21- تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112 ( آية 26-50 )
وهي مكية
{ 26 - 29 ْ} { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ}
يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول، وأنهم زعموا - قبحهم الله - أن الله اتخذ ولدا فقالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم، وأخبر عن وصف الملائكة، بأنهم عبيد مربوبون مدبرون، ليس لهم من الأمر شيء، وإنما هم مكرمون عند الله، قد أكرمهم الله، وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته، وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل، وأنهم في غاية الأدب مع الله، والامتثال لأوامره.
فـ { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ْ} أي: لا يقولون قولا مما يتعلق بتدبير المملكة، حتى يقول الله، لكمال أدبهم، وعلمهم بكمال حكمته وعلمه.
{ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ْ} أي: مهما أمرهم، امتثلوا لأمره، ومهما دبرهم عليه، فعلوه، فلا يعصونه طرفة عين، ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله، ومع هذا، فالله قد أحاط بهم علمه، فعلم { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ْ} أي: أمورهم الماضية والمستقبلة، فلا خروج لهم عن علمه، كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره.
ومن جزئيات وصفهم، بأنهم لا يسبقونه بالقول، أنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ورضاه، فإذا أذن لهم، وارتضى من يشفعون فيه، شفعوا فيه، ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل، إلا ما كان خالصا لوجهه، متبعا فيه الرسول، وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة، وأن الملائكة يشفعون.
{ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ْ} أي: خائفون وجلون، قد خضعوا لجلاله، وعنت وجوههم لعزه وجماله.
فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية، ولا يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك، ذكر أيضا أنه لا حظ لهم، ولا بمجرد الدعوى، وأن من قال منهم: { إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ ْ} على سبيل الفرض والتنزل { فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ} وأي ظلم أعظم من ا
المخلوق الناقص، الفقير إلى الله من جميع الوجوه مشاركة الله في خصائص الإلهية والربوبية؟"
{ 30 ْ} { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ْ}
أي: أولم ينظر هؤلاء الذين كفروا بربهم، وجحدوا الإخلاص له في العبودية، ما يدلهم دلالة مشاهدة، على أنه الرب المحمود الكريم المعبود، فيشاهدون السماء والأرض فيجدونهما رتقا، هذه ليس فيها سحاب ولا مطر، وهذه هامدة ميتة، لا نبات فيها، ففتقناهما: السماء بالمطر، والأرض بالنبات، أليس الذي أوجد في السماء السحاب، بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه، وأودع فيه الماء الغزير، ثم ساقه إلى بلد ميت; قد اغبرت أرجاؤه، وقحط عنه ماؤه، فأمطره فيها، فاهتزت، وتحركت، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، مختلف الأنواع، متعدد المنافع، [أليس ذلك] دليلا على أنه الحق، وما سواه باطل، وأنه محيي الموتى، وأنه الرحمن الرحيم؟ ولهذا قال: { أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ْ} أي: إيمانا صحيحا، ما فيه شك ولا شرك. ثم عدد تعالى الأدلة الأفقية فقال:
{ 31 - 33 ْ} { وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ْ}
أي: ومن الأدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ورحمته، أنه لما كانت الأرض لا تستقر إلا بالجبال، أرساها بها وأوتدها، لئلا تميد بالعباد، أي: لئلا تضطرب، فلا يتمكن العباد من السكون فيها، ولا حرثها، ولا الاستقرار بها، فأرساها بالجبال، فحصل بسبب ذلك، من المصالح والمنافع، ما حصل، ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض، قد تتصل اتصالا كثيرا جدا، فلو بقيت بحالها، جبالا شامخات، وقللا باذخات، لتعطل الاتصال بين كثير من البلدان.
فمن حكمة الله ورحمته، أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبلا، أي: طرقا سهلة لا حزنة، لعلهم يهتدون إلى الوصول، إلى مطالبهم من البلدان، ولعلهم يهتدون بالاستدلال بذلك على وحدانية المنان.
{ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا ْ} للأرض التي أنتم عليها { مَحْفُوظًا ْ} من السقوط { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ْ} محفوظا أيضا من استراق الشياطين للسمع.
{ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ْ} أي: غافلون لاهون، وهذا عام في جميع آيات السماء، من علوها، وسعتها، وعظمتها، ولونها الحسن، وإتقانها العجيب، وغير ذلك من المشاهد فيها، من الكواكب الثوابت والسيارات، وشمسها، وقمرها النيرات، المتولد عنهما، الليل والنهار، وكونهما دائما في فلكهما سابحين، وكذلك النجوم، فتقوم بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد، والفصول، ويعرفون حساب عباداتهم ومعاملاتهم، ويستريحون في ليلهم، ويهدأون ويسكنون وينتشرون في نهارهم، ويسعون في معايشهم، كل هذه الأمور إذا تدبرها اللبيب، وأمعن فيها النظر، جزم حزما لا شك فيه، أن الله جعلها مؤقتة في وقت معلوم، إلى أجل محتوم، يقضي العباد منها مآربهم، وتقوم بها منافعهم، وليستمتعوا وينتفعوا، ثم بعد هذا، ستزول وتضمحل، ويفنيها الذي أوجدها، ويسكنها الذي حركها، وينتقل المكلفون إلى دار غير هذه الدار، يجدون فيها جزاء أعمالهم، كاملا موفرا ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار، وأنها منزل سفر، لا محل إقامة.
{ 34 - 35 ْ} { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّوَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ْ}
لما كان أعداء الرسول يقولون تربصوا به ريب المنون. قال الله تعالى: هذا طريق مسلوك، ومعبد منهوك، فلم نجعل لبشر { مِنْ قَبْلِكَ ْ} يا محمد { الْخُلْدِ ْ} في الدنيا، فإذا مت، فسبيل أمثالك، من الرسل والأنبياء، والأولياء، وغيرهم.
{ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ْ} أي: فهل إذا مت خلدوا بعدك، فليهنهم الخلود إذًا إن كان، وليس الأمر كذلك، بل كل من عليها فان، ولهذا قال: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ْ} وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق، وإن هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمّر سنين، ولكن الله تعالى أوجد عباده في الدنيا، وأمرهم، ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل والحياة والموت، فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عملا، ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو، { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ْ} فنج
م بأعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ْ} وهذه الآية، تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر، وأنه مخلد في الدنيا، فهو قول، لا دليل عليه، ومناقض للأدلة الشرعية.
{ 36 - 41 ْ} { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ْ}
وهذا من شدة كفرهم، فإن المشركين إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، استهزأوا به وقالوا: { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ْ} أي: هذا المحتقر بزعمهم، الذي يسب آلهتكم ويذمها، ويقع فيها، أي: فلا تبالوا به، ولا تحتفلوا به.
هذا استهزاؤهم واحتقارهم له، بما هو من كماله، فإنه الأكمل الأفضل الذي من فضائله ومكارمه، إخلاص العبادة لله، وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه، وذكر محله ومكانته، ولكن محل الازدراء والاستهزاء، هؤلاء الكفار، الذين جمعوا كل خلق ذميم، ولو لم يكن إلا كفرهم بالرب وجحدهم لرسله فصاروا بذلك، من أخس الخلق وأرذلهم، ومع هذا، فذكرهم للرحمن، الذي هو أعلى حالاتهم، كافرون بها، لأنهم لا يذكرونه ولا يؤمنون به إلا وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك، فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قال: { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ْ} وفي ذكر اسمه { الرَّحْمَنِ ْ} هنا، بيان لقباحة حالهم، وأنهم كيف قابلوا الرحمن - مسدي النعم كلها، ودافع النقم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع السوء إلا إياه - بالكفر والشرك.
{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ْ} أي: خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون، يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا، ويقولون: { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ْ} والله تعالى، يمهل ولا يهمل ويحلم، ويجعل لهم أجلا مؤقتا { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ْ} ولهذا قال: { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي ْ} أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني { فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ْ} ذلك، وكذلك الذين كفروا يقولون: { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ْ} قالوا هذا القول، اغترارا، ولما يحق عليهم العقاب، وينزل بهم العذاب.
فـ { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ْ} حالهم الشنيعة حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم، إذ قد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ْ} أي: لا ينصرهم غيرهم، فلا نصروا ولا انتصروا.
{ بَلْ تَأْتِيهِمْ ْ} النار { بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ْ} من الانزعاج والذعر والخوف العظيم.
{ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ْ} إذ هم أذل وأضعف من ذلك.
{ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ْ} أي: يمهلون، فيؤخر عنهم العذاب. فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة، لما استعجلوا بالعذاب، ولخافوه أشد الخوف، ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم، قالوا ما قالوا، ولما ذكر استهزاءهم برسوله بقولهم: { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ْ} سلاه بأن هذا دأب الأمم السالفة مع رسلهم فقال: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ْ} أي: نزل بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ْ} أي: نزل بهم العذاب، وتقطعت عنهم الأسباب، فليحذر هؤلاء، أن يصيبهم ما أصاب أولئك المكذبين.
{ 42 - 44 ْ} { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ}
يقول تعالى - ذاكرا عجز هؤلاء، الذين اتخذوا من دونه آلهة، وأنهم محتاجون مضطرون إلى ربهم الرحمن، الذي رحمته، شملت البر والفاجر، في ليلهم ونهارهم - فقال: { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ْ} أي: يحرسكم ويحفظكم { بِاللَّيْلِ ْ} إذ كنتم نائمين على فرشكم، وذهبت حواسكم { وَالنَّهَارِ ْ} وقت انتشاركم وغفلتكم { مِنَ الرَّحْمَنِ ْ} أي: بدله غيره، أي: هل يحفظكم أحد غيره؟ لا حافظ إلا هو.
{ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ْ} فلهذا أشركوا به، وإلا فلو أقبلوا على ذكر ربهم، وتلقوا نصائحه، لهدوا لرشدهم، ووفقوا في أمرهم.
{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ْ} أي: إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم، من يقدر على منعهم من ذلك السوء، والشر النازل بهم؟؟
{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ْ} أي: لا يعانون على أمورهم من جهتنا، وإذا لم يعانوا من الله، فهم مخذولون في أمورهم، لا يستطيعون جلب منفعة، ولا دفع مضرة.
والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله: { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ْ} أي: أمددناهم بالأموال والبنين، وأطلنا أعمارهم، فاشتغلوا بالتمتع بها، ولهوا بها، عما له خلقوا، وطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وعظم طغيانهم، وتغلظ كفرانهم، فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم، وعن يسارهم من الأرض، لم يجدوا إلا هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس الأشراك، ولهذا قال: { أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ْ} أي: بموت أهلها وفنائهم، شيئا فشيئا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، فلو رأوا هذه الحالة لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه.
{ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ} الذين بوسعهم، الخروج عن قدر الله؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟ فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم، أذعنوا، وذلوا، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟
{ 45 - 46 ْ} { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ * وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ْ}
أي: { قُلْ ْ} يا محمد، للناس كلهم: { إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ْ} أي: إنما أنا رسول، لا آتيكم بشيء من عندي، ولا عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول إني ملك، وإنما أنذركم بما أوحاه الله إلي، فإن استجبتم، فقد استجبتم لله، وسيثيبكم على ذلك، وإن أعرضتم وعارضتم، فليس بيدي من الأمر شيء، وإنما الأمر لله، والتقدير كله لله.
{ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ ْ} أي: الأصم لا يسمع صوتا، لأن سمعه قد فسد وتعطل، وشرط السماع مع الصوت، أن يوجد محل قابل لذلك، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والأرواح، وللفقه عن الله، ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى، كان بالنسبة للهدى والإيمان، بمنزلة الأصم، بالنسبة إلى الأصوات فهؤلاء المشركون، صم عن الهدى، فلا يستغرب عدم اهتدائهم، خصوصا في هذه الحالة، التي لم يأتهم العذاب، ولا مسهم ألمه.
فلو مسهم { نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ْ} أي: ولو جزءا يسيرا ولا يسير من عذابه، { لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ْ} أي: لم يكن قولهم إلا ال
بالويل والثبور، والندم، والاعتراف بظلمهم وكفرهم واستحقاقهم للعذاب.
{ 47 ْ} { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ}
يخبر تعالى عن حكمه العدل، وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة، وأنه يضع لهم الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر، الذي توزن بها الحسنات والسيئات، { فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ ْ} مسلمة أو كافرة { شَيْئًا ْ} بأن تنقص من حسناتها، أو يزاد في سيئاتها.
{ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ْ} التي هي أصغر الأشياء وأحقرها، من خير أو شر { أَتَيْنَا بِهَا ْ} وأحضرناها، ليجازى بها صاحبها، كقوله: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ْ}
وقالوا { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ْ}
{ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ} يعني بذلك نفسه الكريمة، فكفى به حاسبا، أي: عالما بأعمال العباد، حافظا لها، مثبتا لها في الكتاب، عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها، موصلا للعمال جزاءها.
{ 48 - 50 ْ} { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ْ}
كثيرا ما يجمع تعالى، بين هذين الكتابين الجليلين، اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما، ولا أعظم ذكرا، ولا أبرك، ولا أعظم هدى وبيانا، [وهما التوراة والقرآن] فأخبر أنه آتى موسى أصلا، وهارون تبعا { الْفُرْقَانَ ْ} وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأنها { ضِيَاءً ْ} أي: نور يهتدي به المهتدون، ويأتم به السالكون، وتعرف به الأحكام، ويميز به بين الحلال والحرام، وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية، { وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ْ} يتذكرون به، ما ينفعهم، وما يضرهم، ويتذكر به الخير والشر، وخص { المتقين ْ} بالذكر، لأنهم المنتفعون بذلك، علما وعملا.
ثم فسر المتقين فقال: { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ْ} أي: يخشونه في حال غيبتهم، وعدم مشاهدة الناس لهم، فمع المشاهدة أولى، فيتورعون عما حرم، ويقومون بما ألزم، { وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ْ} أي: خائفون وجلون، لكمال معرفتهم بربهم، فجمعوا بين الإحسان والخوف، والعطف هنا من باب عطف الصفات المتغايرات، الواردة على شيء واحد وموصوف واحد.
{ وَهَذَا ْ} أي: القرآن { ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ْ} فوصفه بوصفين جليلين، كونه ذكرا يتذكر به جميع المطالب، من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم، ومن أحكام الشرع من العبادات والمعاملات وغيرها، ومن أحكام الجزاء والجنة والنار، فيتذكر به المسائل والدلائل العقلية والنقلية، وسماه ذكرا، لأنه يذكر ما ركزه الله في العقول والفطر، من التصديق بالأخبار الصادقة، والأمر بالحسن عقلا، والنهي عن القبيح عقلا، وكونه { مباركا ْ} يقتضي كثرة خيراته ونمائها وزيادتها، ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن، فإن كل خير ونعمة، وزيادة دينية أو دنيوية، أو أخروية، فإنها بسببه، وأثر عن العمل به، فإذا كان ذكرا مباركا، وجب تلقيه بالقبول والانقياد، والتسليم، وشكر الله على هذه المنحة الجليلة، والقيام بها، واستخراج بركته، بتعلم ألفاظه ومعانيه، وأما مقابلته بضد هذه الحالة، من الإعراض عنه، والإضراب عنه، صفحا وإنكاره، وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم، ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال: { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ْ}.