موضوع: قصة شاعر يركل باباً قصة قصيرة الإثنين 30 أبريل 2012 - 0:09
هنا بالضّبط، توقّف الشاعرُ. في هذه العبارة بالذّات، اختارَ التوقّف. ولم يعدْ يفكّرُ في ليلى. تفحّصَ القصيدة بالعيْن الجوانية أولاً، ثمّ دقّقَ النّظر فيها بعيْن نفَسه ثانيةً وثالثةً، وقرّرَ أنّ القصيدةَ انتهت. هو لمْ يقرّر بالكامل. ولعلّه اضطرّ إلى ذلك بحكم العادة. وضعَ الشاعرُ القلم جانباً فوق المكتب، وأرتبَ في مكانه. وقال في سرّه إنّ جولةً في الخارج قد تفيدُ في إحداث فراغٍ حوله، بعدما ملأتْه ليلى والقصيدة لساعاتٍ. دخلَ في المعطف الأسود، وسوّى الياقتيْن، ثمّ صفّقَ الباب وراءه. نزل الشاعرُ درج السلّم، ولم يلج المصعدَ. هذا الأخير معطّلٌ. همسَ مؤكّداً، مثلما يفعلُ كلّما زايلَ الشقّة، إذا ما تعطّلَ المصعدُ، فلنْ تتعطّلَ، بالمقابل، قدماه. الآن، لزمَه أنْ يغادرَ إلى الشارع، ويتمشّى. في الشارع، يتمشّى الشاعرُ لكيْ ينسى القصيدة قليلاً، على الأرجح. هذا دأبُه متى ارتخى منْه القلم عقب حربٍ ضروسٍ مع الكلمات. فكّرَ في أنْ يتمشّى، وربّما يتبضّعَ منَ الحاجيات ما يكفيه لكي يوغلَ في عزلته بسكناه لأيّام أخر، ولقصيدةٍ جديدةٍ أيضاً. ولمَ لا؟ وهو ينزلُ درجةً إثرَ درجةٍ، وإذ مرّ جوار الشقة رقم 4، تمنّى أنْ لا تفتحَ ليلى على وقع خطواته فوق السلّم. مقتنعٌ هو منْ أنّ المرأة تفقهُ خبر خطوته حتّى وهو يضعُ القدمَ ببطءٍ وحذرٍ بالغيْن. لليلى أذنٌ لاقطةٌ كما صحنُ الباربول إذ يخطفُ الصورة والصوت السائرين في أعلى العلّيين. أثقلَ الشاعرُ الخطوة أكثر، فيما هو يعبرُ قدّام باب المرأة. رمحَ الرقمَ ببصره، وفكّرَ في أنْ يدعوها مساءاً، بينما هو يرتقي الدرج صاعداً إلى الشقّة. في الشارع، لم يتمشّ. آثرَ الشاعرُ أنْ يدلفَ إلى أوّل بار، ويجلسَ إلى أوّل مقعدٍ فارغٍ ذي قوائم ثلاث طويلة يصادفه لصق الكونطوار، ثمّ يطلب بيرة. الشاعرُ يشربُ، ويكرهُ التدخين. قلّما شاهدتُ شاعراً لا يمجُّ السيجارة مجّاً! بعد حينٍ، توالتِ القنيناتُ أمامه في الضفة المسامتة للكونطوار. هو يشربُ والبارمان يركمُ القنينات. لم يكنْ يأبهُ للكلام الضاجّ حذاءه. كان مركّزاً على مقاطع منَ القصيدة. يستعيدُها في ذهنه، ويهمسُ بها بيْن شفتيه، فيما رأسُه يتململُ مع أم كلثوم. كيف يجمعُ بيْن الإنصات للأغنية واستظهار أبيات القصيدة؟ هذا سرٌ منْ أسرار الشّاعر. تظلُّ أسرار الشّاعر في صدره، ولا يفضي بها إلى أحد. وقد يبوحُ إلى ورقه، دون غيرها. وفي الخارج، سقطت الظّلمة على الدنيا. وفقط، أضواءُ أعمدة الكهرباء والمحلات والسيارات هي التي تخفّفُ منْ كثافتها.لم يلحظ الشّاعر الظّلمة تسقطُ. منْ مقعده، وزان الكونطوار، يصعبُ عليه أنْ يرى ظلمة الشارع. لكنّه حدسَها بعقله. ونظرَ إلى ساعة المعصم، فتأيّدَ له أنّ الأمر كذلك. لا بدّ أنْ يكونَ السواد يجلّلُ الخارج، قال. كم أمضى منْ وقتٍ في البار؟ لعلّها أربع ساعات. ثمّ خمّن أنّه لا يمكن أنْ يكونَ قضى هذا القدر منَ الزّمن. والأحكمُ، أنّه أنفقَ أزيد منَ الساعتين، وأقلّ منَ الثلاث ساعاتٍ. ثمّ قال مع نفسه إنّه إذا ما استوفى ثلاث ساعات منَ القعود يكونُ أحسن. وأشارَ بحركة منْ رأسه على البارمان ببيرة. عندما بارح إلى الشارع، كان يعلمُ أنّه ولجَ البار، ولم يتناول غير مزّةٍ منْ حبّات زيتون وعدس. وعدا ذلك، فكرشُه تشكو الجوع لا تزال. ثمّ إنّه لم يتبضّع حاجياته. عرجَ على مطعم شواية دجاج، وحملَ معه دجاجة بمتمّماتها، وسار نحو العمارة بتؤدةٍ ملحوظةٍ. هل كان يخفي سكراً؟ في دافن العمارة، في دهليزها الأرضي، وقفَ قبالة المصعد، وراحَ يضغطُ على الزر. بقيتِ السبابة تضغطُ دون أنْ يصدرَ المصعدُ نأمةً. آنذاك فقط، تفطنَ إلى أنّ الجهاز معطّلٌ. كيف ينسى؟ هلْ سكرَ الشّاعر؟ وانتبهَ كذلك إلى أنّ عليه أنْ يصعدَ ما لا يقلُّ عنْ 125 درجة، وأنّ عليه أنْ يطرقَ باب ليلى عند الدرجة رقم 53، إثر خطوتيْن اثنتيْن شمالاً. وليتَ ليلى كانت تشغلُ شقّتها، بعد كلّ هذا الزّحار منْه! طرقَ الشّاعرُ الباب، وضغطَ على الجرس، لكَم مرّةٍ. ثمّ أدركَ أنّ ليلى إمّا أنّها موجودةٌ، ولا ترغبُ في أنْ تفتحَ، وإمّا أنّها غائبةٌ، والغائبُ حجّتُه معه. ومع ذلك، سألَ خاطره: أين تكونُ ذهبت ليلى؟ ولا يدري كيف قفزتِ الأغنيةُ لتحتلَّ أسَلَة لسانه، فراحَ يترنّمُ بها، فيما هو يصعدُ ما تبقّى منْ درج السلّم إلى شقّته: اللّيلُ يا ليلى يُعاتبني ويقولُ لي سلّم على ليلى الحبّ لا تحلو نسائمُه إلاّ إذا غنّى الهوى ليلى آه إلاّ إذا غنّى الهوى ليلى صار الشّاعرُ يصعدُ، ويردّدُ الأبيات هذه، بينما يمطّطُ همزة الآه، كما لو تطلع منْ أعماق بطنه. وفكّرَ في أنّه لو كان يحوزُ رقم نقّالها لهاتفَها. الملعونةُ رفضت أنْ تمدّه بالرقم. قالت إنّها مسألة مبدإٍ. وهلْ منْ مبدإٍ لها؟ اللعينةُ، تباً لها! لا تمنحُ نقّالها لعشّاقها، قرّرت. تمنحُ ساقيْها، ولا تمنحُ رقم نقّالها. لو كان، فقط، يمتلكُ الرقم اللّعين لقالَ لها إنّه يرغبُ في أنْ يسمعَها القصيدةَ. إنّه جاهزٌ اللّيلة ليفعلَ. أين تكونُ ذهبت؟ في وقتٍ فائتٍ، قرأ الشّاعرُ على ليلى ديوانَه الثاني بأتمّه. وعندما فرغَ منَ القراءة، ترجّته، وهي في قمّة النّشوة، أنْ يعيدَ قراءة قصائد بعينها، ففعلَ. وجاء حينٌ، جعلت تستفرغُه منْ كلماته العجيبة بيْن ساقيْها حتّى يصير رخواً ومهلهلاً كالعجينة. ثمّ أمست القصائدُ طقساً لازباً للاحتفاء بجسدها الماكر. وصارت شرطاً، لا مندوحة عنه، لاقتباله. تقولُ له: نظّم القصيدةَ، أكونُ لك. لنْ أكونَ منْ غيرها. ولا مساومة، ولا تنازل، تذكّره كلّما غادرَ. على أنّ الشّاعرَ كان يغشّ. في الغالب يغشّ. فكثيراً ما أعاد عليها في الفراش والمطبخ والصالون قصائدَ سابقة. يحفظُ ويستظهرُ. يعرفُ أنّها لا تحفظُ، ولا تتذكّرُ. وليلى لم تفتحْ له شقّتها اللّيلةَ. ليلُه اللّيلةَ سيكونُ بدون ليلاه. فكيف يطيبُ له اللّيلُ في غياب ملهمته، وربّةُ قصيدته؟ ليلُه سيكونُ حتماً طويلاً، طويلاً. ركنَ الدجاجة في زاوية منْ مجلى المطبخ. ثمّ استوى على الصوفا في الصالون، وما نشبَ أنْ غفا. لم ينفعْه التّفكيرُ في ليلى، فأخذه النومُ. نامَ الشّاعرُ تحت مساقط ضوء مصباح الوسط. غطسَ في نومةٍ دون أنْ يلقمَ فمَه شلواً منْ دجاجته. وفي صميم نومته، نزلَ إلى ليلى في شقّتها. وطفقَ يدقُّ، ويضغطُ بالأصبع على الجرس، ويركلُ الخشب. يا للفضيحة! يا لفضيحة شاعرِ العمارة! صرخَ الجيرانُ في وجهه، وهم يغايونَه، وهم يعنّفونَ فيه، وهم يحملونَه على الأذرع، وهم يقذفونَ به عبر السلّم إلى الأسفل. تدحرجَ جسدُ الشّاعر النحيف، وكان سيرتطمُ بالجدار، ويُشجّ رأسُه، وتُدهكَ عظامُه وتفكّك، لولا أنْ قفزَ في موضعه فوق الصوفا، فإذا به في شقّته بمنأى عنْ أذرع الجيران وسهام ألسنتهم النابية. انتصبَ الشّاعرُ واقفاً، واتجهَ نحو المطبخ. ثمّ حضّرَ الدجاجة فوق صحن خزف، وأخرجَ زجاجة نبيذ أبيض منَ الثلاجة، وعاد إلى الصالون. وعلى طاولة الخشب القصيرة، شرعَ يفتكُ باللحم. يفتكُ ويشربُ. يفتكُ ويشربُ. وبعد وقتٍ، قامَ إلى المطبخ، ورمى بالصحن في الحوض، وبما فضُلَ منَ الدجاجة في الكيس بحاوية القمامة. الآن، حقّ للشّاعر أنْ يطردَ منْ خياله تلك الأذرع التي كادت أنْ تتوزّعَه أشلاءاً وكتلاً، وحقّ لهُ أنْ يمسحَ صورةَ ليلى، ليلاه، منْ قدّام بصره، وحقّ لهُ أنْ ينامَ. وهل ينامُ الشّاعرُ؟ كيف ينامُ وقصيدته لم تجدْ سبيلَها نحو فراشٍ مثخنٍ بوحوحات مُلهمَته. وإذن، لم يؤم الشّاعرُ إلى الفراش، وإنّما عرجَ على المكتب، فرأى القلمَ وقد ارتخى مثل دودةٍ مدوّخةٍ ومنبوذةٍ بجانبِ الأوراق. ثمّ قرّرَ أنْ ينزلَ إلى الطابق الثاني، ويطرقَ الباب، ويضغطَ على الزرّ، ويركلَ الخشبَ حتّى!