل هذه الطموحات والتوجهات كانت تجتمع في شخصية يحيى حقي ؛ الذي لم يكن يألف ـ على الرغم من تسامحه الفياض ـ غير أصدقائه المقربين، بل كانت تنتابه أحياناً حالة نفسية في تعامله مع المجتمع من حوله ، لنا أن نسميها "ضجراً اجتماعياً"، وقد رصدت بعض المصادر هذه الحالة النفسية الصعبة ، التي كانت تنتابه لكنها لم تلفت الانتباه إليها بعد ؛ فهو كثيراً ما كان يبدو "غريب الأطوار ".
الضجر الاجتماعي
هذا النوع من القلق لم يكن وليد نبع واحد، بل كان مصباً لتيارات مختلفة؛ نشأت عن جذور راسخة في أغوار يحيى حقي بعضها نتيجة مباشرة للتربية، وبعضها وليد "الحاجات الإنسانية". ويمكننا توزيع مظاهر هذا الشعور إلى نقاط من أهمها:
فرط خجله
فالخجل من أكثر المكتسبات التربوية حضورا في شخصية يحيى حقي ، وقد وجدت في كلام للدكتور على شلش ما يشير إلى ذلك ، في معرض حديثه عن يحيى حقي ، بعد أن التقى به في إحدى الندوات التي نظمتها رابطة الأدب الحديث لمناقشة كتاب " فجر القصة المصرية" ؛ فيصفه قائلا : "راح ينظر إلى الحاضرين في وداعة ـ تارة ـ ثم ينظر تارة أخرى إلى الأرض ويده اليسرى تقبض على عصاه القصيرة في قلق ظاهر ، وكأنما يقول في نفسه : ماذا جنيت حتى يتفرج علي الناس هكذا ؟" .
[ 2 ] النـزعة التركية
عاش يحيى حقي صراعا باطنيا عنيفا بين انتماء الأصل إلى الأتراك وانتماء الفرع إلى المصريين ، ذلك الانتماء البديل المفروض عليه ، وقد صدر هذا الصراع عن حاجته الإنسانية إلى الارتباط بالجذور ، وتحديد هوية صريحة غير مزدوجة ؛ إضافة إلى حاجته إلى "انتماء " ؛ فهذه الحاجات تعارضت بين بعضها البعض ؛ فحاجته إلى الانتماء دفعته للذوبان في المجتمع المصري، الذي ولد ونشأ وتربى وعاش تحت ظلته وفي أحضانه ؛ بينما كانت حاجته إلى الارتباط بالجذور وتحديد هويته: عوامل مناهضة لمصريته ، فكانت تطرق عليه بشدة من الداخل ، ودفعته للنظر إلى المجتمع المصري نظرة مصلح، نافذة ناقدة ، ليتحول من نقد الذات إلى جلدها كمحاولة لتعويض ما افتقده بسبب هذا الانتماء المفروض عليه لمصر، من انفصام ارتباطه بجذوره ، ومن هذا المنظور وقف يحيى حقي في تشكيل شعوره عند نقطتين مهمتين هما في الحقيقة وجها العملة ؛ فتارة يعلي من قدر الأتراك ، وتارة أخرى يذم المصريين؛ فهو عندما يتحدث عن " محمد علي " ، العصامي الذي وطد عرشه في مصر ، يمتدحه لأنه " ظل مخلصاً لفن وطنه "، ويحمد له إخلاصه لهذا الوطن وتواصله معه " فلم تفصمه عنه الحروب المتتالية ، ولا نية التوطن في بلد غريب يباين عادات وطنه الأصلي " ؛ فالفرق بين مصر وتركيا قائم في وجدان يحيى حقي الذي يتطلع للالتحام وترك ذلك الانتماء البديل المفروض عليه بحكم المولد والنشأة ، وقد أسبغ هذا الاحساس على شخصياته وحركها بوازع من رغباته الدفينة ؛ بعد أن أضاف إليها آراءه في المصريين؛ فشخصية ( سرنديل هانم ) " تعالت على المصريين وأقامت من نفسها دليلاً ناطقاً حياً ، على عدم صلاحية المصريين للحياة ..! والمصريون ـ عفا الله عنهم ـ لا يحبون من أحد أن يذكرهم بخطئهم ، لذلك انقطعت الصلة بينها وبين جيرانها … وبرهنت بذلك على أن التركية والمصرية لا تأتلفان ..! " .
وقد ينطق ـ في مواضع أخرى ـ المصريين بذم أنفسهم أو يشير إلى ذلك ؛ فهذا متطوع لفض اشتباك نشب في الطريق " يحاول ـ بعد خطبة قصيرة في ذم خلق المصريين ـ أن يرفع العربة قليلاً " ؛ كما أن بطله " إسماعيل " في ( قنديل أم هاشم ) لا يرى في المصريين سوى جنس سمج ثرثار ، أقرع أرمد ، عارٍ حافٍ ، بوله دم وبرازه ديدان ، يتلقى الصفعة بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه ... فمصر والمصريون عاشوا في الذل قرونا طويلة فتذاوقوه واستعذبوه .. ومصر نفسها ما هي إلا قطعة (مبرطشة) من الطين، أسنت في الصحراء، تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض، ويغوص فيها ـ إلى قوائمه ـ قطيع من جاموس نحيل".
فلا يخفى ما في هذا التوجه الفكري والنفسي من مشاعر احباط ، ثم عدائية ودونية ينظر من خلالهما إلى بلد لها تاريخها الضارب بجذوره في أعماق التاريخ ، فكانت منارة يُهْتدي بها علماً وحكمة وسياسة وفناً ، في الماضي والحاضر ، في آونة لم تكن فيها تركيا ، أو كانت ترسف في أغلال ظلمات القرون الوسطى ، واكتفى يحيى حقي بالنظر إليها في عصر الضعف والانحلال ، وحقبة الانكسار ، عندما كانت مكبلة بقيود الاستعمار ؛ فلم تكن نظرته إليها إلا نظرة اعتقاد لا مجرد معايشة ونقد ذات ، كما يدعي ، بل هي محاولة "جلد الآخر" تلميحاً وتصريحاً في آن واحد .
رد على النزعة التركية عند يحيى حقي بقلم / صلاح معاطي لم يظهر ذلك الصراع الباطني مطلقا عند يحيى حقي لا في كتاباته فلم يكن انتماء الأصل للأتراك وانتماء الفرع للمصرين كما أشار الكاتب.. فليس يحيى حقي الذي يشغله هذا التناقض المحدود فقد كان انتماؤه مصريا خالصا أصلا، وفرعا ولو أنني أرى أن جنسية الأديب وانتماءه لا يعيبانه ككاتب فكلنا عشق تشيكوف وترجنيف وتولستوي وبراندللو وجوجول وهوجو وغيرهم وغيرهم دون النظر إلى بلدانهم وانتماءاتهم حتى من كانت لهم جذور غير مصرية مثل علي أحمد باكثير حتى الجبرتي مؤرخ الحملة الفرنسية له جذور حبشية ومع ذلك نقل بكل أمانة وصدق الأحداث بمصرية صميمة ولكن بالنسبة ليحيى حقي فالأمر يختلف فقد كان مصريا خالصا مصري المولد والمنشأ والممات ولم يكن يعرف من التركية سوى كلمات قليلة تلك التي كان ينهر بها مثل أدب سيس ، خرسيس ، سكتر برة. وقد تعلمها على كبر ..
كما كان يقول لو عصرتموني في معصرة قصب فلن تجدوا بداخلي نقطة تركية واحدة وكان يقول أيضا لو قسمتم أي زلطة في مصر ستجدون فيها يحيى حقي .. لقد ذاب يحيى حقي في المجتمع المصري الذي وجد فيه وصار فكره وانتماؤه وعقله موجها إليه فهو عندما ينقد فهو ينقد للأصلح .. أما صراعه الأزلي فكان ذلك الصراع الذي أصاب كل من خرج من مصر ليصطدم بالحضارة الغربية وكان هناك صراع آخر خفي هو صراع الإنسان بين مثله وغرائزه .. أما ما جاء على لسان إسماعيل في قنديل أم هاشم من وصف المصريين أنه جنس سمج ثرثار ، أقرع أرمد ، عارٍ حافٍ ، بوله دم وبرازه ديدان ،... إلخ .. فقد جاء على لسان بطل الرواية الذي كان في لحظة ما خصما للكاتب يحيى حقي فهو بهذه الصورة يرسم وجها آخر لشخصية إسماعيل الذي أصبح يرى المصريين على هذه الصورة وليس يحيى حقي..
المصادر:
صفحات من تاريخ مصر – يحيى حقي
قنديل أم هاشم – يحيى حقي
وصية صاحب القنديل.. صلاح معاطي
من يحيى حقي إلى ابنته نهى – نهى حقي
[ 3 ] العواطف الطارئة
إلى جانب ما تتسم به شخصية يحيى حقي من خجل ونزوع نحو الانتماء التركي ، كانت عواطفه الطارئة تتحكم فيه أشد التحكم ، ويتضح ذلك جلياً لمن يجلس إليه ؛ فيذكر الاستاذ أحمد عباس صالح أنه :"كثيراً ما يقبل عليك بشغف شديد وينطلق في حديث طويل .. طويل ، ثم فجأة تتغير ملامح وجهه دون سبب ظاهر ، ويقطع هذا كله وينصرف عنك"؛ فهو كثيراً ما كان يشعر بالمرارة والانكسار المباغتين ؛ فيشعر مجالسيه بها ؛ فيذكر " أحمد عباس " ـ في هذا الصدد ـ أنه التقى بصحافي ( يوغسلافي ) ترجم بعض قصص يحيى حقي ونشرها في ( يوغوسلافيا ) ، فأحدثت ضجة ودهشة هناك ، وإعجاباً كبيراً لما لهذه الأعمال من مستوى فني راق ، وهذا الصحافي ( اليوغسلافي ) كان يريد مقابلة حقي ؛ لكن " الأستاذ صالح " لم يوفق في جمع الصحافي الأجنبي بالكاتب الكبير ، يذكر أحمد عباس صالح أنه حينما أبلغ يحيى حقي الخبر ؛ ابتسم ابتسامة مشرقة ، ثم عاد فتجهم وجهه ؛ وهذا التعبير الذي كان يطفر على وجه يحيى حقي رغماً عنه ، هو وليد شعور دفين بأنه لم يظفر بالشهرة اللائقة ، لأنه كان لا يجيد أسلوب الدعاية عن نفسه ، ويعلم ــ في الوقت ذاته ــ أنه لا يجيد ذلك ؛ كما كانت ليحيى حقي لحظات خاصة يعيشها، ويجد لذته الغريبة فيها ، إذ يشعر نفسه خلالها بالظلم الاجتماعي والانكسار النفسي .
كما رصد الأستاذ أحمد عباس صالح طائفة من الأمثلة والمواقف التي تدعم رؤيته هذه ؛ لكن الذي نريد التأكيد عليه أن الأستاذ "أحمد عباس" هو الوحيد الذي لاحظ على يحيى حقي هذه الملاحظة ، وصرح بها ، هذا إذا أخذنا كلام الدكتور "على شلش" على أنه مجرد وصف عفوي قشري ، لرجل يجلس في حياء التواضع على منصة الرفعة والتكريم. وقد حاولت الاهتمام بهذه النقطة لتأكيدها عنده أو نفيها عنه ؛ فإذا بي أجدها حالة مسيطرة عليه، تنتابه غالباً ؛ يقول الروائي "صالح مرسي" عنه :"عذبني كما لم يعذبني أحد من كتابنا ؛ أَمَضَّني وجعلني أسهر الليل بحثاً عنه ، ثمة شيء غامض فيه ، ومستور بكثافة الكتمان والصمت ، ألقاه في شوق ، وأفترق عنه بثورة، ويلقاني بعتاب ويتركني دائماً بغضب" .
ويذكر الأستاذ "صالح مرسي" أنه حينما شرع في كتابة مقالته عن حياة يحيى حقي ؛ تلك التي نشرت بمجلة الهلال ، لم يجد من يحيى حقي سوى الضجر من تلك اللقاءات ، بل إنه في الجلسة الرابعة تحديداً نهض من مكانه أثناء الحديث وسار إلى الباب وفتحه قائلاً : "كفى .. تعال في وقت آخر..!!"
هذا جانب " الفعل " Action، وهناك جانب آخر يجعل الصورة أكثر وضوحاً وجلاءً هو جانب "رد الفعل Reaction"، نلتمسه في موقف، من مواقف أصدقائه المقربين ، ضده ؛ فربما كان تلاشي طبيعته السمحة حينما يخشوشن في معاملة أصدقائه ؛ تصيبهم بصدمة عنيفة غير متوقعة ، فمثلاً ظلت علاقته بصديقه "محمود محمد شاكر" (1909 ـ 1997) ، قرابة ثلاثة وخمسين عاماً ؛ لكنه حينما كان الأستاذ "صلاح معاطي" يعد مادة كتابه "وصية صاحب القنديل" ـ الذي يتحدث فيه يحيى حقي عن أصدقائه ثم يتحدث هؤلاء الأصدقاء عنه وعن ذكرياتهم معه ـ كشف النقاب عن أبعاد خفية في علاقة يحيى حقي بأصدقائه المقربين ؛ إذ أن الأستاذ " معاطي" عندما بدأ في استكمال دائرة الكتاب ، بجمع أحاديث هؤلاء الأصدقاء عن يحيى حقي ؛ وكانت الشخصية الثانية التي تحدث عنها يحيى حقي هي شخصية الأستاذ محمود محمد شاكر ؛ فحاول "معاطي" الاتصال به مرات عديدة ؛ " لكنه اعتذر عن الحديث حول يحيى حقي ؛ بدعوى أنه مريض ، وأنه لا يريد أن يتحدث عن أصدقائه الذين يحبهم" ؛ و هكذا تخلص الأستاذ محمود محمد شاكر ـ بشكل مدهش ومثير للشك ـ من الحديث عن يحيى حقي ؛ لكن الأستاذ "فؤاد دوارة" وجه الأستاذ صلاح معاطي إلى بابين يستطيع أن يصل من أحدهما إلى محمود شاكر ؛ أولهما السيدة "عايدة الشريف" ؛ التي تحمست للفكرة وحاولت جهدها مع الأستاذ محمود شاكر ؛ لكن دون جدوى ، فلم يبق أمام "معاطي" سوى الباب الثاني ، وهو "فهر"، ابن الأستاذ محمود شاكر ؛ لكنه هو الآخر لم يستطع إقناع والده، وذهبت محاولاته كلها أدراج الرياح؛ يقول الأستاذ صلاح معاطي : "لم أسترح إلى عدم مشاركة الأستاذ محمود شاكر في الحديث عن يحيى، وقررت أن أحاول ثانية فذهبت للقائه في المجمع اللغوي ـ مستعيناً بالأستاذ "إبراهيم الترزي"ـ وانتظرت حتى خرج "محمود شاكر" من جلسة المجمع معتمداً على عصاته؛ فعرضتُ عليه الأمر، وقبل أن أكمل كلامي فوجئت به يحتد قائلاً : " يحيى حقي..ليس لي علاقة به، ولا أعرف عنه شيئاً"
هل يتخيل امرؤ أن يصدر هذا الكلام عن رجل ربطته علاقة صداقة غير تقليدية بيحيى حقي ، دامت نحو ثلاثة وخمسين عاماً ، إلا إذا كانت هناك خلافات في الرأي وتباين في الأمزجة تفاقمت آثارهما لحد وصل بهما لحد إنكار الصديق لصديقه ؟. لقد كتب الأستاذ محمود محمد شاكر ـ قبل جملته التي قالها لصلاح معاطى ـ مقالة في الأهرام ـ عقب وفاة يحيى حقي ـ عنوانها "يحيى حقي:صديق الحياة الذي افتقدته" ، تحمل إرهاصات ذلك التصريح الذي صدر عن الأستاذ محمود شاكر رغما عنه، في ثورته، فمما جاء في هذه المقالة حديثه حول علاقته بيحيى حقي يقول فيها: "كانت علاقتي بيحيى حقي مزيجاً من صلات العمل العلمي والأدبي ، وخلافات في الرأي ووجهات النظر ، مع تباين واضح في الأمزجة والطباع، وتبادل لمحات الفكر وجوانب المعرفة".
ويبقى السؤال: ترى هل وصلت بهما خلافات الرأي وتفرق وجهات النظر وتباين الأمزجة والطباع ، لحد ينكر فيه الصديق صديقه ؟ أنا لا أحاول التشكيك في طبيعة يحيى حقي ولا في طبيعة الأستاذ شاكر ، أو وفاء الأخير ؛ لكني أرصد فقط ـ ههنا ـ صوراً لحالة الضجر الاجتماعي التي كان يمر بها يحيى حقي ، وأثر تلك الحالة في علاقته ببعض أصدقائه المقربين وانعكاسها عليهم.
شخصيته ( الديبلوماسية )
ظل يحيى حقي موظفاً جل حياته ؛ لكن وظيفته كانت في السلك ( الديبلوماسي )، فأبعدته عن جمود العمل الحكومي ، كما أبعدته عن الخضوع المباشر لسلطان الإدارة في مصر ، وأفسحت له فرصة التنقل بين العواصم ومدارس الثقافة والفن المختلفة، وأن يستمتع بالفراغ الذي توفره مثل هذه الوظائف لأصحابها ، فتلك الوظائف لا يجد شاغلوها ـ في لأغلب الأعم ـ ما يشغلهم ، فلما عاد إلى مصر عاد ظل محتفظاً بطابعه ، طابع التنقل الحر بين التداعيات المختلفة، والاسترسال مع السليقة .. ، وعندما انقطع للأدب والكتابة ، خلع عنه البقية الضحلة من مظهر الرسمية فأصبح "الأديب الخالص ، المخلص للأدب ، من منبت الشعر إلى أخمص القدم .. الأديب الفنان حتى أطراف الأصابع؛ وزاحم أكبر أدبائنا المتحررين من قيود المجتمع ، الذين استعبدتهم (الرتابة ) وأزلتهم الألقاب والصلات التقليدية بين الحاكم الذي لا تهدأ له نفس ولا يسكت عنه غضب ، حتي يصبح الناس جميعاً أرقاماً في عملية حسابية أو مسامير في آلة بخارية" .
إن يحيى حقي عقد معاهدة مع السلطة ، فلا هو من طراز عبد الله النديم ، الذي لا تطيب له نفس ، ولا يهدأ له لسان إلا إذا أصلى السلطان شواظاً من نار فنه ، وحرض عليه الأمة ، وفضح سوءاته ؛ ولا هو من طراز "بيرم التونسي" ، الذي يمكن أن ينفجر ضد السلطان في لحظة غضب ، ينسى معها النتائج والعواقب ، ثم يهيم على وجهه ؛ لكن يحيى حقي التزم من جانبه ألا يؤرق سلطة ولا يخيفها، ولا يستعصي عليها ، وأن يمنح السلطان كل الظاهر بلا نفاق ولا ملق ، مع احتفاظه بكل الباطن ؛ فهو لا ينفك يسخر من متناقضات الحاكمين وا
اتهم المكشوفة والمستورة ، والتماسهم الرأي الحسن بالأسلوب الرديء ، ورغبتهم في العطاء مع المن ، والإقبال مع التهديد المستمر بالإدبار .. وسخريته ـ مع ذلك ـ هادئة خالية من الحرارة ، بريئة من العنف .
زواجه
تقلب يحيى حقي في وظائف كثيرة، كل واحدة منهما ارتبطت بمجتمع مغاير، لما كان يعيشه من قبل، حتى استقر به المقام في القاهرة سنة 1939م عندما عمل مديرا لمكتب وزير الخارجية، بعد مدة طويلة من العمل في السلك (الديبلوماسي)، تشبع خلالها بكل أعراف السلك السياسي، خاصة في نظرته إلى من تشاركه الحياة؛ كان حينئذ يعيش عزباً وحيداً، قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره.
كان ( الديبلوماسيون ) ـ قبل ذلك ـ لا يتزوجون سوى أجنبيات، حتى "صدور قانون يمنع السياسيين من الزواج بأجنبيات؛ فاضطر بعضهم للتحايل على القانون، وبعضهم تزوج من مصريات الأب أمهاتهن أجنبيات، يجدن لغات أجنبية تتيح لهن مشاركة أزواجهن في الحفلات والتجمعات الرسمية ؛ فإذا أراد الرجل ( الديبلوماسي ) أن يتزوج فعليه أن يبحث عن الفتاة التى تتوافر فيها هذه الصفات، لكن بعض ( الديبلوماسيين ) كان يبحث فقط عن المال، ومن ناحية أخرى كانت تلك العائلات تعتز اعتزازاً شديداً بأن بناتهم سيتزوجن من (ديبلوماسيين ).."
في عام 1942م، قرر يحيى حقي الزواج، فلم يجد في أسرته من تناسبه ؛ لأن شروطه لم تتوفر في واحدة منهن ، فجعل يشيع ذلك في مكتبه بالإدارة الاقتصادية بوزارة الخارجية المصرية ، فجاءه زميل له أنبأه بأنه عثر له على فتاة من منطقة "المعادي"، اسمها "نبيلة"، وهي ابنة الأستاذ عبد اللطيف سعودي المحامي النسابة، عضو مجلس النواب بالفيوم، الذي درس الحقوق في سن متأخرة، فكافح حتى نال إجازة علمية من ( مونبيلييه ) بفرنسا، والتقى يحيى حقي بالفتاة، كانت مرحة ذات بسمة دائمة يبدو عليها سمت الطيبة والوداعة ، لها منظر بهي جميل .. ، وتمت مراسم الخطبة فالزواج، وتزوج يحيى حقي من "نبيلة" التي كان يختلط في عروقها الدم المصري الفلاحي بالدم العربي الإنجليزي، وسكن بمنـزله في حجرتين عاليتين ؛ ثلاثة أشهر فقط عاشتها معه "نبيلة" ، قبل أن يدهمها المرض ، على غير انتظار ، مرض غريب متوحش مؤلم راح يسحب النور من عينها اليسرى يوماً بعد يوم ثم بدأ المرض يزحف إلى اليمنى، وفي أحشائها تكبر "نهى" التي ما إن خرجت إلى الدنيا، عام 1944 ؛ حتى أحست أمها بارتفاع في درجة الحرارة تبين بعدها أنها مصابة بمرض "التهاب العضلة القلبية" الذي لا علاج له ، ـ وقتئذ ـ إلا ( البنسلين ) الذي كان يصرف من الجيش البريطاني ، وبصعوبة بالغة ، استطاع يحيى حقي أن يحصل على كميات منه بفضل عمله في وزارة الخارجية ؛ لكن دون جدوى ، فلم يمض على وضع وليدتها "نهى" سوى شهر واحد ، حتى توفيت السيدة "نبيلة" ، تاركة زوجها مع وليدتها إلى وحدته الأولى من جديد ؛ وقد رثاها بمقال مؤثر نشرته مجلة"الثقافة" وقتذاك ، عنوانه: "الموت .. إلى نبيلة" ؛ فقد كانت وفاة زوجته ـ بعد عشرة أشهر من زواجهما ـ صدمة كبيرة له ؛ عنيفة وقاسية ، لكنه احتمل ، وظل وفياً لذكراها لعشر سنوات كاملة حتى عام 1954، حيث تزوج للمرة الثانية من الفنانة التشكيلية الفرنسية( جان ميري جيهو )، التي تعرف عليها من تردده على المراسم والمتاحف مع صديقه ( ميشيل ماصيا ) معلم اللغة الفرنسية ، الذي دعاه إلى التعرف ببعض أصدقائه، فكانت من بينهم السيدة (جان) ابنة مقاطعة (بريتانيا) الفرنسية ، وبعد عامين من التعارف والصداقة بينهما نقل يحيى حقي من باريس إلى أنقرة التي ظل بها مدة عامين كاملين ، شبت إبانهما الثورة المصرية عام 1952؛ وبعد قيامها بعامين تبوأ مكانة رفيعة في السلك (الديبلوماسي) المصري ؛ حيث عين وزيراً مفوضاً في ليبيا، التي عاش فيها عاماً عصيباً بين اضطراب السياسة الديبلوماسية المصرية ؛ وبين رغبته الملحة في العودة إلى السيدة "جان" والزواج منها ؛ الأمر الذي يحول دونه وضعه كديبلوماسي ؛ لكنه في عام 1954 قرر ترك عمله السياسي ، وتوجه إلى فرنسا ليرتبط بالسيدة "جان ميري جيهو" ؛ وظلا معاً يدبان إلى مرحلة الشيخوخة حتي وافته المنية عام 1992 .
الجوائز التي حصل عليها
حصل يحيى حقي في يناير عام 1969 على جائزة الدولة التقديرية في الآداب ، وهي أرفع الجوائز التي تقدمها الحكومة المصرية للعلماء والمفكرين والأدباء المصريين ؛ تقديراً لما بذله يحيى حقي من دور ثقافي عام، منذ بدأ يكتب ، ولكونه واحداً ممن أسهموا مساهمةً واضحةً في حركة الفكر والآداب والثقافة في مصر، بدءاً من الربع الأول من القرن العشرين .
كما منحته الحكومة الفرنسية عام 1983 م ، وسام الفارس من الطبقة الأولى ، ومنحته جامعة المنيا عام 1983 الدكتوراه الفخرية؛ اعترافا من الجامعة بريادته وقيمته الفنية الكبيرة .
ثم كان يحيى حقي واحداً ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية ـ فرع الأدب العربي ـ لكونه رائداً من رواد القصة العربية الحديثة ، عام 1990م .
وفاته
في ضحى يوم الأربعاء، التاسع من ديسمبر، عام 1992 م توفي يحيى حقي في القاهرة،عن عمر يناهز سبعة وثمانين عاماً؛ بعد أن أعقب تراثاً كبيراً من الفكر والأدب؛ إبداعا ونقداً .
المصدر :: أثر البيئة والمتغيرات الاجتماعية في أدب يحيى حقي تأليف علاء الدين رمضان.
سينمائيات يحيى حقي
قطع يحيى حقي في علاقته بالسينما شوطاً بعيداً، وتنوعت اتجاهات تلك العلاقة وأوجهها، فهو أولاً متفرج من داخل صالة السينما، وقد ظل حريصاً على تلك العادة حتى نهاية حياته، كما أنه ناقد متابع للأفلام المعروضة في دور السينما وله بعض الآراء المهمة المقدرة التي تمتلك إلى جانب الذوق الشخصي خبرة ذاتية كبيرة اكتسبها من جولاتها في المعاقل السينمائية الكبرى في أوروبا، ثم توجت السينما المصرية عام 1968 علاقتها بيحيى حقي بالالتفات إلى أعماله الأدبية والاستقاء منها، فأنتجت أربعة من الأعمال السينمائية المميزة التي رسخت في وجدان المشاهدين ومن أبرزها (البوسطجي)، ثم ( قنديل أم هاشم )، وهما أهم ما أنتجت السينما المصرية بعامة، وقد سبقهما من أعمال يحيى حقي فيلم ( إفلاس خاطبة )، ووليهما فيلم ( امرأة ورجل ).