منذ 53 عاما .. وفي 18 يونيو 1956: خرجوا .. جــــلاء الإنجلــيز بعــد 74 عامــــا مـــن الاحتلال
في 18 يونيو 56.. بكي جمال عبد الناصر فرحا، وهو يرفع علم مصر علي قاعدة بورسعيد البحرية، آخر موقع خرجت منه القوات البريطانية، قبل ذلك بخمسة أيام، بعد 74 عاما من الاحتلال.
وحملته الجماهير علي أعناقها ليوقد شعلة النصر في الميدان الرئيسي ببورسعيد.. فقد تحقق أول أهداف ثورة 23 يوليو 52.
الجلاء.. إنها صفحة من حكاية شعب.
خمسة أيام كاملة.. قبل الموعد الرسمي.. وبالتحديد في 13 يونيو 56 خرجت القوات الإنجليزية من مصر بعد 74 عاما من الاحتلال وتحقق حلم أجيال طويلة في »الجلاء«.
18 يونيو، كان هو الموعد الرسمي.. المحدد في الاتفاقية التي وقعتها مصر مع إنجلترا في 19 أكتوبر54، بخروج 80 ألف عسكري إنجليزي من منطقة تمركز في قناة السويس، علي خمس مراحل، مدة كل مرحلة أربعة أشهر تنتهي بعد 20 شهرا كاملة.
في يوم الخروج، كان علي القوات البريطانية أن تزيل أعلامها من آخر نقطة لها في مصر، وهو مبني البحرية في بورسعيد، وهو أول مبني قاموا باحتلاله عام 1882، وهو أصلا أحد القصور التي بناها الخديو إسماعيل للإمبراطورة الفرنسية أوجيني، في احتفالات افتتاح قناة السويس 1868.
كانت أحزانهم كبيرة، لكنها ليست بقدر فرحة المصريين.. وهم قد رأوا قبل ذلك بعشرين شهرا، وفي ليلة توقيع اتفاقية الجلاء مدي السعادة والفرحة التي عاشها المصريون .. فما إن انطلقت صواريخ الأفراح في سماء القاهرة في العاشرة والنصف من ليلة 19 أكتوبر 54.. حتي انتشرت البهجة في كل الأنحاء.. وكانت الجماهير تحيط بالرئيس عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة.. من أمام السفارة البريطانية، ومبني مجلس الوزراء، ومبني الرئاسة بل ومنزل جمال عبد الناصر.
في ذلك الصباح البعيد.. قام الفنان محمود شكوكو.. بتأجير سيارة نقل بمبلغ خمسين جنيها.. من جيبه الخاص، واصطحب فرقته وجلبابه المميز يطوف القاهرة، يغني للجلاء مجانا لكل الناس.
خلاص.. خلاص.. تم الجلاء.. الله لا يرجع الغلاء
وفي المساء نظم الفنانون بقيادة يوسف وهبي، حفلا علي مسرح مفتوح في ميدان التحرير، غنت فيه أم كلثوم، »مصر التي في خاطري وفي دمي«، وغني عبد الوهاب »ياسماء الشرق طوفي بالضياء«.. وغني محمد فوزي »بلدي أحببتك يا بلدي«.. وخفضت دور السينما أسعارها بنسبة 50٪، وقد
علي كل هذه الحفلات البكباشي محمد عبد القادر حاتم.. وزير إعلام نصر أكتوبر 73 بعد ذلك.
علي مدي 20 شهرا، بدأت القطارات تحمل جنود الإنجليز من مدن القناة إلي محطة الرسوة في بورسعيد، لتحملهم السفن إلي قبرص، وقد لاحظ مسئولو السكك الحديدية، سرعة وصول القطارات ودقة مواعيدها.. فقد وجدوا كل عمال السكك الحديدية لايعودون لمنازلهم بعد وردياتهم ويشاركون في أي عمل مطلوب، حتي لو لم يأمرهم به أحد.
يوم الأحد 10 يونيو 56.. عرف عساكر الإنجليز، أنه آخر أيامهم في مصر.. فانتشروا في كل شوارع بورسعيد، يشترون كل ما يكفيه ما معهم من نقود.. أكلوا من كل الطعام وسهروا في كل البارات، ورفضت مجموعة منهم مغادرة سينما بورسعيد، بعد انتهاء عرض الفيلم، حتي جاءهم ضابط كبير من الشرطة العسكرية الإنجليزية..
بعضهم أخذ يبكي وهو يودع أصدقاءه المصريين وبعضهم أعرب عن رغبته في البقاء والزواج من مصرية أو تزويج أبنائه في المستقبل من مصريات أو بناته من مصريين.
لكنهم جميعا اشتكوا من الرسوم الجمركية التي قررتها الثورة علي المشروبات الكحولية، فارتفع سعر كأس الويسكي من 6 قروش إلي 18 قرشا، وزجاجة البيرة من 8 قروش إلي 30 قرشا.
في منتصف ليلة هذا اليوم أصبحت مدينة بورسعيد محرمة علي هذه القوات، حتي رحيلهم بعد ليلتين فقط.
في السادسة مساء الثلاثاء 12 يونيو.. قام البريجادير لاس ، قائد القاعدة، ومعه 21 جنديا بالوقوف طابورا عسكريا، يحيي العلم النازل مع موسيقي لحن الوداع العسكري الإنجليزي التقليدي.. »إلي أن نلتقي ثانية«.. وهمس جندي بأسي ساخرا لزميله عن معني اللقاء ثانية وهم خارجون نهائيا.. لم يعرف أن قواتهم ستعود ثانية لنفس المنطقة بعد أربعة أشهر و17 يوما فقط في عدوانها الثلاثي في 30 أكتوبر 56 لكنها لن تصمد أمام المقاومة المصرية إلا 54 يوما فقط، لتخرج للأبد في 23 ديسمبر من بورسعيد أيضا.. عيد النصر.
هذا هو الخروج الثالث للقوات الإنجليزية في مصر.. أولها كان عام 1802 عندما أخرجت قوات فريزر، قوات الحملة الفرنسية بقيادة نابليون، والثانية في عام 1807، عندما عادوا بعد خمس سنوات واحتلوا الإسكندرية 7 أشهر ، ووقعوا معاهدة دمنهور مع والي مصر محمد علي وبعدها سيأتي الخروج الرابع والأخير في 23 ديسمبر 1956.
بعد الطابور، اتجه الجنود إلي السفينة المنتظرة. وأمر القائد، جنود حراسة البوابة الثلاثة بتركها، ينضمون لزملائهم، وطلب مفتاح البوابة الذي سلمه في الرابعة والنصف من فجر اليوم التالي، للمندوب المصري، المهندس محمد علي بهجت، الذي سلمه بدوره للقائد المصري الجديد لقاعدة بورسعيد البحرية الصاغ جمال شكري.. ثم صحبه المسئولان المصريان في قارب بخاري، ومعه زوجته، وحتي سلم السفينة، والتي تحركت في السادسة والنصف صباحا، ولم يجد أحد عمال الرباط أمامه إلا قلة قناوي يستخدمها في الشرب، ليحطمها علي مؤخرة السفينة »رمي وراهم قلة«.
الطريف أن القوات الإنجليزية، خرجت في ذكري مرور نصف قرن علي حادث دنشواي 13 يونيو 1906..
أطرف ما في حكاية الخروج، أن كل الصحفيين المصريين والأجانب، كانوا يعدون أنفسهم للسفر لبورسعيد، صباح يوم 13 نفسه ، ولم يكن في بورسعيد بهدف رصد الأيام الأخيرة للاحتلال، إلا الصحفي الشاب »محمود السعدني«، مندوبا عن جريدة الجمهورية التي أنشأتها الثورة، ولاحظ عمليات الخروج فاتصل بالجريدة يطلب تغيير المانشيت الرئيسي إلي »خرجوا« وعندما استطلع نائب رئيس التحرير السهران، رأي »أنور السادات« المشرف علي الجريدة آنذاك.. لم يرد عليه وإن كان وجهه يقول أنه يعرف ذلك وأكثر منه، لكنه قال له بهدوئه المعهود.. ألست المسئول عن السهرة..إذن تحمل مسئولياتك كاملة.. وخرج المانشيت صباحا.. خرجوا.
في اليوم التالي.. خرجت الصحف الفرنسية بعنوان (عبدالناصر.. حقق ماعجز عنه روميل) في إشارة لمحاولات القوات الألمانية لإخراج القوات الإنجليزية.. في معركة العلمين ..
لم يأت هذا اليوم من فراغ.. لكنه نتاج نضال شعب.. بدأ منذ الاحتلال عام 1882، المطالبة بالجلاء وخضع الأمر للمناقشة مع الحكومة المصرية عام 1885ثم تولي الأمر القادة الوطنيون من مصطفي كامل ومحمد فريد وثورة 19 بقيادة سعد زغلول، ومعاهدة الصداقة عام 1920ثم معاهدة 36 والتي ألغيت عام 1951، وتفاقمت المظاهرات عام 1945 بعد انتهاء الحرب وتبلور الأمر في 4 يونيو 46 بجلاء القوات الإنجليزية عن ثكناتها في القلعة، وعام 47 تم الجلاء عن القاهرة والإسكندرية. وتمركزوا في معسكرات منطقة قناة السويس. وبعد 9 أشهر فقط من قيام ثور 23 يوليو 52.. بدأت في تنفيذ أول أهدافها وهو القضاء علي الاستعمار واقترع مجلس قيادة الثورة علي طلب الجلاء، وحصلوا علي موافقة 22 صوتا من 24.. وبدأت خطوات طويلة من 27 أبريل 53 للتفاوض مع الإنجليز وتوقيع الاتفاق ومن محطاتها:
إصرار عبد الناصر علي جلاء كامل غير مشروط أو مرتبط بأحلاف، أو معاهدة دفاع مشترك، وعدم ربط الجلاء بمحاولات إنجلترا وأمريكا لإرضاء إسرائيل، وتوقيع معاهدة مع مصر..
ولعل مشهدا أساسيا في الأحداث، يوضح حجم القوة آنذاك.. ففي أول اجتماع للجنة المكلفة بالتفاوض مع الإنجليز والذي تم في السفارة البريطانية في 27 أبريل 1954، جلس كل من عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي.. بشبابهم في سن الثلاثينات ومعهم د. محمود فوزي وزير الخارجية ولم يكبرهم كثيرا، وأمامهم السفير البريطاني رالف ستفينسون، الذي جاء متكئا علي ذراع أحد زملائه قادما من المستشفي فقد كان مصابا بمرض اللمباجو في ظهره، ويعاني الألم.. وكأنه الإمبراطورية التي شاخت وهدها المرض. ولم أستطع أن أخرج من أسر مشهدين في السفارة.. أولهما، عبد الناصر وهو يستطلع أركانها وعندما سألوه.. أجاب بوضوح.. أنه يستطلع المكان الذي كانت تدار منه مصر قبل ذلك، أما المشهد الثاني.. فهو عندما جلس الضباط علي طاولة الاجتماعات، وقدمت لهم القهوة، خرجت فكرة من عين صلاح سالم إلي عين عبد الحكيم عامر.. ماذا لو وضعوا السم لعبد الناصر.. وأجهضوا كل شيء.. وحسم عامر الموقف ، آنذاك ، برفع فنجان عبد الناصر، وشرب رشفة منه، وانتظر قليلا.. وعندما لم يحدث له أي مكروه، وضعه أمام عبد الناصر قائلا.. اشرب ياريس.
لم تستمر المباحثات طويلا.. فقد أخذت اتجاها واضحا في أول يوليو 54، وفي 27 من نفس الشهر، تم التوقيع النهائي.. لكن لم تتوقف حوله الحركة.
بريطانيا .. حاولت بكل جهودها السياسية، عرقلة الأمر.. لكنها في النهاية رأت أنه من الصعب وقف الحوادث في منطقة القناة.
مصر .. كلفت قوات الحرس الوطني بمقاومة الإنجليز في القناة وعقدت صفقة أسلحة خفيفة تستخدم في حرب عصابات واستقدمت خبراء ألمان لتدريب قوات مصرية علي عمليات الصاعقة.. وعملت علي حشد كل الدول العربية والصديقة لموقفها.. وكشفت عن خطة إنجليزية لإعادة احتلال مصر..
أمريكا.. أيدت الجلاء، لكن لتحتل مكانه، بمساومات في صفقات السلاح وتمويل السد العالي، وحل مشكلة إسرائيل (فلسطين).. وفشلت كل محاولاتهم.
فرنسا.. تحالفت مع إسرائيل.. ومع شركة قناة السويس.. وهو الأمر الذي قاد بعد ذلك للعدوان الثلاثي الفاشل.
شركة قناة السويس.. ضغطت بكل الطرق لعمل عسكري يعيد الأمور لسابقها..
إسرائيل.. عرضت نقل قاعدة قناة السويس إلي منطقة النقب، ونفذت عمليات استفزاز ضد القوات المصرية في غزة.. وعرضت مقابلة لعبدالناصر في أي مكان.. وفشل كل ذلك..
العرب.. وقفت السعودية مع مصر، وخرج العراق من الأمر بحلف بغداد، وسوريا بانقلاباتها وليبيا بإعطاء قاعدة عسكرية لأمريكا في طرابلس، تجاور قاعدة بريطانية في بنغازي لتهدد غرب مصر، وحصلت ثورة الجزائر علي دعم عبدالناصر..
الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية.. أيدت مصر ضد ضغوط الغرب، ووافقت علي صفقات سلاح لمصر..
كان يوم الاثنين 18 يونيو 56، ذروة بهجة بورسعيدية بدأت منذ خمسة أيام خرجت الجماهير عن بكرة أبيها.. تستقبل عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة.. من العاشرة صباحا..
وبكي عبدالناصر وهو يقبل علم مصر، ويرفعه عاليا في سماء مبني قيادة البحرية في بورسعيد.. وحملته الجماهير علي أعناقها ليشعل شعلة النصر في قلب ميدان بورسعيد الرئيسي.. ووقف عبدالناصر.. يلخص الأمر في كلمات.
إنها لحظة العمر كله.. وأن فترة كفاح قد انتهت.. وفترة كفاح قد بدأت هذه اللحظة هي العمر كله.. إنني أشعر بالعزة والكرامة.. وسنبني.. سنبني.. سنبني.