ما هي طبيعة المطالب المصرية ـ السورية؟
ـ في ظل الوحدة التي قامت بين مصر وسورية في 22 فبراير 1958 وانتهت في 28 سبتمبر (ايلول) 1961 اندمجت شركات اقتصادية سورية في اقتصاد مصر وتم تأميم شركات سورية خاصة. وكانت سورية ترغب في أن تأخذ مصر المبادرة لرفع التدابير التي اتخذها نظام الوحدة وكل ما يتصل بالنظام الاشتراكي لتعود سورية إلى الاقتصاد الحر. وكانت إذ ذاك دولة صناعية. وأشياء أخرى بسيطة تم علاجها في ظرف شهرين، من بينها الإفراج عن الأرصدة السورية التي بقيت في البنوك المصرية. وهذه القضايا انتهت بزيارات قمت بها بين القاهرة ودمشق حيث قابلت في أولاها الرئيس جمال عبد الناصر ثم وزير خارجية مصر آنذاك مرتين، وبعد ذلك تحول الأمر إلى لقاء سفراء في وزارة الخارجية المصرية حضره ديبلوماسيون سوريون. لكن الغريب في الأمر هو أن الذي جعل دوري هذا يفتضح ويُتهامَس به بين العموم في سورية هو أنني قدمت أوراق اعتمادي إلى الرئيس ناظم القدسي في العشرين من فبراير وأقمت احتفال عيد العرش بالسفارة يوم 3 مارس (آذار). ويوم الحفل حضر رئيس الجمهورية بنفسه إلى الحفل وجاء معه الوزراء بدون استثناء. وكنت آخر سفير التحق بمهمته بدمشق وبالتالي فأنا آخر السفراء ترتيبا في المراسم (البروتوكول) مما جعل الجميع يتساءلون عن سبب تميز سفير المغرب بهذه الميزة المتمثلة في حضور رئيس الجمهورية الذي لم يسبق له أن حضر في حفل استقبال سفراء بمناسبة أعياد بلدانهم الوطنية كما حضر معه جميع أعضاء الحكومة، بينما جرت العادة في مثل هذه الاحتفالات ألا يحضر لحفلات السفارة إلا بعض الوزراء.
وبدأت الصحافة في البحث عن أسباب حضور الرئيس القدسي، وتسرب إليها أنني أحمل أيضا وصف مفوض أو مبعوث الملك الحسن الثاني للوساطة بين دمشق والقاهرة. طبعا لم يكن أحد يعرف طبيعة الأشياء التي كنت أتوسط فيها. ولم أُدْل قط بأية تصريحات حول مهمتي غير المعلنَة، بل أحيانا سئلت من قبل بعض الصحافيين عما إذا كنت ممثل الملك المغربي ووسيطه في النزاع فنفيت ذلك وقلت: «إنني لست إلا سفير المغرب المعتمد لدى دمشق». وكان لي بسورية صديق حميم هو الأخ أحمد عسة وكان مدير جريدة «الرأي العام» السورية وكنت أحيانا أزوره بمكتبه بالجريدة اليومية في ساعة متأخرة من الليل لأشهد معه صدور الجريدة ولأعرف منها آخر الأنباء. وكان هو أول من أسرَّ إليَّ أن الإعلاميين يتحدثون همسا عن مهمتي المخفية، وأنه هو الذي أقنعهم بألا يعلنوا عنها ليضمنوا لمهمتي النجاح. فكذبت هذه الأنباء حتى بالنسبة إليه. (السيد أحمد عسة أصبح في ما بعد مغربيا ويعمل بالديوان الملكي بالرباط).
زيادة على ذلك فإنه في يوم مغادرتي لسورية التي أمضيت فيها ستة أشهر ورجوعي إلى المغرب وزيرا في حكومة الملك الحسن الثاني كان جميع أعضاء الحكومة السورية في المطار لتوديعي بالإضافة إلى ممثل خاص عن الرئيس ناظم القدسي الذي استقبلني يوما قبل سفري وقال لي: «لولا أنني ربما سأقوم بشيء لا يُفهم لذهبت إلى المطار لتوديعك، ولكنني أعطيت التعليمات بأن يكون جميع الوزراء حاضرين بالمطار في وداعك».
* مهمتكم في سورية لم تطل كما ذكرتكم. فما هي أبرز الأحداث التي صادفت وجودكم في سورية ؟
ـ حينما وصلت إلى دمشق لم تكن لنا بها سفارة. وكنت أول سفير معتمد لديها. فقد كان رئيس بعثتنا الذي سبقني في رتبة قائم بالأعمال. وقمت باستئجار مقر للسفارة في حي المهاجرين القريب من القصر الجمهوري. وأقمت قبل ذلك في فندق سميراميس الذي كان يقطن فيه الوزراء الذين يأتون إلى العاصمة من خارج دمشق، فكنت أسهر معهم وأصبحت بيني وبينهم صداقة ومودة. وألقيت أربع محاضرات في النادي الديبلوماسي في ظرف خمسة أشهر. وكانت الصحافة السورية تتابع نشاطاتي. وكنت أدلي بتصريحات عن القضية العربية وكانت هي همَّ السوريين الأكبر.
كنت أقوم في دمشق باتصالات واسعة وأستقبل السوريين بمختلف فصائلهم من عسكريين ومدنيين، فمائدة السفارة المغربية كانت دائما مفتوحة للصحافيين والوزراء وحتى رجال الزوايا ومشايخ الطرق. كانت لي صلة حميمية برئيس جمعية العلماء الشيخ المكي الكتاني المغربي الذي هاجر من المغرب فارا من الحماية الفرنسية وأقام بسورية. وكان يأتي خصيصا عندي لمقر السفارة مع أتباع الزاوية الكتانية وجمهرة العلماء. كما استقبلت مرارا ميشيل عفلق ومعه أنصاره من أعضاء حزب البعث. وكان لكل مقام حديث. ومن خلال تنوع اتصالاتي كنت أعرف دقائق وخبايا ما يجري في سورية. ومن الأخبار التي وصلتني أن انقلابا عسكريا سيقوم في الشهر الموالي ضد نظام الرئيس القدسي. فأرسلت هذا الخبر وتفاصيله في برقية مشفرة (مرقومة) إلى الملك الحسن الثاني. ولم أخبر الحكومة السورية بذلك رغم أنني فكرت في ذلك لكن فضلت أن لا أخوض في الشأن الذي لا يعني السفراء. وبالفعل وقع الانقلاب يوم 28 مارس 1962 بقيادة الجنرال عبد الكريم زهر الدين الذي سبق له أن حضر إلى حفل السفارة المغربية بمناسبة عيد العرش في رفقة رئيس الجمهورية.
وعندما دخلت المغرب بدعوة من الملك الحسن الثاني قضيت أسبوعا وعدت إلى دمشق قال لي جلالته بعد حدوث هذا الانقلاب: «كنت أقرأ تقريرك عن الانقلاب وتفاصيله وأنا جالس على مائدة الفطور. وعندما انتهيت من قراءته أذيعت الأخبار عن انقلاب الجنرال عبد الكريم زهر الدين». والغريب في الأمر أنني نمت ليلة الانقلاب بعد أن قضيت طرفا من الليل في صالون الفندق في دردشة مع الوزراء المقيمين في الفندق قبل أن أذهب إلى غرفتي. وإذا بباب الغرفة يُطرَق من مدير الفندق السيد عجمي الذي سلمني جهاز راديو صغير كان يبث موسيقى عسكرية. وقال لي: «ربما وقع شيء لست أدري طبيعته». وانصرف المدير وبعد خمس دقائق هاتفني من مكتبه بالفندق ليخبرني أنه سيصعد إليَّ من جديد ليكلمني. وعندما فتحت له باب غرفتي وأنا مرتد لباس النوم سرحت بعيني في ممر غرف الفندق في الطابق الذي كانت توجد فيه غرفتي فرأيت الوزراء الذين سهرت معهم في صالون الفندق لابسين قمصانا فضفاضة أو «بيجامات» ووراء كل واحد منهم جندي حاملا رشاشته ومصوِّبا إياها إلى ظهر الوزير. وقال لي عجمي: «أردت فقط أن ترى هذا المنظر لتعرف كيف تحدث الانقلابات عندنا». ولم يكن انقلاب الجنرال زهر الدين هو الأول في سورية بل سبقته انقلابات ابتدأت في مارس 1949 بانقلاب حسني الزعيم. هكذا أدركت أن الخبر الذي وصلني عن إعداد الانقلاب وبادرت بإخبار الملك الحسن الثاني به كان صحيحا.
لم تنم لي عين بقية تلك الليلة. وفي السابعة صباحا رنَّ الهاتف في غرفتي لأتلقى مكالمة من القيادة العسكرية العليا تخبرني: «أنني مدعو مع بقية السفراء العرب للحضور للقيادة العسكرية لتبليغنا أمرا هاما».
ولما وصلت إلى قيادة أركان الجيش السوري وجدت في قاعة الانتظار السفير التونسي محمد بدرة وسفير السعودية السيد الحميدي عميد السلك الديبلوماسي العربي، والتحق بنا سفير العراق، وسفير الأردن. كنا ستة أو سبعة سفراء معتمَدين ولم تستدع القيادة العسكرية القائمين بالأعمال في بعض السفارات العربية. وتحدث الجنرال زهر الدين إلينا عن أسباب الانقلاب، وكان قد أذاع في الراديو في الصباح المبكر مُرافعة قضائية نطق بها بنفسه وأدان فيها عهد الرئيس ناظم القدسي واتهم حكومته بالفساد وخروجها عن مقاصد الثورة العربية السورية. وقال لنا الجنرال: «أريد أن أخبركم أننا قررنا تغيير نظام الحكم القائم واستلَمْنا السلطة، وأن انقلابنا و
كان انقلابا أبيض ولم تُرَقْ فيه قطرة دم».
وأضاف قائلا: «إننا جمعناكم لنقول لكم إن كل شيء مر على ما يرام، وأننا ممسكون بزمام السلطة، وأن الوزراء وعلى رأسهم رئيس الجمهورية يوجدون جميعا رهن الاعتقال بسجن «المزَّة» بضواحي دمشق. ونطلب منكم أن تخبروا حكوماتكم بهذا، وأن تطلبوا منها الاعتراف بالنظام الجديد».
لم أتكلم في البداية. وأخذ الكلمة السفير العميد السعودي. وقال كلاما يتفق مع الخطاب الديبلوماسي ويناسب المقام. واعتبر الانقلاب أمرا داخليا لا شأن للدول العربية به. وأضاف مخاطبا الجنرال: «أنتم تعرفون أكثر مما نعرف». ثم أخذ الكلمة السفير التونسي وقال: «في التقاليد الديبلوماسية المرعية أنه عندما يقع انقلاب من هذا النوع فإن القائمين بالانقلاب لا يحتاجون إلى اعتراف من الحكومات بشرعيتهم». وأضاف قائلا: «إن الحكومات التي لا تعترف بكم ستسحب سفراءها. وإبقاء الحكومات على سفرائها يعد اعترافا بكم. وهذا عرف معمول به في الديبلوماسية». وبعد السفير التونسي تناولت الكلمة (وكنت ذلك الشاب الثوري الذي لا يستطيع أن يملك نفسه عندما يرى أن هناك ما يوجب تدخله ولو بقسوة) فقلت للجنرال زهر الدين: «أنا هنا أتجرد من صفتي كسفير للمغرب في دمشق، لأتقمص روح المواطن القومي العربي الذي تقول ديباجة الدستور السوري إن الوطن العربي هو وطن عربي واحد. وسورية لا تعترف إلا بالقومية العربية الواحدة والوطن العربي الواحد الذي لا تفصله الحدود». وأردفت قائلا: «دعوني أتحدث إليكم من أعماق قلبي مواطنا سوريا ولو أنني سفير مغربي لأقول لكم إن هذا الانقلاب غير شرعي. أقول ذلك باسم قوميتي العربية. واسمحوا لي أن اقول إنه أصبح يضيرنا نحن المتحمسين للقضية العربية، إضافة إلى معاناتنا من وجود خطر إسرائيل وضياع الحق العربي، أن نسمع وأن نعيش مسلسل الانقلابات في سورية التي قلتم إن انقلاباتها بيضاء تمتاز سورية بها عن بقية الدول العربية. ويا ليت واحدا من انقلاباتكم كان أحمر حتى لا تبقوا ماضين في مسلسل الانقلابات البيضاء على هذه الوتيرة السريعة المقلقة». وأضفت: «أعتقد أنني لو استأذنت حكومتي في أن أقول هذا الكلام لاعتبرتني جاهلا بقواعد الديبلوماسية ولربما عجلت بعودتي لبلادي، ولكني أخذت على نفسي بعد أن استمعت إليكم باهتمام كبير أن أقول هذا الكلام من دون أن أستشير حكومتي. وهو كلام الحكمة والتعقل. وأرجو أن لا أكون فيه مخطئا. ورجائي إليكم سيادة الجنرال أن تعيدوا الحكومة الشرعية إلى مكانها، وأن يعود رئيس الجمهورية إلى رئاسة الجمهورية، ويعود الجيش إلى ثكناته. فالمدني يجب أن يعمل كمدني، والعسكري يجب أن يقوم بواجبه العسكري. وحين يحل العسكري محل المدني أو العكس، فلا الشؤون المدنية ولا الشؤون العسكرية تأخذ سيرها الطبيعي». وأردفت قائلا: «أرجوكم باسم القومية العربية أن تعيدوا الأمور إلى نصابها. وأن لا تؤاخذوني بالتجرؤ عليكم بما اعتبرته واجبي كعربي أتحمل مسؤوليته بصفة شخصية لا غير».
* وماذا قال الجنرال عبد الكريم زهر الدين ؟
ـ لقد أُفحِم وبدا عليه الاضطراب. وقال: «أنا أقدر عواطفك. لكن لسورية اعتباراتها. وقد كنا مضطرين للقيام بما قررته القيادة العسكرية بإجماع أعضائها». ووصل خبر ما قلته إلى الوزراء وإلى الرئيس القدسي وهم في سجن المزة. وبعد مرور شهر على وقوع الانقلاب عاد الجيش إلى ثكناته وأخرج ناظم القدسي رئيس الجمهورية من المعتقَل، وعاد الرئيس والوزراء إلى ممارسة مهماتهم. وأصبحت بالنسبة لهم السفير الذي لعب دورا كبيرا في العمل على تغيير الأوضاع وزدت عندهم تقديرا واعتبارا ومحبة.
وفي اليوم الموالي لرجوع الرئيس إلى رئاسة الجمهورية، استقبلني وأعطاني رقم هاتفه الخاص في غرفة نومه. وقال: «بإمكانك أن تتصل بي نهارا أو ليلا متى تشاء». هذه بإجمال قصتي مع انقلاب الجنرال عبد الكريم زهر الدين. وخلال الفترة التي أقمت فيها في دمشق لم تصلني من وزارة الخارجية المغربية سوى برقيتين: الأولى طلبت فيها مني أن أوافيها بأخبار السفارة وأنشطتها عن طريق وكالة المغرب العربي للأنباء وليس عن طريق وكالات الأنباء الأجنبية. أما البرقية الثانية فتقول:«عينك جلالة الملك وزيرا في حكومته، فودِّعْ والتحقْ بالمغرب. تهانينا المخلصة».
أما جميع التقارير التي كنت أرسلها من دمشق فكانت تذهب إلى رضا كديرة الذي يقدمها لجلالة الملك ولا تطَّلع وزارة الخارجية على محتوياتها.
* ماذا كان رد فعل الملك الحسن الثاني حين أخبرتَه بما قلتَه للجنرال عبد الكريم زهر الدين؟
ـ كنت أزور المغرب بين الفينة والأخرى لأطلع الملك الحسن الثاني على تطور مهمة الوساطة بين مصر وسورية وعلى عملي بالسفارة. وكان كثيرا ما يبعث لي بالدعوة للمغرب حيث أقضي أياما قريباً منه ثم أعود إلى دمشق أو مصر. ولمست مرارا أثناء لقاءاتي بجلالته أنه راض عن عملي في دمشق وعن سير مسلسل الوساطة. وقال لي عندما جئت إلى المغرب بعد انفراج أزمة الانقلاب: «اطَّلعتُ على ما راج بينك وبين الجنرال عبد الكريم زهر الدين وقد أحسنتَ في ما فعلت»، فهو لم يكن يقبل أن يتم التمرد على الشرعية بانقلاب كيفما كان شكله وهدفه.
* قلتم إنه في بداية وساطتكم بين سورية ومصر التقيتم الرئيس جمال عبد الناصر. فكيف وجدتموه بشأن العلاقة مع سورية؟
ـ اتصلت به مرة واحدة عند بدء مهمتي ولم أجده حاقدا على سورية. وقال لي إنه ربما كان في الوحدة المستعجَلة شيء من الارتجال، وأن الأمور لم تعالجَ بالحكمة، وأن تجربة الوحدة لم يتقدمها إعداد جيد، وأن السوريين ضغطوا عليه ليقبل الوحدة. هذا ما قاله لي الرئيس عبد الناصر بالضبط. ووجدته أخذ درسا من هذه الوحدة التي اشتبكت فيها الأيدي بينه وبين الرئيس شكري القوتلي في القصر الجمهوري بحي المهاجرين بدمشق، ووقعا عليها باستعجال وباركاها أمام الجماهير الهاتفة بالوحدة حيث
ا عليها من شرفة القصر. وعرف عبد الناصر أن الأمر كان يحتاج إلى روية ومزيد من الحيطة والإعداد.
* قلتم إن البرقية الثانية أخبرتكم بتعيينكم وزيرا. فما هي الوزارة التي كُلِّفتم بها؟
ـ لم تنص البرقية على المنصب الوزاري الذي عُينت فيه. ولم أعلم به حتى وصلت إلى المغرب واستقبلني الملك الحسن الثاني وسماني كاتبا للدولة (وزير دولة) في الإعلام. وشرح لي لماذا عينني كاتبا للدولة في الإعلام وقال: «إني رئيس الحكومة وأنا سأدير الإعلام بواسطتك، وأنت تابع لي مباشرة وزيرا كامل الصلاحية، فليس هناك وزير للإعلام إلا أنت». وبدأت عملي في المنصب الجديد. وبعد حوالي شهرين وقع تعديل وزاري. وأصبحت وزير الإعلام بهذا اللقب. وأضاف إليّ الملك الحسن الثاني حقيبة الشباب والرياضة، ثم عينني وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول وناطقا باسم الحكومة في عهد حكومة أحمد باحنيني.
وفي 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1962 عرض الملك أول دستور للبلاد وجرى عليه استـفتاء الشــعب المغربي في 7 ديســمبر (كــانون الأول) وكلــفنـي الملك أن أطلع على الدستور وأن أتولى شــرحه طيــلة أيام الحــملة الاستــفتائيــة بندا بندا عبر الإذاعة. واستمر عملي هذا زهاء ثلاثة أسابيع أي طيلة حملة الاستفتاء، حيث كنت أقرأ تعليقي على الدستور كل يوم في مستهل نشرة أخبار الساعة الثامنة والنصف مساء.
* في نفس التعديل عين الملك الحسن الثاني الأمير فال ولد عمير وزيرا للدولة مكلفا شؤون موريتانيا والصحراء ثم خلفتَه أنت على رأس الوزارة. وأود هنا لو تحدثني عن ظروف بروز القضية الموريتانية ؟
ـ يدخل ذلك في إطار تطلع المغرب إلى استكمال سيادته على كامل تراب مملكته في حدودها التاريخية. وأنتم تعلمون أنه قبل أن يقسّم الاستعمارُ الدولي المغربَ إلى ثلاث مناطق: فرنسية، وإسبانية، ودولية كانت فرنسا المحتلة لأرض موريتانيا تعترف بأنها جزء لا يتجزأ من التراب المغربي، وأن من حق المغرب أن يستردها كما استرد ترابه الوطني في حدودها حدود المغرب الأخرى لكنها تراجعت عن موقفها. وكان جلالة الملك يركز على تبعية موريتانيا للمغرب عندما أحدث وزارة خاصة بموريتانيا ووضع على رأسها الأمير (أمير الطرارزة) فال ولد عمير وهو شخصية مرموقة ومحبوبة في موريتانيا، وربما كان له وزن أكبر من الوزن الذي كان للمختار ولد دادة رئيس الدولة الموريتانية في ذلك الحين.
عمل الأمير فال ولد عمير ـ بتكليف من جلالة الملك ـ على ربط الخيوط مع الشعب المغربي ـ الموريتاني لأجل عودة موريتانيا إلى وطنها. وكانت في موريتانيا فصائل وطنية واسعة تعمل لعودة موريتانيا إلى الوطن الأب وتعتبر ملك المغرب ملكها.
وحينما قرر الملك الحسن الثاني أن يعفي ولد عمير من وزارة شؤون موريتانيا والصحراء، أراد من ذلك أن يلتحق الأمير بموريتانيا بناء على رغبته ليعمل على عودتها إلى المغرب. وقد حضرتُ لقاء توديعه الذي جاء معه مودعا فيه أيضا المختار ولد باه الذي كان آنذاك مديرا عاما للإذاعة المغربية وهي من مرافق وزارة الإعلام التي كنت على رأسها.
وجدد فال ولد عمير البيعة للملك الحسن الثاني قبل سفره، وقال له: «لا يمكن أن نُبقِي على الوضع كما هو. لا بد أن تعود موريتانيا إلى وطنها. وثق جلالة الملك أننا سنظل في خدمة هذه المبادئ التي نؤمن بها».
وبعد ذلك ذهب الأمير فال ولد عمير والمختار ولد باه إلى موريتانيا وألقي عليهما القبض. ثم مات الأمير فال في موريتانيا في ظروف غامضة، وبعد مدة عاد رفيقه المختار ولد باه إلى المغرب واستقر فيه وعمل بالديوان الملكي، إذن فتخصيص وزارة لموريتانيا والصحراء يدخل ضمن السياسة التي كان يقوم بها الملك لاسترجاع التراب المغربي كاملا. وبعد ذهاب الأمير فال تسلمت منه الوزارة التي كان على رأسها. وتبادلت معه سلط الوزارة كما تبادلنا الخطب في حفل حضره العاملون بالوزارة. كانت مهمتي في الوزارة هي معالجة الملفات التي وجدتها بمكاتبها. وكانت تقوم على متابعة الدراسات عن وضع موريتانيا في ذلك الوقت، وعن القبائل الموريتانية وفصائلها، وعناوين الشخصيات المؤثرة فيها، وأيضا ربط الاتصال بالفصائل الموريتانية الموالية للمغرب. وأذكر أن الكثيرين من الصحراويين والموريتانيين كانوا يأتون إلى الوزارة مثلما كانوا يفعلون أيام الأمير ولد عمير للاتصال بي وإخباري بأنشطتهم وتطور حركة الانضمام إلى المغرب والالتحاق الطبيعي والشرعي بوطنهم المغرب إلى أن انتهت مهمتي في الوزارة. وبعدي عين جلالة الملك الأمير مولاي الحسن بن إدريس العلوي خلفا لي وتابع نفس الاتصال. وظلت الأمور كذلك إلى أن اعترف المغرب سنة 1969 بموريتانيا خلال مؤتمر القمة الإسلامية الأولى في الرباط. وسأحدثك عن دوري في الموضوع حينما نصل إلى تلك المرحلة.
* قبيل الاعتراف المغربي وقع انقسام داخل دول المغرب العربي. وكان هناك اعتراف تونسي بموريتانيا سابق للاعتراف المغربي بسنوات. فما هي خلفيات الموقف التونسي؟
ـ تونس تسرعت في الاعتراف بموريتانيا واستقلالها، فقد كانت الدولة الوحيدة في المغرب العربي والجامعة العربية التي فعلت ذلك. وربما كان الرئيس الحبيب بورقيبة قد توقع أن المغرب في النهاية سيعترف بموريتانيا فسبق المغرب إلى الاعتراف وصدقت فراسته.
ربما كانت لدى تونس نظرة خاصة هي أن لا يتوسع المغرب أكثر مما هو عليه. وتونس كدولة صغيرة كانت تنظر إلى علاقات دول المغرب العربي بمنظار توازن القوى. وهي نفس النظرة التي ظلت عند الجزائريين حتى يومنا هذا، باعتبار أن المغرب كلما استعاد ترابه أصبح الدولة العظمى في منطقة المغرب العربي.
كان الرئيس بورقيبة يتقيد بمبدأ الواقعية. أليس هو الذي ندد برفض العرب لتقسيم فلسطين في خطابه بأريحا عام 1965 ونصح بقبول قرار مجلس الأمن رقم 181 من منطلق الواقعية السياسية؟. لذلك فإن موقف تونس إزاء موضوع موريتانيا يتسع لأكثر من قراءة. ومن بين القراءات التي تحتمل أن تكون واحدةٌ منها صحيحة هي ما ذكرته لكم. ولقد أحدث ذلك الموقف شرخا في العلاقات المغربية التونسية لم يلبث أن اندمل جرحه ولم يكدر العلاقات المغربية التونسية أي جفاء بعد ذلك إلى اليوم.
* في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1962 عرض الملك أول دستور للبلاد وجرى عليه استفتاء الشعب المغربي في 7 ديسمبر (كانون الأول). وأود هنا لو تحدثني عن الظروف والمرجعيات التي اعتمدها الملك في إصدار دستور ممنوح دون الرجوع إلى مجلس تأسيسي أو ما شابه ذلك؟
ـ أنا أتحفظ على نعت الدستور بالممنوح. وسأشرح لك لماذا: كان من بين ما جعل الملك يختارني لمنصب كاتب الدولة في الإعلام هو أن يجعل قطاع الإعلام تحت إمرته بوصفه رئيس الحكومة خلال الحملة الاستفتائية على الدستور. وأنا عندما عدت من دمشق وجدت أن الدستور قد أُعِدّ من قبل جماعة من الفقهاء الدستوريين، وشارك في الإعداد بعض الوزراء منهم علال الفاسي، وأحمد رضا كديرة. كما قدم خبير فرنسي (موريس دي فيرجي) خبرته في وضع الدساتير. وكلفني الملك أن أطلع على الدستور وأن أتولى شرحه طيلة أيام الحملة الاستفتائية بندا بندا عبر الإذاعة. واستمر عملي هذا زهاء ثلاثة أسابيع أي طيلة حملة الاستفتاء، حيث كنت أقرأ تعليقي على الدستور كل يوم في مستهل نشرة أخبار الساعة الثامنة والنصف مساء. لقد اختار الملك الحسن الثاني دستورا وعرضه على الاستفتاء. وقال البعض عنه إنه دستور منحة أو وصفه بالممنوح. وأنا كأستاذ للقانون الدستوري يمكنني أن أقول لك إن نعت الممنوح لا ينطبق على الدستور الذي قدمه الملك للاستفتاء، لأن الدستور الممنوح يضعه رئيس الدولة أو جماعة أو فريق حاكم ويختمه رئيس الدولة بطابعه ويعطيه للشعب منحة، أي أنه لا مناقشة فيه ولا جدال، ولا يعبر الشعب إزاءه عن اختيار أو عن إرادة. وهذا النوع من الدساتير كان يمنحه الأباطرة القدامى شعوبهم وممالكهم كما فعل في القرن الماضي أمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي والملك فؤاد عاهل مصر، وهو دستور لا يُعرض على استفتاء ولا يناقشه برلمان للموافقة عليه. وإذا كانت القاعدة القانونية تقول إن من يمنح من حقه أن يمنع، فنفس الإرادة التي يتقرر بها ذلك الدستور هي التي تلغيه أو تعطله. لذلك لم يكن الدستور الذي طرحه الحسن الثاني دستورا ممنوحا. الكيفية التي اختار بها الملك وضع الدستور وطَرْحَه على استفتاء شعبي وتعديله وإلغاءه بتعديل شعبي بواسطة الاستفتاء كذلك، كانت حلا وسطا بين خيار المجلس التأسيسي المنتخب الذي تكون له سلطة وضع الدستور وإقراره، وبين خيار منح الملك الدستور بإرادته. وكان الملك الحسن الثاني قد استهل خطابه الذي قدم به الدستور إلى الشعب قائلا: «أعرض عليك شعبي العزيز دستورا وضعتُه واستلهمتُ فيه الروح الوطنية وحبي لك وتطلعي إلى تطور البلاد. وهو مشروع يمكن أن تقول عنه نعم كما يمكنك أن تقول لا. وإذا قلتَ لا فإنني سأسحب المشروع وأعرض عليك دستورا آخر وأطلب منك أن تقول له نعم».
(يتبع) هذا الدستور تضمن مقتضيات جديدة من بينها انتقال الحكم من عهد الحكم المشخَّص إلى عهد الحكم المؤسَّس، لكن الحكومة فيه هي حكومة جلالة الملك الذي يعين وزراءها ويعفيهم ومن بينهم الوزير الأول. وهي غير منتخبة ولكن مسؤولة أمام البرلمان المنتخب الذي يمكن أن يُسقِطها بملتمس رقابة.
الدستور كان في رأي الملك الحسن الثاني يتناسب مع مرحلة الانتقال من عهد الملكية المطلقة والحكم المشخَّص إلى الملكية الدستورية أو عهد حكم المؤسسات ولا أقول الحكم المؤسساتي (لأن النسبة إلى الجمع بهذه الصيغة لا تعجبني. وكم أتألم لنعت أقطار المغرب العربي بنعت المغاربية بدلا من أقطار المغرب الكبير). الملك في هذا الدستور هو السلطة العليا والحكومة لها أيضا سلطاتها التي حددها الدستور.
إذن فالدستور الأول أقرّ مبدأ تجزئة السلط لا تصل إلى حد الكمال الذي هو فصل السلط بعضها عن بعض ولا سلطة عليا تعلو فيه على السلطات الثلاث.
إن التنظير الأول للدستور كما نظر له الفكر الدستوري أو الفكر السياسي أيام «جان جاك روسو» و«لوك» و«هوبز» تبين أنه لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع. لقد تطورت الديمقراطية وأصبحت نظاما مرِنا يتسع لأكثر من صيغة. والدستور المغربي يعكس هذه المرونة. وقد كنت أدافع عن الدستور في الإذاعة بهذه الحجج. والشعب المغربي صوت عليه بالأغلبية وقَبِل مقتضياته. لا تسألني هل كان الاستفتاء نزيها أم لا. إني أتحدث هنا كفقيه دستوري وليس كسياسي. هناك من يقولون إن طريقة الاستفتاء بالتصويت بنعم أو لا غير ديمقراطية، لأن الشعب لا يستطيع أن يغير بندا من البنود التي لا يرتضيها، لأنه في هذا النظام (كما يقول بعض الفقهاء الدستوريين) عندما تعطي للشعب وثيقة مشتملة على 100 مادة أو 101 كما هو الحال بالنسبة للدستور المغربي الأول، وتقول له أجب بنعم أو لا فإن الشعب ربما يجد في الدستور ثغرات أو قد تكون له على مواده ملاحظات ولكنه لا يملك إلا أن يقول «نعم» أو «لا». وهذه وجهة نظر علمية قابلة للنقاش.
* قلتم إن الحسن الثاني من خلال دستور عام 1962 قدم حلا وسطا ما بين الانتقال من الحكم المشخَّص إلى الحكم المؤسَّس. لكن هل تعتقدون أنّ تَوقُّف عمل مجلس الدستور (الذي عينه الملك محمد الخامس) احتجاجا على انتخاب علال الفاسي رئيسا له وانسحاب كل أعضائه هو السبب الذي دفع بالملك الحسن الثاني في ما بعد إلى اختيار سبيل آخر لوضع الدستور ؟
ـ ربما كان ذلك أحد الأسباب الذي جعل الملك الحسن الثاني لا يتابع تجربة مجلس الدستور الذي عينه والده علما بأن مجلس الدستور هذا ليس هو المجلس التأسيسي المنتخب لوضع الدستور. وجميع ما صدر عن الملك محمد الخامس من تصريحات وما تضمنته الإعلانات التي صدرت في شكل قوانين أو عهد ملكي أكدت أن النظام يجب أن يكون نظام الملكية الدستورية كما يدخل في ذلك إصدر العهد الملكي وتأسيس المجلس الاستشاري (برلمان معيّن غير منتخب ليست له سلطة التقرير)، ومجلس الدستور. ومن خلال هذه المبادرات التي توالت على شاكلة واحدة وكانت ذات هدف واحد كان هناك ما يمكن أن نسميه بــ«الوصية» أي وصية الملك محمد الخامس لولي عهده بأن يُعجِّل عندما يخلف والده حتى يصبح حكم المغرب دستوريا. فهذه الوصية كانت من الأسباب التي جعلت الحسن الثاني يبادر إلى وضع الدستور إنجازا لوعد أبيه للأمة.
* لقد شارك حزب الاستقلال في الانتخابات البلدية الأولى عام 1960 كما شارك في مجلس الدستور، وشارك في أول حكومة رأسها الملك الحسن الثاني، وصوت لفائدة دستور 1962، لكنه سرعان ما انسحب من الحكومة في 3 يناير 1963، واتخذ موقفا معارضا. فما هي أسباب هذا الانسحاب أو هذا التقلب؟
ـ كل ما أعلمه هو أن الملك الحسن الثاني أخبرني وبعض الوزراء المقربين منه أن حزب الاستقلال لن يشارك في الحكومة المقبلة. ولم يعط لنا أسباب ذلك. إلا أننا فهمنا أنه ربما كانت هناك أزمة بينه وبين حزب الاستقلال. لذلك فإما أن يكون حزب الاستقلال هو الذي اختار أن ينسحب، وإما أن يكون الملك هو الذي أشار إليه بذلك.