في الحديث النبوي
فهرس
دفاع عن صحيح البخاري
حول حديث الذباب
حول بعض الأحاديث
حديث "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"
لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة
عذاب الميت ببكاء أهله عليه
العجلة من الشيطان
تصحيح فهم خاطئ لحديث "اللهم أعط منفقاً خلفاً"
قل خيراً أو اصمت
"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"
س: ما مدى صحة الحديث الذي يقول: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فإن بعض من يدعون نصرة المرأة يردون هذا الحديث قائلين: إنه يتنافى مع حديث: (خذوا نصف دينكم عن الحميراء) يعني عائشة؟
ج: الجهل مصيبة كبيرة، فإذا اجتمع إليه الهوى كان الطامة الكبرى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)القصص:50.
لهذا لا نعجب -وقد توافر الجهل والهوى- أن يرد الحديث الصحيح، ويصحح الحديث المردود.
فالحديث الأول حديث صحيح مروي عن أبي بكر رضي الله عنه، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي، وتلقاه علماء المسلمين في سائر الأعصار بالقبول وبنوا عليه حكمهم بأن المرأة لا تلي على الرجال ولاية عامة.
بينما الحديث الآخر: (خذوا شطر دينكم عن الحميراء) قال فيه الحافظ بن حجر: لا أعرف له إسنادا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير، ولم يذكر من خرجه، وذكر الحافظ عماد الدين بن كثير أنه سئل المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه. هذا إذا نظرنا إلى الحديث من ناحية سنده ورواته.
فإذا نظرنا إليه من ناحية متنه وموضوعه، وجدنا العقل ينكره، والواقع يرده.
( أ ) فكيف يأمرنا النبي عليه السلام أن نأخذ نصف الدين عن الحميراء -أي عائشة- وحدها؟؟ وماذا نأخذ عن بقية الصحابة وهم كثير؟ وأي نصف نأخذ؟ وأي نصف ندع؟
(ب) على أن كلمة "الحميراء" وهو تصغير تمليح لكلمة "حمراء" من كلمات التدليل والمباسطة التي يجوز أن يذكرها النبي عليه السلام في أحاديثه الخاصة لنسائه، غير أنه يبعد أن يذكرها في مقام التعليم والإرشاد العام للأمة كالمقام الذي معنا.
والواقع يدلنا أيضا أن علماء الإسلام لم يأخذوا عن عائشة نصف الدين ولا ربعه ولا عشره، لا من جهة الرواية، ولا من جهة الدراية:
فمن حيث الرواية نرى ألوفا من الصحابة -رجالا ونساء- أسهموا في تبليغ هدى رسولهم أقوالا وأفعالا وأحكاما وتقريرات، وعائشة فرد من هذا العدد الضخم مهما تكثر فلن تبلغ ما روى أبو هريرة.
ومن جهة الدراية والفقه والفتوى لا يقبل العقل ولا الواقع التاريخي أن تنفرد عائشة بشطر الدين. فأين نصيب الصحابة الكبار من أمثال أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأصحاب هذه الطبقة ثم من خلفهم من الصحابة أمثال العبادلة الأربعة: ابن عمر وابن عباس وابن عمرو وابن الزبير وغيرهم؟
إن أحاديث الفضائل يجب أن تؤخذ بحذر شديد، وقد قرر الحفاظ أن أول معنى طرقه وضاع الحديث هو فضائل الأشخاص، وبخاصة الذين كان لهم أنصار مغالون وخصوم متطرفون، وعائشة رضي الله عنها من هؤلاء.
هذا، وفي آيات الكتاب العزيز من سورة النور وفي السنن الصحيحة والحسنة في فضل عائشة ما يغنينا عن حديث يتسم بالغلو والإفراط، وينكره العقل والواقع، وقد قال ابن الجوزي في مقدمة كتابه: "الموضوعات" (ما أحسن قول القائل: كل حديث رأيته تخالفه العقول، وتناقضه الأصول، وتباينه النقول، فاعلم أنه موضوع).
إلى الفهرس
عذاب الميت ببكاء أهله عليه
س: قرأت في بعض الكتب حديثا منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) فأنكرت ذلك، لأن القاعدة التي قررها القرآن أن الإنسان لا يسأل عن ذنب غيره (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فكيف يتفق هذا مع تعذيب الميت بذنب الحي وبكائه عليه؟ فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ وإذا كان صحيحا فما معناه؟ وكيف نوفق بينه وبين ما جاء في القرآن الكريم؟
ج: أما الحديث فهو صحيح متفق على صحته بلا ريب، أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر بلفظ: أن حفصة بكت على عمر (أي حين طعن) فقال: مهلا يا ابنتي! ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
وفي رواية: لما طعن عمر أغمى عليه، فصيح عليه، فلما أفاق: قال: أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت ليعذب ببكاء الحي) ورواه الشيخان أيضا من حديث أنس. ولهما عن عمر: (الميت يعذب في قبره ما نيح عليه).
ورواه الشيخان وأحمد والترمذي عن المغيرة بلفظ: (من نيح عليه يعذب بما نيح عليه).
والمهم أن الحديث ثابت عن أكثر من صحابي بأسانيد صحيحه، ومن وجوه عديدة، حتى قال السيوطي: متواتر. فلا مجال للطعن في صحته، ولم يبق إلا البحث في معناه، والتوفيق بينه وبين الآية الكريمة. وهذا ما حاوله العلماء من قديم، وذكروا فيه عدة تأويلات، نقلها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
وأكتفي هنا بذكر أهمها وأرجحها، غير متقيد بترتيب الحافظ.
الأول: أن المراد بالعذاب هو العذاب بمعناه اللغوي وهو: مطلق الألم، لا العذاب الأخروي، فالميت يتألم بما يرى من جزع أهله، وما يسمع من بكائهم عليه، فمن المعلوم أن الميت يتألم في قبره غير معزول عن أهله وقرابته وأحوالهم. وقد روى الطبري بإسناد صحيح عن أبي هريرة: (أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم) وهو موقوف في حكم المرفوع، إذ لا مجال للرأي فيه. وله شاهد من حديث النعمان بن بشير مرفوعا. أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم.
قال الحافظ: وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة: (قلت: يا رسول الله، قد ولدته فقاتل معك يوم الربذة، ثم أصابته الحمى فمات، ونزل علي البكاء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، وإذا مات استرجع؟! فو الذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله، لا تعذبوا موتاكم!).
وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه بن أبي خيثمة، وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم، وأخرج أبو داود والترمذي طرفا منه.
قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة، فلا يعدل عنه.
الثاني: أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يعذبه أهله، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعا: (الميت يعذب ببكاء الحي: إذا قالت النائحة: وا عضداه! وا ناصراه! وا كاسياه! جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟).
ورواه ابن ماجه بلفظ: (يتصنع به، ويقال: أنت كذلك؟).
ورواه الترمذي بلفظ: (ما من ميت يموت، فتقوم نادبته فتقول، وا جبلاه! وا سنداه أو شبه ذلك من القول، إلا وكل به ملكان يلهذانه: أهكذا أنت؟).
وشاهده ما روى البخاري في "المغازي" من حديث النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي وتقول: وا جبلاه! وا كذا، وا كذا! فقال حين أفاق: (ما قلت شيئا إلا ما قيل لي: أنت كذلك؟).
الثالث: ما اختاره الإمام البخاري، وجزم به: أن المراد بالبكاء في الحديث بعضه، وهو النوح، والمراد بالميت بعض الموتى أيضا، وهو من كان النوح من سنته وطريقته، فكان أسوة سيئة لأهله، أو عرف أن لهم عادة بفعل ذلك، فأهمل نهيهم عنه.
واستدل البخاري لذلك بأدلة ذكرها في ترجمة الباب، منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) وحديث: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) وحديث: (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، وذلك لأنه أول من سن القتل).
ومقتضى هذا أن الميت إنما يعذب لتقصيره في تربية أهله، وإهماله في تأديبهم وتعليمهم، وضعف رعايته لما حمله الله من مسئولية عنهم، وهو المأمور أن يقيهم النار كما يقي نفسه. فالحقيقة أنه يعاقب بتفريطه وذنبه هو لا بذنب أهله، أي أنه لم يزر وزر غيره.
ومما يؤيد هذا التأويل أن من العرب في الجاهلية من كان يوصي أهله أن يندبوه، وينوحوا عليه بعد موته، كما قال طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي على الجيب يا ابنة معبد
أما البكاء من غير نوح فلا عقاب عليه، وقد جاء عن أبي مسعود الأنصاري، وقرظة بن كعب قالا: (رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غير نوح). أخرجه ابن شيبة، والطبراني، وصححه الحاكم.
قال الحافظ بعد نقل هذه الوجوه التي ذكرناها وغيرها:
"ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلا: من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك، عذب بصنعه. ومن كان يعرف من أهله النياحة، فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ: كيف أهمل النهي؟ ومن سلم من ذلك كله، واحتاط، فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه، وفعلوا ذلك، كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب".
وهناك وجه ذكره العلامة المناوي في "الفيض"، وهو: أن المراد بالميت في الحديث المشرف على الموت، والتعذب: أنه إذا احتضر، والناس حوله يصرخون ويتضجرون يزيد كربه، وتشتد عليه سكرات الموت، فيصير معذبا به.
قال العراقي: والأولى أن يقال: سماع صوت البكاء هو نفس العذاب، كما أننا نعذب ببكاء الأطفال. فالحديث على ظاهره بغير تخصيص، وصوبه الكراماني اهـ.
فالعذاب هنا بمعناه اللغوي كما في الوجه الأول، ولكن هنا فسر الميت بالمحتضر.
وبهذا يتضح لنا، أن الحديث لا يعارض القرآن في تقرير مبدأ المسئولية الفردية وأن لا مغمز في ثبوته وصحته، مادام له أكثر من وجه صحيح لتأويله.
قال العلامة المناوي: قال بعض الأعاظم: وبما نقرر عرف خطأ من جمد عندما سمع (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أو غلط رواة هذا الخبر، وما هو على نحوه من صحاح الأخبار التي رواها الأعلام عن الأعلام إلى الفاروق وابنه وغيرهما.
ومما لا بد من ذكره في هذا المقام: أن السيدة عائشة رضي الله عنها ظنت ما ظنه الأخ السائل حين سمعت هذا الحديث، فأنكرت على من رواه، متوهمة أنه يعارض الآية الكريمة، واتهمت من رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما بالخطأ أو النسيان، وأنه لم يسمع الحديث على وجهه، ففي رواية عند مسلم قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه). وفي رواية لها:( إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها). رواه البخاري.
وفي رواية أخرى قالت: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليزيد الكافر عذابا، ببكاء أهله عليه) وقالت: حسبكم القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرت من معارضة القرآن.
على أن الرواية الأخيرة لعائشة أثبتت فيها أن الميت يزداد عذابا ببكاء أهله، وأي فرق بين أن يزداد عذابا بفعل غيره، وأن يعذب ابتداء به؟! فلو أخذ على ظاهره أيضا لعارض القرآن.
ولهذا لم يرتض العلماء موقف عائشة -ولا عصمة لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة والنسيان، أو على أنه سمع بعضا، ولم يسمع بعضا -بعيد-، لأن الرواة لهذا المعنى كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعائشة أم المؤمنين لها مثل هذا نظائر، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد، واعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك. اهـ.
إلى الفهرس
"العجلة من الشيطان"
س: قولان نسمعهما يترددان على الألسن في كثير من المناسبات، يناقض كلاهما الآخر. القول الأول هو: العجلة من الشيطان. والثاني هو: خير البر عاجله. فهل هما حديثان نبويان أم لا؟ وإذا كانا حديثين، فكيف نوفق بينهما؟ وإن لم يكونا فأيهما الصواب، وأيهما الخطأ؟
ج: أما القول الأول فهو جزء من حديث بلفظ: (الأناة من الله تعالى، والعجلة من الشيطان).
ومدح الأناة، وذم العجلة، مما استقرت عليه فطر الناس، وأجمعوا عليه قديما وحديثا، حتى قيل في الأمثال السائرة: من تأنى نال ما تمنى.. في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة. وقال المرقش:
يا صاحبي تلوما لا تعجلا
إن النجاح رهين ألا تعجلا
وقال آخر:
قد يدرك المتأني بعض حاجة
وقد يكون من المستعجل الزلل
وقال عمرو بن العاص: لا يزال المرء يجتني من ثمرة العجلة الندامة.
وإنما كانت العجلة من الشيطان: لأنها -كما قال ابن القيم- خفة وطيش وحدة في العبد، تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور. وهي متولدة بين خلقين مذمومين: التفريط والاستعجال قبل الوقت. اهـ.
وفي الحديث: (يستجاب للعبد ما لم يستعجل).
أما القول الآخر: "خير البر عاجله" فقال "العجلوني" في "كشف الخفاء":
ليس بحديث، ولكن روي معناه عن العباس رضي الله عنه: (لا يتم المعروف إلا بتعجيله، فإنه إذا عجله هنأه) ومشاع على الألسنة واشتهر: إن الانتظار أشد من الموت!.
على أن "البر" أوسع من مجرد إسداء المعروف، فهو يشمل كل عمل صالح مما يتقرب به المرء إلى الله، أو ينفع به الناس.
والتعجيل بالخير والبر وعمل الصالحات أمر محمود، ندب إليه القرآن والسنة. ففي القرآن الكريم في معرض المدح (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون). (..ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)، (فاستبقوا الخيرات)، (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة).
فهذا القول الأخير صحيح في معناه، وليس مناقضا لحديث (العجلة من الشيطان) لأن العقل لا يحكم بوجود التناقض بين قولين أو قضيتين إلا إذا ثبت تنافيهما من كل الوجوه، وعدم التقائهما بصورة ما. أما إذا أمكن تقييد أحدهما بوضع معين أو حالة معينة. فلا تناقض إذن.
وقد نبه المحققون على أن الأناة إنما تمدح، والعجلة إنما تذم بشروط ثلاثة:
أولا: ألا يكون الأمر المراد تنفيذه طاعة ظاهرة لله، فإذا كان كذلك، فمن الخير التعجيل به استباقا للخيرات، ومسارعة فيها كما أمر الله. وقد روى سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة).
دعا أحد الصالحين غلاما له وهو في الخلاء يقضي حاجته، وأمره أن يتصدق بصدقة على فلان من الناس. فقال له: هلا صبرت حتى تخرج من الخلاء؟! فقال: حضرتني هذه النية. فأحببت التعجيل بها، ولا آمن على نفسي التغير!.
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث يا علي لا تؤخرهن: الصلاة إذا أتت. والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا).
ولهذا الحديث قصة أخرجها ابن دريد والعسكري: أن معاوية قال يوما وعنده الأحنف بن قيس: ما يعدل الأناة شيء، فقال الأحنف: إلا في ثلاث: تبادر بالعمل الصالح أجلك، وتعجل إخراج نعيك، وتنكح كفء أيمك. فقال رجل: إنا لا نفتقر في ذلك إلى الأحنف قال: لم؟ قال: لأنه عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.
وذكر الغزالي عن حاتم الأصم قال: العجلة من الشيطان إلا في خمسة، فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إطعام الطعام، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب).
وقيل لأبي العيناء: لا تعجل، فالعجلة من الشيطان! فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: (وعجلت إليك رب لترضى).
الثاني: أن يكون مع عدم التثبت والتحري والتبين. أما بعد أن يتبين ويتثبت ويقدم ما يلزم تقديمه قبل العمل من الدراسة والاستخارة والاستشارة، فلا وجه للتريث والإحجام عند ذلك، فقد تنقلب فضيلة الأناة حينئذ إلى رذيلة التواني والتباطؤ. وكل شيء زاد عن حده انعكس إلى ضده، ولهذا قيل: لا تعجل عجلة الأخرق، ولا تحجم إحجام الفرق! وقال الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
وفي القرآن الكريم: (وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين)آل عمران:159.
الثالث: ألا يخاف الإنسان فوت مطلوبه. فإذا كان هناك أمر موقوت بزمن محدود، فلا ينبغي له أن يبالغ في التأني والتثبت، حتى يمضي الزمن المقدر، وتفوته الفرصة المواتية، ثم يعض بعد ذلك بنان الندم حيث لا ينفع الندم، وفي ذلك يقول الراجز:
وانتهز الفرصة إن الفرصة
تصير -إن لم تنتهزها- غصة
وبالله التوفيق.
إلى الفهرس
تصحيح فهم خاطئ لحديث "اللهم أعط منفقاً خلفاً"
س: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من يوم طلعت شمسه إلا وملكان يناديان: اللهم أعط منفقاً خلفاً وممسكاً تلفاً). هذا، ولكننا نرى عكس الحديث في الحياة! نرى أناسا ينفقون ويتصدقون ويفعلون الخير. وهم في ضيق من العيش، ونرى غيرهم ممسكين بخلاء لا ينفقون مليما واحدا لوجه الله، وحالتهم المادية في ازدياد فهل هذا الحديث صحيح أم مكذوب؟ وإذا كان صحيحا فأين خلف المنفقين، وتلف الممسكين؟
ج: الحديث المذكور حديث صحيح، متفق عليه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
وقد ورد في معنى الحديث أحاديث أخر، كلها تؤيد هذا المعنى، منها ما رواه مسلم والترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك).
وهل هناك أصدق من كتاب الله الذي يقول في الحث على الإنفاق، والانتصار على دواعي البخل: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم)البقرة:268. ويقول تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين)سبأ:39.
قال ابن كثير في تفسيرها: أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب. كما ثبت في الحديث، ويقول الله تعالى: (أنفق أنفق عليك).
والذي أثار اللبس عند السائل إنما هو حصره للخلف والتلف في دائرة المال. والأمر أعمق من هذا وأوسع، فالخلف هو العوض الذي يكافئ به الله الغني الكريم عباده المنفقين، وهو أكرم من أن يجعله مقصورا على المال فقط، بل قد يكون صلاحا في الأهل، أو نجابة في الأولاد، أو عافية في البدن أو بركة في القليل، وقد يكون أمرا معنويا خالصا، كهداية إلى حق، وتوفيق إلى خير، وانشراح في الصدر، وسكينة في القلب، ومحبة في نفوس الخلق، وشعور بحلاوة الإيمان ورضوان الله تعالى، فضلا عما أعده الله في الآخرة لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون)السجدة:17.
إن مكافأة الله المنفقين في سبيله لأعظم من أن تقتصر على الحياة الدنيا (والآخرة خير وأبقى)الأعلى:17 وأرفع من أن تقتصر على الرزق المادي وحده، والعارفون يعلمون أن الأرزاق الروحية أنفس وأخلد من كل ما ترنو إليه الأبصار من متاع الدنيا وموازين الله ورسوله في تقدير الأشياء ليست كموازين أهل الدنيا. اقرأ هذه الآيات:
(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون)يونس:58، (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى)طه:131، (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا)الكهف:46. (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)الشورى:20 واقرأ هذه الأحاديث:
(ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)(رواه مسلم: عن عائشة)، (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها)(رواه البخاري ومسلم عن أنس).
وإذا اتضح لنا معنى ال
الملك: (اللهم أعط منفقاً خلفاً) بان لنا معنى
الآخر: (اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
فالتلف هو العقوبة التي يجازي الله بها المسكين، وهو لا ينحصر في خسارة المال أيضا، ولكنه قد يتناول البدن، أو الأهل أو الولد أو العلاقة بالناس.. الخ.
وقد يكون قلق النفس، وشك القلب، وضيق الصدر مما يفسد على المرء حياته، ويحرمه الاستمتاع بماله الوفير، ويحييه في عذاب مقيم. فضلا عما ادخره الله لمثله في الآخرة (ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق)الرعد:34 وفي بعض الأحاديث ما يفيد أن
الملكين مطابق لما جاء في القرآن من قول الله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)الليل:5،10 فالتيسير لليسرى هنا مقابل لقول الملك: أعط منفقا خلفا. والتيسير للعسرى مقابل لقول الآخر: أعط ممسكا تلفا. مما يدل على أن الأمر أوسع وأكبر من الخلف في المال والتلف فيه.
إلى الفهرس
"قل خيراً أو اصمت"
س: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل خيرا أو اصمت). فهل الكلام الكثير حرام على ضوء هذا الحديث؟
ج: جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث عديدة تحذر من آفات اللسان. منها: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)(متفق عليه عن أبي هريرة وأبي شريح).
وجاء عنه: (رحم الله امرءا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم)(رواه ابن المبارك في الزهد بإسناد حسن وروي من طرق أخرى) فالكلام الكثير يؤدي إلى أن يتورط الإنسان في أخطاء كثيرة، فاللسان له آفات، بلغها الإمام الغزالي عشرين آفة من الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والخوض في أعراض الناس، والكلام فيما لا يعنيه، والاستهزاء بالآخرين، والسخرية منهم، وغير ذلك كثير.
بل إن الشيخ عبد الغني النابلسي وصل آفات اللسان إلى اثنتين وسبعين آفة، وجاء بتفصيلات كثيرة على ذلك.
فإذا أكثر المرء من الكلام، فهو معرض لأن يخطئ، وأن يتناول الأعراض وأن ينهش لحوم الناس في غيبتهم، ولهذا كانت السلامة في الصمت… وليس معنى هذا أن يطبق الإنسان شفتيه، ولا ينبس ببنت شفة… لا… وإنما ليحرص على أن لا يتكلم إلا بالخير، وبما يرضي الله عز وجل.
ومن هنا قال الناس من قديم: إذا كان الكلام من فضة، كان السكوت من ذهب. وقال الشاعر:
احفظ لسانك أيها الإنسان
لا يلدغنك، إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه
كانت تهاب لقاءه الشجعان
حتى في الدنيا، وليس في الآخرة فقط، يجد الإنسان نتيجة أخطاء اللسان، فيؤذى ويصاب بالأضرار الجسيمة بسبب لسانه. فلتات اللسان هذه ينبغي الحذر منها. ولهذا قيل:
يموت الفتى من عثرة بلسانه
وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمى برأسه
وعثرته بالرجل تشفى على مهل
وقالوا: أنت مالك الكلمة. فإذا قلتها ملكتك. ولهذا ينبغي ألا يكون الإنسان ثرثارا…
وأكثر الناس الذين يكثرون الكلام يخطئون، ويصبحون مضغة في الأفواه، ولهذا يجب على المؤمن الذي يراقب الله ويخشاه، أن يعلم بأن كلامه من عمله، محسوب له أو عليه… فإن قلم التسجيل الإلهي، لا يعدو كلمة يتفوه بها الإنسان إلا ويدونها في كتاب.
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)ق:16،18.
فمن علم أن كلامه مثل عمله تماما، مكتوب ومحسوب ومحصى عليه، قل كلامه إلا فيما يعنيه، وهذه هي السلامة.
فقل خيرا تغنم، واسكت عن شر تسلم.
إلى الفهرس
"دفاع عن صحيح البخاري"
نشرت مجلة "العربي" في عددها 87 بتاريخ 11 شوال 1385هـ شباط 1966م كلمة السيد عبد الوارث كبير في باب "أنت تسأل ونحن نجيب" ردا على باحث عراقي مسلم لقب نفسه "جابر عثرات الكرام" دافع عن الصحابة وعن البخاري. وإن لم ينشر المحرر كلمته كلها. وجاء في هذا الرد قوله:
".. فأنا لم أتهم أبا هريرة أو البخاري أو غيرهما من الصحابة أو أصحاب "الصحاح" باختراع الأحاديث أو صنعها.. ولست أقول عن حديث ما إنه ضعيف أو مصنوع لمجرد أنه لا يتفق مع العقل والمنطق فحسب، بل لأن ذلك رأى كثير من الأئمة والفقهاء القدماء والمحدثين على السواء، أمثال الإمام ابن تيمية والقسطلاني والذهبي والبيهقي والطبراني والدارقطني والهيثمي والسيوطي والعسقلاني… وغيرهم..!!
والكلام عن الأحاديث الموضوعة مما لا تتسع له صفحات هذا الباب… لكنني مع ذلك أقبل تحديك يا جابر عثرات الكرام، وأسألك كيف يعقل أن يقول الرسول صلوات الله عليه (اختلاف أمتي رحمة) أو (اختلاف أصحابي رحمة) في بعض الروايات، بينما الله تعالى يقول في محكم كتابه (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) ويقول جل شأنه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) ويقول: (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد).
وليت شعري إذا كان جزاء "من أطعم أخاه خبزا حتى يشبعه، وسقاه ماء حتى يرويه، أبعده الله عن النار سبع خنادق، ما بين كل خندقين منها مسيرة خمسمائة عام" فما ترى يكون جزاء من يطعم كل يوم عشرة مساكين حتى يشبعوا ويسقيهم حتى يرتووا؟؟
وكيف يعقل أن يقول الرسول (إن الدنيا حرام على أهل الآخرة، وإن الآخرة حرام على أهل الدنيا) والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا) ويقول جل شأنه (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)!؟
وكيف يقول (الطاعون وخز إخوانكم الجن) وفي رواية أخرى (أعدائكم الجن)؟! وكيف يقول: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)؟ وكيف يقول: (اتخذوا الحمام المقاصيص، فإنها تلهي الجن عن صبيانكم)؟!! وكيف يقول: (عليكم بالقرع، فإنه يزيد في الدماغ… وعليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبيا)؟!! أو يقول: (زينوا موائدكم بالبقل، فإنه مطردة للشيطان)؟!!
ليس هذا فقط يا جابر عثرات الكرام! فإن في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث ما هو أدهى من ذلك وأمر، في مخالفة ما أمر الله به عباده، وأنزله في محكم كتابه.
قال تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) وهذا أمر صريح في ألا يقرب الرجل زوجته وهي في الحيض… ولكن البخاري وأصحابه -سامحهم الله وغفر لهم، ينسبون إلى السيدة عائشة في "كتاب الحيض" أنها قالت: (كان النبي يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض)! ونسبوا مثل ذلك إلى "ميمونة" إحدى زوجات الرسول.
فما الذي يفهمه الناس من هذه الأحاديث، إلا أن الرسول كان يباشر زوجته في فترات حيضهن، خلافا لما أمره الله به!!
فهل يرضيك ذلك أو يرضي أحدا من المسلمين؟! وهل يعقل أن يصدر هذا الفعل المنكر عن نبي، بل عن سيد الأنبياء؟!
ثم اسمع أيضا… يقول الله تعالى في سورتي النساء والمائدة، في حكم الطهارة من الجنابة، (.. أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) إلى آخر الآية… ويقول البخاري: إن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال له عمر: "لا تصل"!!
أما ثالثة الأثافي فهي عن زيد بن أنس، بسند صحيح على شرط "الشيخين" وصححه ابن حزم في "الإحكام" وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" قال: أمطرت السماء بردا في رمضان فقال أبو طلحة: "ناولني من هذا البرد" فجعل يأكل منه وهو صائم! فقلت: "أتأكل البرد وأنت صائم"؟ فقال: "إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا، وإنه ليس بطعام ولا بشراب.. إنما هو بركة! فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك فقال: "خذها من عمك"!!
ولو صح هذا -يا جابر عثرات الكرام- لكان أكل البرد في رمضان لا يفطر، وهذا ما لا يقول به مسلم على الإطلاق، حتى ولو ورد ألف مرة في "البخاري" و"مسلم" وكل كتاب الصحاح..!
من أجل ذلك وأمثاله نطالب بتنقية كتب التفسير والحديث من تلك الخزعبلات والمفتريات يا جابر عثرات الكرام..
أفلا تزال بعد ذلك كله مصرا على التحدي؟! إني على أي حال مستعد لالتقاط القفاز. اهـ.
نرجو بيان رأيكم في هذا الكلام من الناحية الشرعية والعلمية، وخصوصا فيما يتعلق بصحيح البخاري، والتشكيك فيه، لما له من منزلة في نفس كل مسلم.
ج: لقد فوجئت وفوجئ كل مسلم، بل كل منصف، بما نشرته مجلة "العربي" في عددها الأخير (شباط 66) عن الحديث النبوي في باب "أنت تسأل ونحن نجيب" الذي يشرف عليه السيد عبد الوارث كبير، ودهش القراء لهذه الحملة المنكرة بالعناوين البارزة وبالبنط العريض، على أعظم كتاب في الإسلام بعد القرآن "الجامع الصحيح للبخاري" الذي تلقته الأمة -منذ اثني عشر قرنا بالقبول والرضا جيلا بعد جيل، الخاصة منها والعامة حتى إن الناس إذا أرادوا أن يهونوا من خطأ وقع فيه إنسان قالوا: "إنه لم يخطئ في البخاري" ولكن المجلة -ويا للهول- نشرت عنوانا ضخما تقول فيه… "صحيح البخاري ليس كله صحيحا- وليست هذه الأحاديث مفتراة بل منكرة".
لقد قف شعر رأسي، واقشعر جلدي، حين وقعت عيني على هذه العناوين المثيرة التي تحدت بها المجلة مشاعر المسلمين، وصدمت أفكارهم بما يشبه القذائف المدمرة وما لقيت أحدا قرأ هذا الشيء أو سمع به إلا أنكره واستبشعه، وحوقل واسترجع، وعجب الناس وعجبت معهم كيف يصدر هذا المنكر من مجلة عربية في بلد عربي مسلم، تطبع بمال المسلمين، ويحررها مسلمون أيضا، كما يفهم ذلك من أسمائهم!!
والعجب أن كاتب ذلك العنوان المثير سلك للتدليل عليه منهجا غير مستقيم، منهجا لا يرضى عنه العلم، ولا يرضى عنه الخلق، ولا يرضى عنه الدين.
فقد مهد للحملة على صحيح البخاري بذكر جملة من الأحاديث الموضوعة أو التي لا أصل لها بالإجماع، مع عدم الحاجة إلى ذكر هذه الأحاديث، فقد وئدت في مهدها بفضل جهود أئمة الحديث الذين أفنوا أعمارهم في سبيل خدمة السنة النبوية، وتنقيتها من زيف المزيفين، وانتحال المبطلين، وقد قيل للإمام عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة! فقال: "تعيش لها الجهابذة" وصدق عبد الله فقد عاشوا لها، وماتت هي ولله الحمد، وحفظ الله دينه، وصدق وعده: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)الحجر:9.
ولا ريب أن حفظ الذكر "القرآن" إنما يتم بحفظ ما يبينه ويشرحه، وهي السنة التي خاطب الله صاحبها بقوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)النحل:44.
أجل. لم يكن من الجد أن يحشر الأستاذ مجموعة من الأباطيل المكشوفة مثل .."عليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبيا" ونحوه، فإن أصل الموضوع الذي جرت فيه المناقشة هو تنقية كتب التفسير والحديث مما فيها من شوائب وإسرائيليات فما لهذه الكتب ومثل "اتخذوا الحمام المقاصيص.." ..الخ؟؟
إن إيراد ذلك في مثل هذا المقام يوهم القراء أن كتب الحديث روت هذه الأباطيل أو اعتمدتها، أو سكت علماء الحديث عن بيان درجتها، وهو إيهام غير صحيح قطعا. وهو يدل على أن الغرض من وراء هذه الحملة إنما هو التشويش والتشكيك في الإسلام ومصادره وأئمته بالجد والهزل والهدم بكل معول تناله اليد.
وأغرب من ذلك أن الكاتب ذكر هذه الأحاديث الباطلة المفضوحة بلا شك، ثم قال بالحرف الواحد -ويا لهول ما قال- "ليس هذا فقط، فإن في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث ما هو أدهى من ذلك وأمر، في مخالفة أمر ما أمر الله به عباده وأنزله في محكم كتابه".
يا لله! أصحيح البخاري وكتب الحديث فيها أدهى وأمر من الأحاديث المكذوبة المفتراة التي ذكرها الكاتب!! أما والله لو صح ذلك لكان الأستاذ أعظم المكتشفين في العصر الحديث، فقد أزاح الستار عن حقائق غابت عن الأمة الإسلامية كلها اثنى عشر قرنا، حتى أتى هو آخر الزمان بما لم تستطعه الأوائل!!
ترى ما هذه الأحاديث التي رواها البخاري وهي عند الكاتب أدهى وأمر مما ذكر من الأكاذيب والأباطيل؟
لقد تمخض الجمل ولم يلد شيئا، لم يلد فأرا ولا ضفدعة. وذكر الكاتب حديثين رواهما البخاري (كما يقول) زعمهما مخالفين لكتاب الله. فلنقف قليلا لكي نناقش الكاتب في زعمه الخطير:
الحديث الأول: رواه البخاري في كتاب الحيض عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض) وقال الكاتب: ونسبوا مثل ذلك إلى "ميمونة" إحدى زوجات الرسول…
يرى الكاتب ذلك مخالفا للآية الكريمة (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن).
وكان على (علامة دهره وفريد عصره) أن يجلو لنا وجه المخالفة والتعارض بين الآية والحديث، وذلك لا يكون إلا ببيان المراد من الاعتزال المأمور به في الآية، والمباشرة المروية في الحديث، ليبين للقارئ أهما متعارضان حقا أم لا؟
فالذي يبدو أنه إما فسر المباشرة بأنها الجماع، فقد تطلق على ذلك كما في قوله تعالى: (فالآن باشروهن)البقرة:187. وإما أنه فسر اعتزال المرأة في الحيض بأنه اعتزال فراشها وتحريم جميع بدنها على الزوج!!
وكلا التفسيرين خطأ.
أما تفسير المباشرة بالجماع، فيرده لفظ الحديث نفسه، إذ تقول عائشة (يأمرني فأتزر فيباشرني) والاتزار: شد الإزار على الوسط وأمرها بذلك يبين المراد من المباشرة.
يؤيد ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة نفسها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع معي وأنا حائض، وبيني وبينه ثوب) ومثله عن ميمونة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض).
ولو تواضع الأستاذ قليلا، ورجع إلى مصدر قريب في اللغة أو التفسير، أو غريب الحديث، أو شروحه، لاتضح له معنى المباشرة الذي أزعجه، وأقض مضجعه، قال في القاموس: باشر المرأة… جامعها أو صارا في ثوب واحد، فباشرت بشرته بشرتها "وإذا كان الكاتب لا يعرف طريقة الكشف عن الألفاظ في القاموس واللسان ونحوهما ولا يصبر عليها، فيستطيع أن يتناول أحدث معجم أخرجه المجمع اللغوي في القاهرة ليجد هذا "المعجم الوسيط" يقول: (باشر زوجه مباشرة وبشارا، لامست بشرته بشرتها… وغشيها).
وقد وردت المباشرة في القرآن بمعنى الجماع، وبمعنى القبلة والملامسة، وذلك في آية واحدة، والقرينة والسياق مع السنة النبوية هي التي تحدد المراد.
قال تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا..) إلى أن قال: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد).
فالمباشرة المنهي عنها حالة الاعتكاف في المساجد هي القبلة والملامسة ونحوهما فهي التي يمكن أن تقع مع الاعتكاف في المساجد.
والمباشرة المأمور بها ليلة الصيام هي الجماع بدلالة السياق: (وابتغوا ما كتب الله لكم) قال القرطبي وغيره في قوله تعالى: (فالآن باشروهن) المباشرة كناية عن الجماع وسمى الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه.
ومن هنا نعلم أن إطلاق المباشرة على الجماع ليس إطلاقا حقيقيا بل مجازيا، والمجاز لا ينفي الحقيقة ولا يعارضها، بل الحقيقة هي الأصل حتى يقوم دليل على خلافها.
وإذن يكون فهم المباشرة في حديث عائشة: بأنها "الجماع" فهما خاطئا بلا جدال. وإذا لم يكن الكاتب قد فهم المباشرة هذا الفهم الخاطئ، فلا بد أن يكون قد أتى من قبل فهمه للاعتزال في آية (فاعتزلوا النساء في المحيض).
وعيب هذا الكاتب أن يتعجل لغرض في نفسه في فهم النصوص باتباع الخرص والظن ثم يبني على فهمه نتائج يريد إلزام الناس بها، وإطراح دينهم وسنة نبيهم من أجلها.
وكان لزاما عليه ليعرف المراد من هذه الآية الكريمة أن يتبين ويتثبت ويرجع إلى مصادر العلم، ويسأل أهل الذكر، ولا يتسرع في القول بالرأي والهوى، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم)؟!
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار) (رواه الترمذي والنسائي وأبو داود).
فإن من الآيات ما بينت السنة المراد منه، ومنها ما يظهر معناه بالقرائن والملابسات وأسباب النزول، وكان الصحابة أعلم الناس بذلك، وعنهم أخذ تلامذتهم من علماء التابعين، فلا جرم أن الرجوع إلى علم هؤلاء والاستفادة منه واجب حتما.
أما ا
المعرفة، وإهمال هذه الثروة، والتهجم على القرآن، والقول على الله بغير بينة، فهو خطأ في المنهج لا يقره العلم ولا الدين. وفي الحديث: (من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ).
قال ابن كثير: لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، فلن يكون أخف جرما ممن أخطأ (مقدمة تفسير ابن كثير).
وألزم ما يكون هذا الرجوع إلى المصادر حين يقف الإنسان موقف المستدرك على أئمة الإسلام، المخطئ لمثل البخاري في أعظم كتاب في الإسلام بعد القرآن، المتهم للأمة في سائر الأعصار بالجهل والبلادة والغفلة، بتصحيحها ما ليس بصحيح، وتقديمها ما لا يستحق التقديم.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين للقرآن بقوله وعمله وتقريره، فإذا قال الله تعالى: (يسألونك عن المحيض قل: هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) فقد يحتمل مورد الاعتزال في الآية عدة أفهام … قد يفهم منه اعتزال فراش المرأة مطلقا، وترك مساكنتها كما كان اليهود يفعلون، وقد يفهم منه اعتزال جميع بدنها فلا يباشره الرجل بشيء من بدنه بغير حائل، وإن لم يعتزل فراشها، وقد يفهم منه اعتزال الفرج الذي هو موضع "الأذى" الذي علل به الأمر بالاعتزال، وقد يفهم منه اعتزال جزء معين من البدن -ما بين السرة والركبة مثلا- فالذي يحدد المراد من ذلك هو السنة القولية والعملية (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).
ونحمد الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل شيئا ليخفيه عن الناس، بل كانت حياته الخاصة والعامة ملك الأمة جميعا، وما فعله في ليله ونهاره، في خلوته أو جلوته، فقد نقله نساؤه صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من بعده، لأنه تشريع لهم، ولهم فيه أسوة حسنة.
ومن ذلك علاقته بهن في فترة الحيض، فهي التي تفسر الآية كما يفسرها ما ورد عنه من أقوال في ذلك.
وجاءت أحاديث عائشة وميمونة وغيرهما من أمهات المؤمنين مبينة لما أراد الله باعتزال النساء في المحيض، فليس هو اعتزال اليهود الذي كانوا يهجرون نساءهم في الحيض ولا يساكنونهن في البيوت، وقد تأثر بهم الأنصار بحكم المجاورة سنين طوالا، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما يحل وما يحرم في هذا الأمر، فنزلت الآية وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله.
وكانت أمهات المؤمنين حريصات على تبليغ المسلمين هدى رسولهم في كل أحواله وعلاقاته وتصحيح كل خطأ أو غلو يخرج عن سنة الرسول ويعلمن به.
روي عن بدرة مولاة ابن عباس قالت: (بعثتني ميمونة بنت الحارث، وحفصة بنت عمر -وهما من أمهات المؤمنين- إلى امرأة ابن عباس رضي الله عنهم وكانت بينهما قرابة من جهة النساء، فوجدت فراشه معتزلا فراشها، فظننت أن ذلك عن الهجران فسألتها، فقالت: إذا طمثت "حضت" اعتزل فراشي، فرجعت فأخبرتها بذلك فردتني إلى ابن عباس وقالت: (تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه، وإنها حائض وما بينها وبينه إلا ثوب ما يجاوز الركبتين) (أحكام القرآن لابن العربي جـ1، ص163).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر نساءه بالاتزار أثناء الطمث، فإنه لم يلزم أصحابه بذلك، وصح أنه أباح الاستمتاع بالبدن كله ما عدا موضع الأذى "الفرج" فدل على أن الأمر بالاتزار للاستحباب، لأخذ الحذر والاحتياط.
ففي صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن (أي ساكنوهن) في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي فأنزل الله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) إلى آخر الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح). فبلغ ذلك اليهود فقالوا… ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن الحضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا… أفلا نجامعهن؟ (أي مخالفة لليهود) فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم… وقال القرطبي… قال علماؤنا: "كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعوهن في الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين" (تفسير القرطبي جـ3، ص81).
وبهذا التفسير النبوي للآية، والتطبيق العملي لها، تأكدت وسطية الإسلام واعتداله وسماحته بين المغالين والمفرطين، وبين المقصرين والمفرطين من أصحاب الملل والنحل، فهل يجوز لمسلم أو منصف بعد ذلك أن يزعم التعارض بين الآية الكريمة وبين حديث البخاري عن عائشة وميمونة رضي الله عنهما، وينسب إلى الجامع الصحيح اشتماله على أحاديث مناقضة لما أنزل الله في محكم كتابه. ويحكم على هذا الحديث المتفق على صحته بأنه منكر ومفترى.
يا عجبا. كأن الكاتب الذي تربع على منصة الإفتاء ظلما وزورا يظن أن البخاري وغيره من أئمة السنة كانوا متسولين يأخذون الحديث عن كل من هب ودب، فكل من قال لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم… قالوا له: صدقت، هات ما عندك وفرحوا به، كما يفرح الصبي بقطعة الحلوى!!
لا يا مفتي "العربي" لقد كانوا لا يقبلون قولا حتى يعلموا أصله ومصدره، ولهذا اشترطوا الإسناد الذي تفردت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم.
قال ابن سيرين: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم". وقال غيره: طالب علم بلا إسناد كحاطب بليل. ونظر الشافعي في تفسير اشتمل على قصص وعبر، فقال: يا له من علم لو كان له إسناد!!
ولم يكونوا يقبلون أي إسناد يذكر، بل يضعون كل راو من رواة السند على مشرحة التحليل، يسألون عنه… عن عقله ودينه… وخلقه وسيرته، وعن شيوخه وتلامذته، فمن اشتبهوا فيه أسقطوه، وردوا حديثه، ومن قامت الدلائل على صدقه وحفظه وعدالته وضبطه رووا عنه وقبلوه، وقد كان من ثمرات هذه البحوث المتشعبة المستفيضة علمان جليلان من علوم السنة هما… علم رجال الحديث وعلم الجرح والتعديل.
وكانوا يجوبون الآفاق، ويذرعون الأرض، طلبا للحديث ممن سمعه بأذنيه، قال سعيد بن المسيب: (إنا كنا نسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد).
وسأل رجل الشعبي عن مسألة فأفتاه فيها ثم قال: (خذها بغير شيء وإن كنا نسير فيما دونها من الكوفة إلى المدينة).
ولنأخذ لذلك مثلا… حديث عائشة الذي رده الصحفي المفتي، وزعم أنه منكر ومفترى (ونعوذ بالله من ذلك) إن سند هذا الحديث -عند من له أدنى ذوق بهذا العلم- نير كضوء الشمس. فقد رواه البخاري عن شيخه قبيصة بن عقبة، قال حدثنا سفيان، عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ورجال هذا السند كلهم كوفيون، تلقى بعضهم عن بعض، خلفا عن سلف فهم تلاميذ المدرسة الكوفية التي أسسها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وخرجت أساطين العلم، وأعلام الهدى في الحديث والفقه، وفي العلم والسلوك، أمثال الأسود وعلقمة وإبراهيم وحماد بن سليمان وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان وغيرهم من عظماء الإسلام.
ورواة هذا الحديث الشريف… سفيان الثوري ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي والأسود النخعي، كل واحد منهم جبل من جبال العلم، وبحر من بحور الرواية وإمام من أئمة الدين، لا ترقى ذرة من شك إلى أمانتهم أو علمهم… أو وعيهم، حتى يأتي مفتي "العربي" في آخر الزمان فيتهمهم بخيانة الأمة وتضليل أجيالها وتحريف دينها، والكذب على رسولها باختراع الأحاديث المفتراة المنكرة (سبحانك هذا بهتان عظيم).
ومع هذا لم يرو البخاري هذا الحديث بهذا السند وحده، وعن هذا الطريق فحسب -وإن فيه لغناء وكفاية- بل روى معناه عن عائشة بأكثر من طريق.
ولم يرو ذلك عن عائشة وحدها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل روى البخاري ذلك عن ميمونة أيضا، وليس البخاري وحده هو الذي روى حديثي عائشة وميمونة رضي الله عنهما، بل خرجتهما جميع كتب السنة ودواوينها المتقدمة منها والمتأخرة لإجماع أهل العلم على صحتهما وتلقيهما بالقبول.
ولعمري لئن كان مثل حديث عائشة -بسنده الذي ذكرناه- منكرا ومفترى كما يزعم هذا الزاعم الجريء، لكان هذا الدين باطلا، وكانت السنة كلها وهما، وكان تاريخ هذه الأمة زورا، وكان تراث هذه الأمة خرافة كبيرة، وكان أئمة هذا الدين وهذه الأمة أكبر دجاجلة عرفهم تاريخ الأديان والشعوب.
ولقد زعم الكاتب في مستهل كلامه أنه لا يتهم أبا هريرة ولا البخاري بصنع الأحاديث. والحق أنه لم يتهمهما وحدهما، بل اتهم معهما سائر علماء الإسلام وحملة رسالته، في القرون الأولى التي هي خير القرون، واتهم الأمة كلها بالغباوة والغفلة والجهل، حيث تقبلت هذه الأحاديث بضعة عشر قرنا بقبول حسن. وأثنت على رواتها، وخلعت عليهم وصف الإمامة في الدين، حتى جاء الكاتب النحرير، فوصفهم بما يستحي من ذكره.
لقد سئل القاضي أبو يوسف: أتقبل شهادة رجل يسب السلف الصالح؟ فقال: لو عرفت رجلا يسب جيرانه ما قبلت شهادته، فكيف بمن يسب أفاضل الأمة؟
أقول: فكي