جهود الدكتور يوسف القرضاوي في خدمة السنة النبوية
د. محمد سليم العوا
بقلم الدكتور محمد سليم العوا (الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) .
السنة النبوية هي المصدر الثاني لشريعة الإسلام، وهي التفسير العملي للقرآن الكريم، وهي النموذج الذي يحتذى لتحقيق الحياة الإسلامية في أكمل صورها، والمثال الذي يقتدى به من أحب أن يضع موضع التنفيذ قول الله تبارك وتعالى: ? لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخرٍ ?.
والالتزام بالسنة النبوية هو معيار الحب الصحيح لله عز وجل: ? قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ? . بل إن النزول على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ـ في حياته ـ وعلى الأحكام التشريعية الثابتة بصحيح السنة, بعد وفاته, هو مقتضى الإيمان نفسه، حتى إن القرآن الكريم ينفي الإيمان عمَّن رغب عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل عمَّن وجد في صدره مجرد حرجٍ مما قضى به أو لم يسلِّم لحكمه تسليما تاما: ?فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و
ا تسليما ? .
لذلك ـ ولغيره مما هو مذكور في مواضعه من مباحث مكانة السنة النبوية في التشريع ـ لا يكون المرء عالما إلا إذا جمع إلى علمه بأي فرع من فروع العلم الإسلامي يتخصص فيه أو يبرع في مسائله، العلم بالسنة النبوية، علما يمكّنه من الوقوف على صحيحها وضعيفها، ويتيح له التمييز بين ناسخها ومنسوخها، وبين ما كان منها خطابا للأمة كلها، على توالى عصورها وتتابع أجيالها، وما كان خطابا للحاضرين في « قضية عين لا عموم لها». وأعلى العلماء كعبا في العلم، وأبقاهم أثرا في الناس هم الذين يجمعون بين علوم الرواية وعلوم الدراية، فلا يقفون عند نقل المتون، ومعرفة طبقات الرجال، وعدولهم من مجروحيهم، بل يضيفون إلى ذلك النظر في النصوص نفسها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وينزلون كل نص منزلته وفق الضوابط العلمية المتقنة التي سبق بها المحدثون علماء الدنيا كلها، فأسسوا علما موطأ الأكناف لا نظير له في علوم أهل الأديان، فضلا عن علوم غيرهم من الناس.
وحين دعاني الاخوة الكرام القائمون على إصدار مجلد يهدى إلى الأخ الجليل الشيخ يوسف القرضاوي لمناسبة بلوغه السبعين ـ مدَّ الله في عمره ونفع بعلمه ـ تردداً متوالياً، وأبطأت على نفسي قبل أن أبطئ عليهم، فعلم الشيخ وعمله وجهاده أوسع من أن يحصر الحديث عنه في مقال، وفي أثناء هذا التردد أهداني الشيخ ـ حفظه الله ـ كتابه: (السنة مصدرا للمعرفة والحضارة) ووجدتني وأنا أقرأ أولى صفحاته أتجه إلى الكتابة عن خدمة الدكتور القرضاوي للسنة النبوية في كتبه المختلفة وبحوثه المتنوعة.
وليس في الوسع الإلمام بكل موضع من كتب الشيخ ـ التي بلغ عددها سبعة وستين كتابا ـ فيه خدمة للسنة النبوية الشريفة.
ولذلك اخترت من قائمة مؤلفاته كتباً أربعة رأيت أن أجعلها موضوعا لهذه الكلمة الوجيزة عن جهوده في خدمة السنة النبوية. والكتب التي اخترتها هي:
1- مشروعه لمنهج موسوعة الحديث النبوي ( 1404 = 1984 )
2- كيف نتعامل مع السنة النبوية ( 1409 = 1989 )
3- المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ( 1406 = 1986 )
4- السنة مصدرا للمعرفة والحضارة ( 1415 = 1995 )
(1) نحو موسوعة للحديث النبوي: مشروع منهج مقترح:
كان إصدار«موسوعة للحديث النبوي تضم صحاح الأحاديث، محققة، مبوبة مفهرسة، مخرجة إخراجاً عصرياً مشوقاً، معلقاً عليها بما يوضح المفاهيم، ويدفع الشبهات والمفتريات»، أملاً من الآمال التي روادت نفوس العلماء زمنا طويلا.
وفي سبيل وضع هذا المشروع موضع التنفيذ أعدّ الدكتور القرضاوي مشروعا لمنهج مقترح للموسوعة قال عنه إنه يعرضهُ «على أهل العلم في عالمنا الإسلامي، ليبدوا ملاحظاتهم عليه.. والموسوعة إنما هي للمسلمين جميعا، فمن حقهم أن يكون لهم رأيٌ فيها. وما تشاور قوم قط إلا هُدوا لأرشد أمرهم.... والمسلم لا يكتفي بطلب الحسن من الطوائف بل يسعى إلى التي هي أحسن...».
وقد بدأ الدكتور القرضاوي منهجه المقترح بتوطئة ذكر فيها أهم الكتب الموسوعية التي جمع أصحابها فيها ما ضمته كتب شتى من مصنفات الأئمة المحدثين، ووصف كل كتاب وصفاً مختصراً. فذكر أولا أهم الكتب الجامعة بين الصحيحين (ويجب أن يضاف إليها الآن كتاب محدّث مصر الشيخ محمد أحمد بدوي، حفظه الله، وقد سمّاه كفاية المسلم في الجمع بين البخاري ومسلم واستوعب فيه رواياتهما مع المحافظة على تراجم أبواب صحيح البخاري المعبّرة ـ كما وصفها العلماء ـ عن فقه الإمام البخاري، وذكر كل حديث أخرجاه بلفظيهما. كما ذكر متابعات البخاري وتعليقاته، والآثار الموقوفة والآيات القرآنية التي اشتمل عليها صحيحه، وقد صدر في مصر أربعة في مجلدات عام 1990.)
ثم ذكر الدكتور القرضاوي الكتب الجامعية بين الصحاح وغيرها من مدونات الحديث، فذكر كتاب:«التجريد للصحاح الستة» للحافظ أبي الحسن رُرَيْن بن معاوية العبدري السرقسطي الأندلسي، وكتاب «جامع الأصول في أحاديث الرسول» للحافظ الإمام مجد الدين بن الأثير الجزري، وأسهب في التعريف به وبمنهج صاحبه. وذكر كتاب «جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن» للحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير، الزرعي ثم الدمشقي، ثم ذكر«مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» للحافظ نور الدين الهيثمي، ثم كتاب «جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد» للحافظ ابن حجر العسقلاني، ثم كتاب«إتحاف السادة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» للحافظ شهاب الدين البوصيري، ثم كتاب «الجامع الصغير» و«زيادته»للإمام السيوطي، ثم«الجامع الكبير» أو«جمع الجوامع» له أيضاً، ثم كتاب «كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال» للمتقي الهندي، ثم كتاب«الجامع الأزهر في حديث النبي الأنور» للعلامة عبد الرؤوف المناوي.
وقد وصف الدكتور القرضاوي هذه الكتب جميعاً وصفاً مختصراً كافياً للتعريف الوجيز بكل منها. ولكن الأهم من هذا الوصف هو المآخذ التي بينها عليها جميعاً، والتي من أجلها كان لابد من مشروع موسوعة عصرية للحديث النبوي الصحيح. فقد ذكر الدكتور القرضاوي أن آفات هذه المحاولات التي ذكرها هي:
1- تجريدها الأحاديث من أسانيدها.
2- الجمع بين المقبول والمردود من الحديث.
3- أن بعضها فيه الشديد الضعف والمنكر والموضوع.
4- أن بعضها لم يبين درجة الحديث تصحيحاً وتضعيفاً.
5- أن البعض الذي عني ببيان درجة الحديث لم يسْلَم من انتقاد وتعقب.
6- عدم الاستيعاب.
7- عدم مناسبة التبويب لهذا العصر.
وأرجع ذلك كله إلى سببين أولهما « أن تلك الجهود كانت جهودا فردية، وعمل الفرد ـ إذا لم يراجع ويناقش ـ لا يسلم من القصور والآفات» والثاني «أنها كتبت في زمن غير زمننا». وقد أدى ذلك بالدكتور القرضاوي إلى الدعوة إلى موسوعة «عصرية تقوم بجهود جماعية.... ويستخدم فيها ما وصل إليه عصرنا من إمكانات علمية وعملية... لتوازن الأمة بين ما كسبته من نتاج العلم، وما تتطلع إليه من رحيق الإيمان، ثم تكون هذه الموسوعة للصحيح والحسن من الحديث، وهما اللذان يقبلان ـ دون غيرهما ـ في الاستدلال على الحكم الشرعي. وهي موسوعة لكل مثقف مسلم في عصرنا ... تأخذ بيده نحو فهم سليم للإسلام ومصادره».
وقد اقترح الدكتور القرضاوي أن يكون ترتيب الموسوعة الحديثة العصرية ترتيباً موضوعياً يعطينا«تعالى من السنة في الموضوع الواحد مجتمعة مرتبة في موضوع واحد». وذكر طريقة ذلك التصنيف الموضوعي والأقسام الرئيسية الكبرى فجعلها اثني عشر قسما. وضرب مثالا واضحاً للتقسيم الداخلي أو الفرعي في كل قسم.
والحق أن الترتيب الموضوعي هو الذي يتفق مع هدف الموسوعة كما تصوره مشروع الدكتور القرضاوي لها. فإن الترتيب المعجمي ( الألفبائي ) لا يستفيد منه إلا من كان يعرف أول ألفاظ الحديث، وقد يكون للحديث روايات عدّة تختلف اللفظة الأولى في بعضها عن البعض الآخر فيصعب، وقد يستحيل، الوصول إلى الحديث حتى لمن عرف أولى كلماته ما لم تكن هي المروية في النص الذي ضمته الموسوعة. أما الترتيب الموضوعي فإن النظر في الباب أو الفصل أو الفرع يضع أمام الباحث النصوص النبوية الصحيحة كافة فيجد ضالته وإن لم يعرف ـ في الأصل ـ نصاً معيناً يبحث عنه، أو لفظاً بذاته يهتدي إلى الحديث به.
واقترح الدكتور القرضاوي أن «تضم الموسوعة الصحيح والحسن من الحديث فقط، وإذ هما اللذان يحتج بهما. تؤخذ منهما الأحكام، وتعرف في ضوئهما هداية الله تعالى، وهَدْيُ رسوله صلى الله عليه وسلم».
وهذا الكلام حق كله. ومثله في وجوب العمل به والاعتماد عليه الأسباب الثلاثة التي ذكرها في وجوب الاستغناء عن الحديث الضعيف وهي: أن في الصحيح كفاية وغنىً، وأن الشروط التي اشترطها العلماء لرواية الضعيف لا تراعى عند التطبيق عادة، فيظن القارئ أو السامع أن كل ما تسبقه عبارة تدل على نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح يحتج به، وأن الأحاديث الضعيفة، وإن كانت لا تثبت حكماً شرعياً، وكثيراً ما تتضمن مبالغات يرفضها العقل الصحيح، ويردها الدين الصحيح.
وأقوى من ذلك في وجوب رد الحديث الضعيف، وعدم روايته أو نقله في الموسوعة المنشودة بل في الكتب المؤلفة عامة، ما ذكره الدكتور القرضاوي ـ وهو صحيح ـ ومن أن العلماء الذي نقل عنهم التساهل في رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال إنما كانوا يعنون به ما عرف المصطلح المتأخر باسم (الحسن)، وعلى ذلك فلا عذر لأحد في الاحتجاح بالضعيف أصلاً.
والتفرقة التي يجريها كثير من العلماء ـ وقد ذكرها الدكتور القرضاوي ـ بين ضعيف لا ينجبر ضعفه، وضعيف خفيف الضعف تقوية الشواهد، وتفرقة محل نظر، لأن القائلين بها شرطوا في الشواهد المقوية أن تكون «سالمة من الضعف» أو من «سبب الضعف»، وهذا الاشتراط يجعل الحجة في الرواية التي خلت من سبب يضعفها لا في الرواية الضعيفة أصلاً. وقد أحسن الدكتور القرضاوي حين نهج منهج أئمة التحقيق فقرر أنه لا عبرة بتعدد الطرق وكثرتها، وإنما العبرة بسلامة الطريق التي يروي بها نص منسوب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من العلل القادحة.
وهذا المبدأ الذي قرره الدكتور القرضاوي وقرره من قبله المحققون من أئمة هذا الشأن يغني عن القيود الثلاثة التي ذكرها لتقوية الحديث الضعيف «بكثرة الطرق». فالحق أن كثرة الطرق الضعيفة لا يزيد الحديث إلا ضعفاً. وطريق واحدة صحيحة أو حسنة، سالمة من الشذوذ والعلة، تكفي ليثبت بها النص وليعمل بما تضمنه من حكم، أو يتبع ما فيه من توجيه، أو يصدّق ما فيه من خبر. فالحجة في الطريق الواحدة الصحيحة ولا حجة في طرق كثيرة ضعيفة بالغة ما بلغت كثرتها.
ومن أجمل ما تضمنه مشروع الموسوعة التذكير بعدم صحة المقولة الذاهبة إلى أن علماء عصرنا لا يجوز لهم أن يصححوا أو يحسنوا ما لم ينص الأئمة السابقون على حسن أو صحته. فالحق أن باب التصحيح في الحديث مثل باب الاجتهاد في الفقه، كلاهما غير قابل للإغلاق. وقد حفظت عن شيخنا العلاّمة محمد مصطفي شلبي قوله: «هذه مسألة اجتهادية، لا يقبل القول فيها إلا ممن بلغ رتبة الاجتهاد في الفقه أو رتبة النظر في الحديث رواية ودراية. فإن كان القائل بها من هؤلاء فوجوده يرد عليه قوله، إذ هو فكلامه لا قيمة له ولا عبرة به ». والشرط الوحيد لذلك هو الأهلية العلمية بشروطها المعروفة في علم أصول الفقه وعلم أصول الحديث.
وقد تناول الدكتور القرضاوي في مشروعه موضوع المصادر التي يؤخذ منها الحديث النبوي، ورأى أن الواجب الرجوع إلى المصدر الأصلي دون المختصرات أو الجوامع التي ضمت أحاديث كتاب واحد مجردة من السنة، أو ضمت أحاديث الكتب، وعن ترتيب ذكرهم عند بعض. وتحدث عن نسبة الحديث إلى من أخرجه من أصحاب الكتب، وعن ترتيب ذكرهم عند تعددهم، وعن كيفية انتقاء الروايات وذكر الزيادات والمخالفات. واقتراح أن تضم الموسوعة الأحاديث الموقوفة على الصحابة باعتبارهم:«نقلة القرآن والسنة، وأفهم الناس لهما لمشاهدتهم أسباب النزول والورود، ومعرفة القرائن والملابسات، والعيش في مدرسة النبوة، والتمكن من ناصية اللغة.... مع سلامة فطرة، ونور بصيرة، وقوة إيمان، وصدق التزام...».
ولا شك أن هذا العمل يقوي الموسوعة، ويزيد بمعاني الحديث التي يتداولها العلماء مما له أصل من فهم الصحابة أو عملهم، فإذا قدم كل باب ـ كما اقترح الدكتور القرضاوي ـ بآيات القرآن الكريم المتصلة به، كان أمام القارئ صورة، أقرب ما تكون إلى الاكتمال، للموضوع الذي يبحث فيه.
ولم يكتف الدكتور القرضاوي بالاقتراح النظري ـ بكل ما تضمنه من تفصيلات ـ بل زاد على ذلك أن ألحق به مثالين لحديثين نبويين، بيّن فيهما كيف يكون العمل في الموسوعة: جمعا ً بين الروايات، وشرحا للحديث، وتخريجاً له مع ذكر حال رجاله باختصار ولا سيما إن كان فيهم من «تُكُلِّم فيه».
وقد مهّد القرضاوي بهذا العمل، الصغير في حجمه، الكبير في قيمته ومعناه، طريق العمل في الموسوعة المعاصرة للحديث، والتي ندعو الله أن يتم إنجازها في أقرب وقت وعلى أحسن صورة.
(2) كيف نتعامل مع السنة النبوية: معالم وضوابط:
وضع الدكتور القرضاوي هذا الكتاب ليبين كيف نتعامل مع السنة النبوية «بعيداً عن تضييق الحَرْفيين الذين يجمدون على الظواهر، ويغفلون المقاصد، ويتمسكون بجسم السنة، ويهملون روحها! وبعيدا أيضاً عن تمييع المتهاونين والمتعالين الذي يدخلون البيوت من غير أبوابها، والذين يقحمون أنفسهم فيما لا يحسنون، ويقولون على الله ورسوله ما لا يعلمون».
وحاول أن ينصف «السنة من خصومها اللدّ، ثم من أنصارها، الذين يسيئون إليها بضيـق أفقهم ـ مع حسن نيتهم الجليلتين شاغلا لعالم، وموضوعاً لكتاب.
وسجّل الدكتور في مطلع الكتاب (ص27) أن «أوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة فهم السنة والتعامل معها، وخصوصا من بعض تيارات الصحوة الإسلامية فكثيرا ما أُتي هؤلاء من جهة سوء فهمهم للسنة المطهرة».
وحذّر من آفات ثلاث ـ يقع فيها كثير من الناس ـ هي: الغلوّ الذي يقود إلى التحريف اتباعاً للهوى. وانتحال أهل الباطل الذين يحاولون أن يدخلوا الإسلام ما ليس منه، ويلصقوا به من المبتدعات والمحدثات ما تأباه طبيعته وترفضه شريعته، وتنفر منه أصوله فروعه. وتأويل أهل الجهل الذي تُشوّه به حقائق الإسلام، ويُحرّف به الكلم عن مواضعه، وتُنْتقص به أطراف الإسلام.
وقد قعد العلماء لهذه الطوائف كل مرصد. فوقف للغلاة أهل الوسطية الإسلامية الذين أشربوا سماحة الشريعة ورحمتها وبساطتها فردّوا عليهم غلوّهم، وبينوا فساد عملهم وسوء عاقبتهٍ.
ووقف لأهل الباطل، المنتحلين في الإسلام ما ليس منه، علماء الرواية الذين سماهم أحمد بن حنبل ( الجهابذة )، وهم حفظة السنة، وعلماء الرجال، ونقلة الصحيح ونقدة الضعيف فسدّوا منافذ الانتحال وبينوا المقبول من المردود، وأصبح علمهم علماً على علم الحديث الإسلامي، حتى قال العلماء: «الإسناد من الدين. ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»!!
وتصدى لأهل الجهل الفقهاء العاملون الذين ردوا مقولاتهم وبينوا انحرافاتهم، وأثبتوا الحق بدليله، وردوا الضلالة على أصحابها مهما يكن شأنهم غير خائفين في الله تعالى لومة لائم.
والكتاب ـ بعد بابه الأول ـ دليل علمي وعملي موثق لتجنب هذه الآفات مجتمعة. وإذا كان كل ما ذهب إلى الدكتور القرضاوي في المسائل المتعددة التي أثارها وبحثها موثقاً، مردوداً إلى أصوله من علم السلف الصالح، فإن جمعه بين دفتّي كتاب واحد، وعرضه بالأسلوب القوي المشوّق الذي تتميز به كتابة الدكتور القرضاوي، وترتيبه ذلك الترتيب المنطقي القويم، كل ذلك جدير بأن يسلك الكتاب في عداد المصنفات العصرية الرائدة في علوم الدراية.
وقد شدَّد الدكتور القرضاوي في القسم الأخير من باب الكتاب الأول على ضرورة الاقتصار على الاستدلال بالحديث الصحيح والحسن دون الضعيف. وقد ذكر سوء صنيع بعض المفسرين واستشهادهم بالضعيف بل دفاعهم عن «الموضوع» من الأحاديث بزعم أنها كذب (رسول الله ) وليست (كذباً عليه) مما هو محرم!! ولا يملك مسلم إلا أن ينضم إلى الدكتور القرضاوي حيث يقول: «ولا نملك هنا إلا أن نحو قل ونسترجع... فقد جهل هذا الشيخ ذو النزعة الصوفية أن الله أكمل لنا الدين... فلم نعد في حاجة إلى من يكمله لنا، باختراع أحاديث من عنده، كأنما يستدرك على الله أو يمتن على محمد صلى الله عليه وسلم، بقوله له: أنا أكذب لك لأتمم لك ينك الناقص...»(ص36).
وقرن الدكتور القرضاوي التحذير من رواية الضعيف وقبول الموضوع بالتحذير من ردّ الأحاديث الصحيحة، لا سيما«ردها بناءً على فهم خاطئ لاح في ذهن امرئ غير متخصص ولا متثبت، مما يدلنا على ضرورة التأني والتحري والتدقيق في فهم السنة، والرجوع إلى مصادرها وأهلها.. »(ص39).
وضرب القرضاوي أمثلة للفهم الخاطئ الذي ردت به أحاديث صحاح: فذكر من ردّ حديث ( اللهم أحييني مسكينا... ) بناءً على فهمه أن المسْكَنَة هي الفقر من المال، والحاجة إلى الناس وهما ينفيان استعاذة النبي من فتنة الفقر، وسؤاله الله تعالى العفاف والغنى.. والحق أن المسكنة هنا لا يراد بها الفقر وإنما يراد بها ـ كما بين العلماء ـ التواضع والإخبات، وألا يكون من الجبارين المتكبرين، وقد كان سلوك النبي صلى الله عليه وسلم كله بعيداً عن الكبر بكل صوره، حتى قال لمن هابه حين دخل عليه: ( هوّن عليك، فلست بملكٍ، وإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ).
وذكر إنكار بعض المعاصرين حديث تجديد الدين، إذ فهم من التجديد أنه التطوير بحيث يلائم الزمن، فقال إن الدين لا يجدد، بل هو ثابت لا يتغير.!!
وهذا الفهم ليس بشيء، فالصحيح أن تجديد الدين هو تجديد فهمه، والإيمان به، والعمل له. فليس التجديد إخراج صورة جديدة للدين، وإنما هو «العودة به إلى حيث كان في عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم بإحسان»(ص43).
وذكر ردّ بعض جراء أهل عصرنا حديث أركان الإسلام الخمسة بحجة أن الجهاد لم يذكر فيه، فهو موضوع!! فقال الدكتور القرضاوي معقباً عليه «وجهل هذا أن الجهاد إنما يجب على بعض الناس دون بعض، ولا يفرض عيناً إلا في ظروف خاصة ولاعتبارات معينة، بخلاف هذه المعاني الخمسة، التي طابعها العموم لكل الناس».
والحق أن آفة رد الحديث الصحيح بفهم خاطئ متعجل كادت تصبح آفة عامة، لا يقع فيها العامة والدهماء وحدهم، بل يقع فيها كثير ممن يتصدون للكتابة في الصحف، ولمخاطبة الناس من خلال مختلف وسائل الاتصال والإعلام. وهذا البحث في كتاب الدكتور القرضاوي بالغ الفائدة في تنبيه هؤلاء إلى خطورة ما يصنعون. وفي تنبيه الجماهير المستمعة أو القارئة إلى عدم التسليم بإنكار الحديث قبل سؤال أهل العلم، ومعرفة معناه الصحيح، أو تأويله المقبول.
وفي الكتاب الثاني من الكتاب تناول الدكتور القرضاوي بحث السنة باعتبارها مصدرا للفقيه والداعية.
ففي مجال الفقه والتشريع تحدث عن مكانة السنة، ونقل أقوال الأئمة المعتبرين في الاحتجاج بها والنزول على ما يثبت فيها من أحكام باعتبارها بيان القرآن الكريم.
ومن أمتع ما في هذا الباب، وانفعه، الموضوع المعنون: ضرورة الوصل بين الحديث والفقه. (55_59).
وفي هذا الموضوع بين الدكتور القرضاوي أنه من الضروري سدّ الفجوة بين المشتغلين بالفقه والمشتغلين بالحديث. «فالغالب على المشتغلين بالفقه أنهم لا يتقنون فنون الحديث، ولا يتعمقون في معرفة علومه ولا سيما علم الجرح والتعديل.... ولهذا تنفق عندهم أحاديث لا تثبت عند أئمة هاذ الشأن من صيارفة الحديث، ومع هذا يثبتونها في كتبهم ويحتجون بها لما يقررونه من أحكام الحلال والحرام، والإيجاب والاستحباب.«(ص55).ثم قال:» والغالب على المشتغلين بالحديث أنهم لا يجيدون معرفة الفقه وأصوله والقدرة عي استخراج كنوزه ودقائقه، و الاطلاع على أقوال أئمته.... وأسباب اختلافهم، وتنوع اجتهاداتهم»...«مع أن كل فريق في حاجة إلى علم الآخر، ليكتمل به ما عنده، فلابد للفقيه من الحديث.... ولابد للمحدث من الفقه، حتى يعي ما يحمله، ولا يكون مجرد ناقل، أو يفهمه على غير وجــهه» (56).وهاتان الآفتان فاشيتان اليوم، فالذين يطلبون الحديث أكثرهم لا يعتنون بعلوم الدراية، فضلاً عن الفقه وأصوله، والذين يطلبون الفقه لا ينظرون في الحديث أصلاً ويتناقلون منه ما في كتب الفقهاء دون بحث ولا تمحيص وما أحسن ما نقله الدكتور القرضاوي عن سفيان بن عيينة:«لو كان الأمر بيدنا لضربنا بالجريد كل محدث لا يشتغل بالفقه، وكل فقيه لا يشتغل بالحديث».
ويوجد في كتب الفقه ـ كما يقول القرضاوي ـ «الضعيف الشديد الضعف، وما لا أصل له بالمرة»(ص56). بل إن «كتب أصول الفقه نفسها لا تخلو من الأحاديث الواهية والموضوعة والتي لا اصل لها...»(ص56). وكل ما قاله الدكتور القرضاوي في هذا الموضوع صحيح.
والمخرج من هذه الآفة عندي ـ آفة الانفصال بين الفقه والحديث ـ يكمن في أمرين
أولهما: إصلاح مناهج التعليم في الجامعات والمعاهد المعنية بالعلوم الدينية بحيث لا يتخرج الطالب في أحد القسمين إلا وقد أخذ حظاً كافياً من علوم القسم الآخر.
وثانيهما: أن يتنبه العلماء والدعاة والمدرسون الذين يعقدون حلقات العلم في المساجد والبيوت إلى ضرورة الربط بين علوم الفقه وعلوم الحديث، لأن المتخرجين على هؤلاء العلماء والدعاة المدرسين لا يقلون تأثيراً على الناس عن نظرائهم المتخرجين في الجامعات والمدارس الرسمية. بل إن خريجي الحلقات العلمية قد يكونون أشد خطراً من هؤلاء، وإذ كثيرا ما يكتفي الواحد منهم ببعض أطراف ما سمعه من شيخه وينطلق بعد ذلك خطيباً للجمعة، ومفتياً للناس، وقد «يتزبب قبل أن يحصرم» فيصبح شيخاً متبوعاً وليس له من العلم شيء نافع أو قدر كافٍ.
ومعظم من يسمّون«بالدعاة» و«الشيوخ»، من نتاج العمل الإسلامي العام في المساجد والبيوت والزوايا، من هؤلاء الذين فارقوا شيوخهم، قبل أن يستكملوا جمع ما عند هؤلاء من العلم، لأسباب متعددة، وتحولوا، بدورهم، إلى مشايخ لغيرهم... وهكذا يقل العلم، ويقبض العلماء، فيتخذ الناس رؤساء جهالاً: يفتون بغير علم فيضلون ويضلون. وتدارك هذا الوضع الخطير واجب على العلماء العاملين، قام الدكتور القرضاوي ـ في بحثه هذا ـ بالتنبيه إليه ، فجزاه الله خيراً كثيراً ونفع بما كتب، وهدي من بيدهم مقاليد الأمور إلى العمل به.
وفي القسم الثاني، من هذا الباب، حقق الدكتور القرضاوي القول في مسألة رواية الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب. ونقل أقوال أئمة المحدثين في شأنها، وجمع بينها جميعاً حسناً بكلام العلاّمة ابن رجب الحنبلي في شرحه لكتاب العلل للترمذي. ومن أهم ما في هذا ل الموضع من الكتاب تنبيه الدكتور القرضاوي إلى فرض العلماء قديماً وحديثاً أن يُروى الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب والرقائق والمواعظ، أو في غيرها من أبواب الحكم وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره. وهو صحيح مذهب المنقول عنهم جواز رواية الضعيف في فضائل الأعمال، كما نقله القرضاوي نفسه عن عدد من العلماء القدماء والمحدثين.
ثم إن الشروط التي اشترطها المجيزون لرواية الضعيف في الترغيب والترهيب لا تراعى كما قال القرضاوي بحق ف يهذ الموضع وغيره من كتبه ـ فلا حجة في التمسك بها بوصفها عاصماً من توهم الصحة أو ثبوت العمل، أو مشروعيته، أو وجوبه، ومع كون العمل، في التطبيق، يجري على خلافها.
وبعد أن ذكر الدكتور القرضاوي منع العلماء من ذكر الحديث الضعيف بصيغة الجزم: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهو ضابط مهم، بيّن أن الخطباء والمذكرين والمؤلفين الذين يروون الأحاديث الضعيفة لا يلقون بالا لهذا التنبيه.!!(ص76). ثم ذكر أن رواية الضعيف في فضائل الأعمال لا تعني إثبات حكم به (ص78ـ82). وإنما أجازوا روايته للحض «علي عمل صالح ثبت صلاحه بالأدلة الشرعية الضعيف صلاح العمل أو سوءه». ثم استدرك فقال: «ولكن كثيرا من عامة الناس ـ بل من المحدثين أنفسهم ـ لم يفرقوا بين جواز رواية الضعيف بشروطه وإثبات العمل به».(ص79).
وضرب أمثلة لذلك كالاحتفال بيوم عاشوراء، والذبح فيه، واتخاذ عيداً، والاحتفاء بليلة النصف من شعبان بقيام ليلها وصيام نهارها.. ووجود هذه الأمثلة وغيرها في حياة الناس، وصحيح معني كلام العلماء المحققين في المسألة، يدعوان إلى القول بعدم جواز رواية الحديث الضعيف في شيء أصلاً. ففي الصحيح ـ كما قال الدكتور القرضاوي ـ كفاية ومقنع. وسد ذرائع الفساد مقدم على فتح ذرائع المصلحة. والثابت بطريق شرعي معتبره لا يحتاج إلى تقويته بطريق ضعيفة أو مشكوك فيها.
ويؤيد ما نراه ما ذكره الدكتور القرضاوي، بعد أن نقل كلاماً دقيقاً وصادقاً لابن تيمية في معني العمل بالحديث الضعيف(ص80 ـ 81)حيث قال القرضاوي:«ورغم هذا البيان رأينا الكثيرين يثبتون التحديدات والتقديرات بالحديث الضعيف».!!
ولذلك، فإن فائدة بيان العلماء لحقيقة هذه المسألة هي أن نمتنع عن رواية الضعيف أصلاً إلا مع بيان ضعفه، إذ الثابت أن كل تحذيرات العلماء قد ذهبت هباءً فيتعين الوقوف عند الصحيح والحسن، وعدم تجاوزهما إلى الضعيف إلا مبيناً ضعفه لئلا يغتر به أحد.
وقد عنون الدكتور القرضاوي للباب الثالث والأخير، من الكتاب بعنوان: «معالم وضوابط الحسن فهم السنة النبوية»، وجمع فيه ثمانية أمور لا غنى عن واحد منها لفهم صحيح للسنة النبوية مهما يكن موقع الناظر فيها: فقيهاً، أو داعية، أو واعظاً، أو مدرساً، أو باحثاً، أو مهتماً بغير ذلك من الاهتمامات التي يحتاج في أدائها إلى النظر في السنة النبوية والتزود من معينها.
ففي الضابط الأول بيّن الدكتور القرضاوي ضرورة فهم السنة في ضوء القرآن الكريم.«فالقرآن هو روح الوجود الإسلامي، وأساس بنيانه، وهو بمثابة الدستور الأصلي، الذي ترجع إليه كل القوانين في الإسلام فهو أبوها وموئلها.
والسنة النبوية هي شارحة هذا الدستور ومفصلته، فهي البيان النظري والتطبيق العملي للقرآن، ومهمة الرسول أن يبين للناس ما نزّل إليهم.... ومعنى هذا أن تفهم السنة في ضوء القرآن».(ص93).
وعلى هدي هذه القاعدة بين الدكتور القرضاوي بطلان حديث (الغرانيق) لمنافاته لسياق الآيات التي زعموا أنهن ذكرن فيها، فالآيات من سورة النجم ( 19ـ23 ) تندد بالأصنام وتنكر على عبّادها من دون الله فكيف يدخل فيها مدح الغرانيق ورجاء شفاعتهن؟! وبالقاعدة نفسها أبطل الدكتور القرضاوي الحديث الذي تقول كلماته عن النساء: «شاوروهن وخالفوهن»، فهو حديث مكذوب لمنافاته قول القرآن الكريم:«فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما»(البقرة:233).
وانتهي من فهمه لآية الأنعام (141)«وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله، والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده» ـ انتهي من فهمه لهذه الآية، كما سبق له أن فعل في «فقه الزكاة» ـ إلى وجوب الزكاة في كل مزروع تنبته الأرض؛ وإلى ضعف الأحاديث المعارضة لذلك.
وقرر الدكتور القرضاوي في هذا الموضع قاعدة مهمة حيث قال:«من حق المسلم أن يتوقف في أي حديث يري معارضته لمحكم القرآن إذا لم يجد له تأويلاً مستساغاً» (ص96). وبيّن أنه هو نفسه متوقف في معني حديث أبي داود ( الوائدة والموؤدة في النار )لأن الحكم على الموؤدة بالنار يعارض قوله تعالى: ? وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت ? (التكوير:8ـ10). وأنه متوقف في الحديث الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل سأله عن أبيه أين هو: ( إن أبي وأباك في النار ) وقال الدكتور القرضاوي هنا:«لكني أوثر في الأحاديث الصحاح التوقف فيها، دون ردها بإطلاق، خشية أن يكون لها معني لم يفتح عليه بعد»(ص9).
وهذا روع حسن، وإشفاق من القول بغير علم، يحمد لصاحبه. وهو مع ذلك نقل ردّ شيخنا، حجة الإسلام في عصرنا، الشيخ محمد الغزالي لحديث«إن أبي وأباك في النار»، ونقل مناقشة الأِّبي ـ شارح صحيح مسلم ـ لتسليم الإمام النووي بالحديث على إطلاقه، وبنائه حكمين عامين عليه، وانتهاء الأِّبي إلى أنه: إما خبر آحاد فلا يعارض المقطوع به شرعا من عدم استحقاق العذاب إلا بعد إقامة الحجة على المنكر أو الرافض، وإما أنه ـ ومثله من الأحاديث الواردة بعذاب بعض أهل الفترة ـ خاص بهؤلاء لسبب يعلمه الله، وإما أن المستحقين للتعذيب هم الذين أحدثوا أموراً من الضلال والفساد لا يعذرون بها. وضرب القرضاوي لذلك مثلاً أن يكون قد وأد ابنته أو نحوه فما هو معلوم القبح لكل العقلاء. (ص99).
ومع أني أحمد التوقف الذي ذهب إليه الدكتور القرضاوي، فإنني لا ألوم من أبدى في هذه الأحاديث رأيه، كالأبِّي وشيخنا الغزالي رحمهما الله، فإنّ التوقف، وإن أراح ضمير صاحبه، وأمانته العلمية، يبقي السائلين وطلاب المعرفة في حيرة من الأمر، لاسيما ونحن نتحدث عن معارضة القرآن نفسه، لا عن معارضة العقل ومدركاته، أو العلم ومكتشفاته.
ولعل الجمع بين الموقفين يكون بإبداء الرأي في الحديث مع التحفظ بأن هذا هو رأي العالم المسؤول حتى وقت الجواب، وقديماً جعل علماؤنا تحفظاً دائماً على كل رأي أبدوه هو قولهم:«والله أعلم»، وهو تحفظ مستصحب دائماً من كل فروع المعرفة الإنسانية، وهو كاف لعذر كل ذي رأي إذا تغيّر بعد ذلك رأيه، أو فتح الله له من أبواب المعرفة ما لم يكن مشرعاً أمامه حين أفتي أو علم أو كتب أو تكلّم.
والواجب، على كل حال، كما بين الدكتور القرضاوي، أن يدقق كل التدقيق في ظن معارضة الحديث الصحيح للقرآن الكريم تجنباً للانزلاق إلى ردّ الحديث الصحيح بالظنون والأوهام.
وقد تناول الدكتور القرضاوي ـ بعد ذلك ـ موضوع جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد «بحيث يرد متشابهها إلى محكمها، ويحمل مطلقها على مقيدها، ويفسر عامها بخاصها. وبذلك يتضح المعنى المراد منها، ولا يضرب بعضها ببعض.»(ص103).
وضرب مثلاً لذلك بسوء فهم بعض الأحاديث، ومنها الأحاديث الواردة في النهي عن إبال الثوب فذكر غلوّ بعض الشباب في أمرها، ورميهم من لم يقصر ثوبه ـ كما يفعلون ـ بقلة الدين ولو كان من العلماء الدعاة.
وبين أن الصواب في هذه القضية يعرف بالنظر في مجموع الأحاديث، وهو أن النهي والوعيد إنما وردا فيمن يفعل ذلك خُيَلاء. ثم قال الدكتور القرضاوي:«إن أمر اللباس يخضع في كيفيته وصورته إلى أعراف الناس وعاداتهم ... والشارع هنا يخفف عن الناس القيود، ولا يتدخل إلا في حدود معينة ليمنع مظاهر الصرف والترف في الظاهر، أو قصد البطر والخيلاء في الباطن...». وهذه قاعدة ينبغي النظر إليها في مجمل الشؤون المبنية على الأعراف والعادات، وفي تفصيلاتها. لأن الأصل في الشرع أن يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وأن يريد بهم إلى سر ولا يريد بهم العسر، وأن لا يجعل عليهم في الدين من حرج. ولذلك كان العرف معتبراً في تقرير الأحكام إلا حيث يصادم نصاً صحيحاً فيعمل النص ويهمل العرف.
وما أحسن ما نقله الدكتور القرضاوي عن الحافظ العراقي:«والخروج على العادة أحياناً يجعل صاحبه مظنة الشهرة، وثياب الشهرة مذمومة في الشرع أيضاً. فالخير في الوسط»(ص108).
ثم عالج الدكتور القرضاوي موضوع الجمع أو الترجيح بين مُخْتَلِفِ الحديث، فالأصل في النصوص الشرعية ألا تتعارض. وشرح هنا القاعدة التي تقول بتقديم الجمع على الترجيح، ومثّل لذلك بأحاديث زيارة النساء للقبور، وأحاديث العزل، وبيّن وجه الجمع بين ما ظاهره التعارض من رواياتها. ثم تناول موضوع النسخ في الحديث وبين موقف العلماء المحققين منه، ومتى يقال بالنسخ ومتى لا يقال به.
وحين بحث الدكتور موضوع فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها مثّل لذلك بحديث ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) وحديث( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) وحديث ( لا تسافر امرأة إلا ومعها محرم ) وحديث ( الأئمة من قريش ) وبيّن السبب الذي ورد فيه كل حديث منها، والعلة التي بني كل حديث عليها، وأن العمل بهذه الأحاديث منوط بهذه العلل، فيدور الحكم مع علته وجودا وعدماً، كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
وأيد الدكتور القرضاوي رأيه هذا. بموقف عثمان رضي الله عنه من ضالة الإبل، وبالمقرر عند المحققين من العلماء من تغير الأحكام المنصوصة، إذا كانت مبنية على العرف، متي تغير هذا العرف، ومثل لذلك بأمثلة منها تغير نظام العاقلة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنها التوسعة على الناس بإخراج زكاة الفطر من أنواع من الأطعمة التي لم يرد بها النص، ومادامت من غالب قوت البلد، وبإخراجها بدءً من أول رمضان في بعض المذاهب، أو من منتصفه في بعضها الآخر، بعد أن كانت في مجتمع المدينة النبوية تخرج صباح يوم العيد، بعد صلاة الصبح وقبل صلاة العيد. ووصف الدكتور القرضاوي إجازة إخراج قيمة زكاة الفطر نقودا بأن فيه رعاية المقصود النص النبوي وتطبيق لروحه، وربما كانت القيمة أوفي. بمهمة الإغناء للفقراء من الطعام. بل قال إن «هذا هو الفقه الحقيقي».(ص135).
وقد قدم الدكتور القرضاوي لبحثه لمسألة فهم الأحاديث على ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها، بما يمكن أن نجله ختاما لعرضنا لهذا الكتاب الجليل من كتبه في خدمة السنة النبوية. قال ـ حفظه الله ـ«لابد لفهم الحديث فهما سليما دقيقا» من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها، حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجري وراء ظاهر غير مقصود». وقال قبل ذلك مباشرة«وهذا يحتاج إلى فقه عميق، ونظر دقيق، ودراسة مستوعبة للنصوص، وإدراك بصير لمقاصد الشريعة, وحقيقة الدين، مع شجاعة أدبية، وقوة نفسية للصدع بالحق وإن خالف ما ألفه الناس وتوارثوه. وليس هذا بالشيء الهين..»(ص125).
والناظر في كتاب: كيف نتعامل مع السنة، يشهد للشيخ القرضاوي ـ إذا أنصف ولم يتعسف ـ بالحظ الوافر من ذلك كله، مع الإحاطة النادرة بأقوال العلماء وآرائهم وتأويلاتهم وأسباب اختلافهم، وهو كتاب لا يجوز أن يفوت عالما، ولا طالب علم، أن ينتفع به ويستفيد منه.
(3) المنتقي من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري:
كتاب الترغيب والترهيب للحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري هو أعظم كتب الترغيب والترهيب، بإجماع العلماء. وهو المعين الذي يستقي منه معظم الدعاة والوعاظ والمدرسين ما يرد في ثنايا كلامهم أو كتاباتهم من الحديث النبوي الشريف.
وقد جمع الحافظ المنذري في كتابه كل ما كان في كتب من سبقه من العلماء من أحاديث الترغيب والترهيب. وأحاديث الترغيب والترهيب ترقق القلوب وتحرك في النفوس الدواعي لعمل الخير، والزواجر عن الشر، رغبة فيما عند الله من النعيم، ورهبة ممــا عنده ـ سبحانه ـ من العقاب.
وقد بين القرضاوي سبب عمله في (انتقاء) أحاديث من الكتاب وتيسير وصولها للناس مشروحة شرحاً مبسطاً يفيد منه المبتدئ ولا يستغربه المنتهي. فقد رأى« ولع {بعض الناس} بالأحاديث الواهية والمنكرة والشديدة الضعف، بل والموضوعة، أكثر من ولعه بالصحيح والحسن، لان تلك تحمل من التهويل والمبالغات ما يثير عواطف العامة من الناس، وينتزع إعجابهم(ومصمصة) شفاههم، غير مبالٍ بما يحدثه ذلك من استنكار لدى المثقفين والمستنيرين، وما يترتب عليه من إفساد وعي المسلمين بحقيقة الدين.
وحسب هؤلاء إذا احتج عليهم محتج، أو أنكر عليهم منكر، أن يقولوا:«هذا الحديث في كتاب الترغيب والترهيب».(ص47).
وقد رام الدكتور القرضاوي«اختصار الكتاب بحذف الضعيف والمكرر منه، والتعليق عليه بما لابد منه في أضيق نطاق؛ وبذلك ننقذ كثيرين من التعلق بالضعيف من الحديث».(ص48).
ولاشك أن هذا عمل جليل، نهض لمثله من قبل الإمام الحافظ بن حجر العسقلاني، ولكن الفروق بين عمل القرضاوي وعمل ابن حجر كثيرة بيّنها الدكتور القرضاوي في مقدمة كتابه (ص77ـ79) وهي تجعل الاعتماد على المنتقى ضرورة للراغب في الاستفادة من عمل الإمام المنذري رحمه الله.
وقد قدم الدكتور القرضاوي بين يدي مختصره ـ المنتقي ـ بمقدمة ضافية عن فكرة الترغيب والترهيب وأساسها الديني والنفسي، ثم تحدث عن الترغيب والترهيب في القرآن الكريم ـ وهو موضوع يحتاج إلى أن يفرد له كتاب ـ ثم تحدث عن الترغيب والترهيب في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناول في ذلك ذكر الكتب التي جمعت هذه الأحاديث إلى أن ختمها المنذري بكتابة الجامع.
وتحدث الدكتور القرضاوي عن أساليب الترغيب في الحديث، وعن أنواع الثواب والعقاب، وعن الجزاء في اليهودية والنصرانية والفرق بينه وبين فكرة الجزاء في الإسلام. فالجزاء في الإسلام متنوع شامل فهو يشمل ـ في جانبي العقوبة والمثوبة ـ الأجزية الدنيوية، والأخروية، والروحية، والمادية، الفردية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية. وذكر الدكتور القرضاوي أمثلة من الحديث الصحيح لذلك كله تدل على حصة ما قرره عن مفهوم الجزاء في الإسلام.
وتحدث الدكتور القرضاوي في مقدمته ـ أيضا ـ عن أساليب الترغيب والترهيب وصوره في الحديث الشريف، وعن المثوبات والعقوبات الروحية والنفسية والمعجلة. ثم وقف مع فئتين تعارضان فكرة الترغيب والترهيب، هما الفلاسفة والصوفية، ورد على كل منهما ردا علميا رصينا، وأنكر على المتصوفة مبالغتهم في إنكار العبادة رغبة في الثواب إلى الله بالعبادة رغبة ورهبة. ثم عقب بكلام ابن قيم الجوزية الذي بين فيه حقيقة الجنة والنار، وختمه بقوله«إن مطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين هو: الجنة، ومهربهم: من النار».
ومن أجمل ما في مقدمة الدكتور القرضاوي للمنتقى ما ذكره ـ نقلاً عن الإمام الغزالي ـ من فائدتي استحضار الخوف واستحضار الرجاء؛ فأما الخوف ففائدتا استحضاره: أن يزجر النفس عن المعصية، وأن لا يعجب الإنسان بطاعته فيهلك. وأما الرجاء ففائدتا استحضاره: البعث على الطاعات لأن الخير ثقيل، والشيطان عنه زاجر، والهوى إلى ضده داعٍ، وأنه ـ أي الرجاء ـ يهوِّن على المرء احتمال الشدائد والمشقات، فإن من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.
ثم ذكر الدكتور القرضاوي عمله في الكتاب؛ وجملته أنه حذف منه الضعيف والمكرر، وعلق عليه تعليقات مبسطة تفيد القارئ أيما فائدة.
وقد اقتصر الدكتور القرضاوي على إخراج الصحيح والحسن من أحاديث «الترغيب والترهيب»، دون الضعيف والموضوع، وقد بين في صفحات (48ـ61) مسألة الأحاديث الضعيفة والتساهل في روايتها في فضائل الأعمال، على نحو ما بينه في دراسته«كيف نتعامل مع السنة». ولم يقتصر في الانتفاء على ما صححه المنذري أو حسنه، بل ضم إلى رأيه رأي غيره من أئمة الحديث ونقاده. وقد أسهب الدكتور القرضاوي ـ وحسنا فعل ـ في بيان منهجه في الحكم على الحديث، وكيفية تتبعه أقوال أئمة الصناعة الحديثة واستخلاص الحكم الصحيح على الحديث منها. ومن أوفق ما وفّق إليه في ذلك النظر في المتن أيضا، أي في محتوى الحديث ومضمونه: أيتفق مع أصول الإسلام العامة ومفاهيمه الثابتة، وقيمه المتفق عليها أم لا؟.
ومن هذه المفاهيم ألا يعارض قاطعا عقليا، ولا حقيقة علمية، كما لا يعارض قاطعا شرعيا أو حقيقة دينية سواء بسواء... من أجل ذلك تركت بعض الأحاديث التي قد تقبل من ناحية السند ولكنها تحتوي في متنها ما يوجب التوقف، فلم أدخلها في هذا المنتقي.»(ص73).
وقد قارن الدكتور القرضاوي بين منتقاه ومختصر الحافظ ابن حجر بطريقة غير مباشرة حين ذكر مآخذه على مختصر ابن حجر وهي: مبالغته في الاختصار، وعدم إكماله العمل في الكتاب فقد وقف عند كتاب الحدود وترك ما بعده وهي أبواب كثيرة، وإبقاءه أحاديث غير ثابته مع أنه ذكر أنها غير ثابتة عنده، وعدم كتابته مقدمة تبين منهجه ولماذا أبقى في مختصره ما أبقاه وحذف ما حذفه، وأنه لم يلتزم الصحة فيما أبقاه مع أن بعض ما أخرجه من الضعيف نص هو نفسه في كتبه الأخرى على ضعفه، وانه يحذف أحيانا تعقيبات المنذري مع أهميتها في بيان درجات الحديث.
وهذه المقارنة، غير المباشرة، تبين فضل علم الدكتور القرضاوي، وسده حاجة كانت قائمة إلى أن وفقه الله إلى القيام بإخراج هذا المنتقى للناس. فإذا أضيف إلى ذلك تصحيحه ما وقع في الأصل نفسه (الترغيب والترهيب) من أوهام وأغلاط سواء ما كان مصدره المنذري نفسه (فقد أملى الكتاب كله من حفظه دون مراجعة) وما كان من عمل النساخ، الذين قلما يخلو كتاب من أثر أيديهم في التصحيف والتحريف، إذا أضيف هذا الصنيع إلى مزايا عمل القرضاوي في الانتقاء العلمي، تبين لكل ذي معرفة بكتاب«الترغيب والترهيب» وبعلوم الحديث مدى الجهد الذي بذله الدكتور القرضاوي، ومبلغ العناء الذي تعرض له، وهو ما جعل كتابه بالمنزلة العليا من الكتب المصنفة في عصرنا خدمة للسنة النبوية الشريفة.
والقارئ للمنتقى يجد فيه ـ كما يقول مصنفه:ـ
1- مجموعة طيبة من روائع التوجيه وحقائق المعرفة وجوامع الكلم وشوامخ الأدب تكلم بها رسول لا ينطق عن هوى، وهي تفصيل لما جاء في القرآن الكريم يرد على من زعموا الاستغناء عن السنة بالقرآن.
2- ويجد القارئ في «المنتقى» شمول الإسلام، وتكامل تعاليمه، فهو عقيدة وعبادة، وخلق وسلوك، ودين وسياسة، ونظام معاملة، وأصول حكم وقضاء.
3- وفي الكتاب ثروة من البيان والأدب الرفيع، صيغت بأرفع أساليب التعبير فمثلت قمة البيان البشري.
4- وفي «المنتقى» من أدب الدعوة، ومناهج التربية ما يتضمن أحسن نتاج العصر من مزايا ومحاسن، ويتنزه عما فيه من نقائص وآفات.
5- و«المنتقى» كله حافز لفعل الخير ونصرته، ووازع عن تأييد الباطل، والوقوع في الشر، ومعصية الله ورسوله.
والحق أن هذا المنتقى ـ بما أثبته مصنفه فيه وما استبعده ـ يقطع بعلو كعبه في علوم الرواية والدراية جميعاً. وهو خدمة رائعة للسنة النبوية، وعمل جليل لا يجوز أن يخلو منه بيت مسلم، ومهما قيل في وصفه فإن الإحاطة بقيمته لا تكون إلا لمن طالعه. فجزى الله أخانا الكريم الدكتور القرضاوي عن صنيعه فيه أحسن الجزاء.
(4) السنة مصدراً للمعرفة والحضارة:
هذا الكتاب ثلاثة أقسام:
القسم الأول يتناول الجانب التشريعي في السنة، وهو البحث الذي عرف في الدراسات الأصولية المعاصرة بعنوان (السنة التشريعية وغير التشريعية). وقد أقر الدكتور القرضاوي بحثه مبدأ تقسيم السنة، الذي قال به المحققون قديماً وحديثاً، فمن السنة ما هو تشريع عام، ومنها ما هو تشريع خاص، ومنها ما هو تشريع دائم للناس كافة، ومنها ما هو حكم في قضية بعينها، ومنها ما هو تشريع عارض جاء لسبب معين يبق ببقائه ويزول بزواله، وقد يعود العمل به إذا وجد السبب مرة أخرى، ومنها ما ليس بتشريع أصلاً.
وقد ناقش الدكتور القرضاوي في هذا القسم الذي زاد عدد صفحاته على تسعين صفحة معظم المسائل التي ذكرها القدماء والمحدثون في دراستهم لهذه المسألة.
ومن أهم ما بينه في هذا البحث، الانحراف الذي أصاب فهم بعض المعاصرين لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن تأبير النخل، الذي ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) فبيّن أنه يعني خروج المسائل التي تدفع إليها الحاجات الدنيوية والغرائز البشرية العادية عن مجال التشريع فلا يتدخل فيها الدين «إلا حيث يكون فيها إفراط أو تفريط أو انحراف، كما أنه يتدخل ليربط حركات الإنسان كلها ـ حتى الغريزية والعادية منها ـ بأهداف ربانية عليا، وقيم أخلاقية مثلى، ثم ليرسم آداباً إنسانية راقية في أداء هذه الأعمال». (ص 15،16). وانتقد الدكتور القرضاوي أيضاً مبالغة المعاصرين في نفي صفة التشريع عن السنة، كما انتقد بحق موقف المنكرين أن يكون في السنة شيء صدر غير مقصودٍ به التشريع.
ونهج الدكتور القرضاوي في بحثه كله منهج الوسطية الإسلامية الذي وصفه بقوله: إنه الاعتدال والتوازن، والنظر إلى المسألة «بعمق وإنصاف وتجرد، في ضوء النصوص المحكمة للقرآن والسنة، وفي ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها، وفي ظلال هدي السلف وفهمهم». ورد على الغلاة المقصرين رد الفقيه المحقق والمحدِّث المدقق، وعرض مواقف العلماء من هذه القضية قدامى ومحدثين، ونبه إلى أن أول من أوضح التفرقة بين السنة والتشريعية وغير التشريعية هو الشيخ أحمد عبد الرحيم المعروف بـ (شاه ولي الله الدهلوي) الهندي، وذلك في كتابه (حجة الله البالغة) حيث قسم السنة إلى قسمين: تشريعي وغير تشريعي، أو بتعبير الدهلوي: «ما سبيله تبليغ الرسالة، وما ليس من باب تبليغ الرسالة».
وانتهى الدكتور القرضاوي من ذلك كله، إلى صحة أصل التقسيم، وإلى أن الخلاف في التطبيقات.
ومن أهم ما بينه هذا البحث أن علماء الصحابة والتابعين لم يهملوا هذه القضية ولكنهم أولوها عنايتهم عندما ناقشوا، في مسائل لا تحصى، ما إذا كان الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها سنة أو ليس بسنة. وأن معنى ذلك أن بعض ما يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بسنة، وأن ما كان سنة فهو مطلوب الاتباع.
وأكد الدكتور القرضاوي ذلك بأمثلة عديدة من الأحاديث النبوية التي تباينت مواقف العلماء، من الصحابة فمن بعدهم، من الأخذ بها. وحذر من الإفراط والتفريط الذين يقع فيهما كثير من الناس بإثبات صفة التشريع، أو نفيها، دون تبصر في حقيقة الوارد عن النبي صلى