35- تفسيرسورة فاطر عدد آياتها 45 ( آية 25-45 )
وهي مكية
{ 25 - 26 } { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
أي: وإن يكذبك أيها الرسول، هؤلاء المشركون، فلست أول رسول كذب، { فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } الدالات على الحق، وعلى صدقهم فيما أخبروهم به، { وَبالزُّبُرِ } أي: الكتب المكتوبة، المجموع فيها كثير من الأحكام، { وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي: المضيء في أخباره الصادقة، وأحكامه العادلة، فلم يكن تكذيبهم إياهم ناشئا عن اشتباه، أو قصور بما جاءتهم به الرسل، بل بسبب ظلمهم وعنادهم.
{ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا } بأنواع العقوبات { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } عليهم؟ كان أشد النكير وأعظم التنكيل، فإياكم وتكذيب هذا الرسول الكريم، فيصيبكم كما أصاب أولئك، من العذاب الأليم والخزي الوخيم.
{ 27 - 28 } { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }
يذكر تعالى خلقه للأشياء المتضادات، التي أصلها واحد، ومادتها واحدة، وفيها من التفاوت والفرق ما هو مشاهد معروف، ليدل العباد على كمال قدرته وبديع حكمته.
فمن ذلك: أن اللّه تعالى أنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات المختلفات، والنباتات المتنوعات، ما هو مشاهد للناظرين، والماء واحد، والأرض واحدة.
ومن ذلك: الجبال التي جعلها اللّه أوتادا للأرض، تجدها جبالا مشتبكة، بل جبلا واحدا، وفيها ألوان متعددة، فيها جدد بيض، أي: طرائق بيض، وفيها طرائق صفر وحمر، وفيها غرابيب سود، أي: شديدة السواد جدا.
ومن ذلك: الناس والدواب، والأنعام، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف والأصوات والهيئات، ما هو مرئي بالأبصار، مشهود للنظار، والكل من أصل واحد ومادة واحدة.
فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى، التي خصصت ما خصصت منها، بلونه، ووصفه، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك، وحكمته ورحمته، حيث كان ذلك الاختلاف، وذلك التفاوت، فيه من المصالح والمنافع، ومعرفة الطرق، ومعرفة الناس بعضهم بعضا، ما هو معلوم.
وذلك أيضا، دليل على سعة علم اللّه تعالى، وأنه يبعث من في القبور، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها.
ولهذا قال: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فكل من كان باللّه أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية اللّه، الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية اللّه، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } كامل العزة، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات.
{ غَفُورٌ } لذنوب التائبين.
{ 29 - 30 } { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ } أي: يتبعونه في أوامره فيمتثلونها، وفي نواهيه فيتركونها، وفي أخباره، فيصدقونها ويعتقدونها، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال، ويتلون أيضا ألفاظه، بدراسته، ومعانيه، بتتبعها واستخراجها.
ثم خص من التلاوة بعد ما عم، الصلاة التي هي عماد الدين، ونور المسلمين، وميزان الإيمان، وعلامة صدق الإسلام، والنفقة على الأقارب والمساكين واليتامى وغيرهم، من الزكاة والكفارات والنذور والصدقات. { سِرًّا وَعَلَانِيَةً } في جميع الأوقات.
{ يَرْجُونَ } [بذلك] { تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } أي: لن تكسد وتفسد، بل تجارة، هي أجل التجارات وأعلاها وأفضلها، ألا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه، وهذا فيه أنهم يخلصون بأعمالهم، وأنهم لا يرجون بها من المقاصد السيئة والنيات الفاسدة شيئا.
وذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ } أي: أجور أعمالهم، على حسب قلتها وكثرتها، وحسنها وعدمه، { وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } زيادة عن أجورهم. { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } غفر لهم السيئات، وقبل منهم القليل من الحسنات.
{ 31 - 35 } { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }
يذكر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله { هُوَ الْحَقُّ } من كثرة ما اشتمل عليه من الحق، كأن الحق منحصر فيه، فلا يكن في قلوبكم حرج منه، ولا تتبرموا منه، ولا تستهينوا به، فإذا كان هو الحق، لزم أن كل ما دل عليه من المسائل الإلهية والغيبية وغيرها، مطابق لما في الواقع، فلا يجوز أن يراد به ما يخالف ظاهره وما دل عليه.
{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب والرسل، لأنها أخبرت به، فلما وجد وظهر، ظهر به صدقها. فهي بشرت به وأخبرت، وهو صدقها، ولهذا لا يمكن أحدا أن يؤمن بالكتب السابقة، وهو كافر بالقرآن أبدا، لأن كفره به، ينقض إيمانه بها، لأن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن، ولأن أخبارها مطابقة لأخبار القرآن.
{ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } فيعطي كل أمة وكل شخص، ما هو اللائق بحاله. ومن ذلك، أن الشرائع السابقة لا تليق إلا بوقتها وزمانها، ولهذا، ما زال اللّه يرسل الرسل رسولا بعد رسول، حتى ختمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فجاء بهذا الشرع، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة، ويتكفل بما هو الخير في كل وقت.
ولهذا، لما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولا، وأحسنهم أفكارا، وأرقهم قلوبا، وأزكاهم أنفسا، اصطفاهم الله تعالى، واصطفى لهم دين الإسلام، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب، ولهذا قال: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وهم هذه الأمة. { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } بالمعاصي، [التي] هي دون الكفر. { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم. { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أي: سارع فيها واجتهد، فسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه.
فكلهم اصطفاه اللّه تعالى، لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال الإيمان، من وراثة الكتاب، لأن المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه وعمله، ودراسة ألفاظه، واستخراج معانيه.
وقوله { بِإِذْنِ اللَّهِ } راجع إلى السابق إلى الخيرات، لئلا يغتر بعمله، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق اللّه تعالى ومعونته، فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه.
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } أي: وراثة الكتاب الجليل، لمن اصطفى تعالى من عباده، هو الفضل الكبير، الذي جميع النعم بالنسبة إليه، كالعدم، فأجل النعم على الإطلاق، وأكبر الفضل، وراثة هذا الكتاب.
ثم ذكر جزاء الذين أورثهم كتابه فقال: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } أي: جنات مشتملات على الأشجار، والظل، والظليل، والحدائق الحسنة، والأنهار المتدفقة، والقصور العالية، والمنازل المزخرفة، في أبد لا يزول، وعيش لا ينفد.
والعدن "الإقامة" فجنات عدن أي: جنات إقامة، أضافها للإقامة، لأن الإقامة والخلود وصفها ووصف أهلها.
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } وهو الحلي الذي يجعل في اليدين، على ما يحبون، ويرون أنه أحسن من غيره، الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء.
{ و } يحلون فيها { لُؤْلُؤًا } ينظم في ثيابهم وأجسادهم. { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } من سندس، ومن إستبرق أخضر.
{ و } لما تم نعيمهم، وكملت لذتهم { قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } وهذا يشمل كل حزن، فلا حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم وشرابهم، ولا في لذاتهم ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم ما يرون عليه مزيدا، وهو في تزايد أبد الآباد.
{ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ } حيث غفر لنا الزلات { شَكُورٌ } حيث قبل منا الحسنات وضاعفها، وأعطانا من فضله ما لم تبلغه أعمالنا ولا أمانينا، فبمغفرته نجوا من كل مكروه ومرهوب، وبشكره وفضله حصل لهم كل مرغوب محبوب.
{ الَّذِي أَحَلَّنَا } أي: أنزلنا نزول حلول واستقرار، لا نزول معبر واعتبار. { دَارَ الْمُقَامَةِ } أي: الدار التي ت
فيها الإقامة، والدار التي يرغب في المقام فيها، لكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدوراتها، وذلك الإحلال { مِنْ فَضْلِهِ } علينا وكرمه، لا بأعمالنا، فلولا فضله، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
{ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أي: لا تعب في الأبدان ولا في القلب والقوى، ولا في كثرة التمتع، وهذا يدل على أن اللّه تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة، ويهيئ لهم من أسباب الراحة على الدوام، ما يكونون بهذه الصفة، بحيث لا يمسهم نصب ولا لغوب، ولا هم ولا حزن.
ويدل على أنهم لا ينامون في الجنة، لأن النوم فائدته زوال التعب، وحصول الراحة به، وأهل الجنة بخلاف ذلك، ولأنه موت أصغر، وأهل الجنة لا يموتون، جعلنا اللّه منهم، بمنه وكرمه.
{ 36 - 37 } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ونعيمهم، ذكر حال أهل النار وعذابهم فقال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } أي: جحدوا ما جاءتهم به رسلهم من الآيات، وأنكروا لقاء ربهم.
{ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } يعذبون فيها أشد العذاب، وأبلغ العقاب. { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ } بالموت { فَيَمُوتُوا } فيستريحوا، { وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } فشدة العذاب وعظمه، مستمر عليهم في جميع الآنات واللحظات.
{ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } أي: يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ويقولون: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } فاعترفوا بذنبهم، وعرفوا أن اللّه عدل فيهم، ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها، فيقال لهم: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا } أي: دهرا وعمرا { يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أي: يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل، متعناكم في الدنيا، وأدررنا عليكم الأرزاق، وقيضنا لكم أسباب الراحة، ومددنا لكم في العمر، وتابعنا عليكم الآيات، وأوصلنا إليكم النذر، وابتليناكم بالسراء والضراء، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا، فلم ينجع فيكم إنذار، ولم تفد فيكم موعظة، وأخرنا عنكم العقوبة، حتى إذا انقضت آجالكم، وتمت أعماركم، ورحلتم عن دار الإمكان، بأشر الحالات، ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على الأعمال، سألتم الرجعة؟ هيهات هيهات، فات وقت الإمكان، وغضب عليكم الرحيم الرحمن، واشتد عليكم عذاب النار، ونسيكم أهل الجنة، فامكثوا فيها خالدين مخلدين، وفي العذاب مهانين، ولهذا قال: { فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } ينصرهم فيخرجهم منها، أو يخفف عنهم من عذابها.
{ 38 } { إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين، وذكر أعمال الفريقين، أخبر تعالى عن سعة علمه تعالى، واطلاعه على غيب السماوات والأرض، التي غابت عن أبصار الخلق وعن علمهم، وأنه عالم بالسرائر، وما تنطوي عليه الصدور من الخير والشر والزكاء وغيره، فيعطي كلا ما يستحقه، وينزل كل أحد منزلته.
{ 39 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا }
يخبر تعالى عن كمال حكمته ورحمته بعباده، أنه قدر بقضائه السابق، أن يجعل بعضهم يخلف بعضا في الأرض، ويرسل لكل أمة من الأمم النذر، فينظر كيف يعملون، فمن كفر باللّه وبما جاءت به رسله، فإن كفره عليه، وعليه إثمه وعقوبته، ولا يحمل عنه أحد، ولا يزداد الكافر بكفره إلا مقت ربه له وبغضه إياه، وأي: عقوبة أعظم من مقت الرب الكريم؟!
{ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا } أي: يخسرون أنفسهم وأهليهم وأعمالهم ومنازلهم في الجنة، فالكافر لا يزال في زيادة من الشقاء والخسران، والخزي عند اللّه وعند خلقه والحرمان.
{ 40 } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا }
يقول تعالى مُعجِّزًا لآلهة المشركين، ومبينا نقصها، وبطلان شركهم من جميع الوجوه.
{ قُلْ } يا أيها الرسول لهم: { أَرَأَيْتُمْ } أي: أخبروني عن شركائكم { الذين تدعون من دون الله } هل هم مستحقون لل
والعبادة، فـ { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا [مِنَ الْأَرْضِ } هل خلقوا بحرا أم خلقوا جبالا أو خلقوا] حيوانا، أو خلقوا جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع الأشياء، هو اللّه تعالى، أَمْ لشركائكم شِرْكٌة { فِي السَّمَاوَاتِ } في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون: ليس لهم شركة.
فإذا لم يخلقوا شيئا، ولم يشاركوا الخالق في خلقه، فلم عبدتموهم ودعوتموهم مع إقراركم بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي على صحة عبادتهم، ودل على بطلانها.
ثم ذكر الدليل السمعي، وأنه أيضا منتف، فلهذا قال: { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا } يتكلم بما كانوا به يشركون، يأمرهم بالشرك وعبادة الأوثان. { فَهُمْ } في شركهم { عَلَى بَيِّنَةٍ } من ذلك الكتاب الذي نزل عليهم في صحة الشرك؟
ليس الأمر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن، ولا جاءهم نذير قبل رسول اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولو قدر نزول كتاب إليهم، وإرسال رسول إليهم، وزعموا أنه أمرهم بشركهم، فإنا نجزم بكذبهم، لأن اللّه قال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } فالرسل والكتب، كلها متفقة على الأمر بإخلاص الدين للّه تعالى، { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ }
فإن قيل: إذا كان الدليل العقلي، والنقلي قد دلا على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟
أجاب تعالى بقوله: { بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا } أي: ذلك الذي مشوا عليه، ليس لهم فيه حجة، فإنما ذلك توصية بعضهم لبعض به، وتزيين بعضهم لبعض، واقتداء المتأخر بالمتقدم الضال، وأمانيّ مَنَّاها الشيطان، وزين لهم [سوء] أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسر انفصالها، فحصل ما حصل من الإقامة على الكفر والشرك الباطل المضمحل.
{ 41 } { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
يخبر تعالى عن كمال قدرته، وتمام رحمته، وسعة حلمه ومغفرته، وأنه تعالى يمسك السماوات والأرض عن الزوال، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما.
ولكنه تعالى، قضى أن يكونا كما وجدا، ليحصل للخلق القرار، والنفع، والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه وقوة قدرته، ما به تمتلئ قلوبهم له إجلالا وتعظيما، ومحبة وتكريما، وليعلموا كمال حلمه ومغفرته، بإمهال المذنبين، وعدم معالجته للعاصين، مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم، ولو أذن للأرض لابتلعتهم، ولكن وسعتهم مغفرته، وحلمه، وكرمه { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
{ 42 - 43 } { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا }
أي وأقسم هؤلاء، الذين كذبوك يا رسول اللّه، قسما اجتهدوا فيه بالأيمان الغليظة. { لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ } أي: أهدى من اليهود والنصارى [أهل الكتب]، فلم يفوا بتلك الإقسامات والعهود.
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } لم يهتدوا، ولم يصيروا أهدى من إحدى الأمم، بل لم ي
وا على ضلالهم الذي كان، بل { مَا زَادَهُمْ } ذلك { إِلَّا نُفُورًا } وزيادة ضلال وبغي وعناد.
وليس إقسامهم المذكور، لقصد حسن، وطلب للحق، وإلا لوفقوا له، ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق، وعلى الحق، وبهرجة في كلامهم هذا، يريدون به المكر والخداع، وأنهم أهل الحق، الحريصون على طلبه، فيغتر به المغترون، ويمشي خلفهم المقتدون.
{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ } الذي مقصوده مقصود سيئ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل { إِلَّا بِأَهْلِهِ } فمكرهم إنما يعود عليهم، وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات وتلك الإقسامات، أنهم كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، ورد اللّه كيدهم في صدورهم.
فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة اللّه في الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فَلْيَتَرَّقب هؤلاء، ما فعل بأولئك.
{ 44 - 45 } { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا }
يحض تعالى على السير في الأرض، في القلوب والأبدان، للاعتبار، لا لمجرد النظر والغفلة، وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ممن كذبوا الرسل، وكانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وأشد قوة، وعمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء، فلما جاءهم العذاب، لم تنفعهم قوتهم، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا، ونفذت فيهم قدرة اللّه ومشيئته.
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } لكمال علمه وقدرته { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا }
ثم ذكر تعالى كمال حلمه، وشدة إمهاله وإنظاره أرباب الجرائم والذنوب، فقال: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا } من الذنوب { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي: لاستوعبت العقوبة، حتى الحيوانات غير المكلفة.
{ وَلَكِنْ } يمهلهم تعالى ولا يهملهم و { يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } فيجازيهم بحسب ما علمه منهم، من خير وشر.
تم تفسير سورة فاطر، والحمد للّه رب العالمين