منتدى شنواى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةمجلة شنواىأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 عصمة يوسف (عليه السلام ) وقول الله (... وهمّ بها )

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
السيد الديب
عضو ذهبى
عضو ذهبى
avatar


عدد المساهمات : 245
نقاط : 741
تاريخ التسجيل : 18/12/2009

عصمة يوسف (عليه السلام ) وقول الله (... وهمّ بها ) Empty
مُساهمةموضوع: عصمة يوسف (عليه السلام ) وقول الله (... وهمّ بها )   عصمة يوسف (عليه السلام ) وقول الله (... وهمّ بها ) Emptyالإثنين 28 ديسمبر 2009 - 18:29

سورة يوسف من الآيات، لاَجلى دليل على أنّه الاِنسان المثالي الذي لا يعدّ له مثال، كيف؟ وقد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته وصباه، وعلّمه من تأويل الاَحاديث، وأتمّ نعمته عليه، وقد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص، ففيها براهين واضحة على طهارته ونزاهته وعصمته من الذنوب، وصيانته من المعاصي، وتفانيه في مرضاة الله ، كيف؟ وقد ابتلاه الله سبحانه بلاءً حسناً، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات والمحرمات، وناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلاّ من عصمه الله سبحانه، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه، وتجلّت به حقيقته، وبان أنّه الاِنسان الذي حاق به الخوف من الله سبحانه، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين ولا يبدل رضاه بشيء.

كيف؟ ومن طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة وخدعة امرأة العزيز لم تكن إلاّ أمراً خارقاً للعادة، ولولا عصمته لما كانت النجاة ممكنة، بل كانت أمراً أشبه بالروَيا منه باليقظة.

الهم :

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي:

فقد كان يوسف رجلاً، ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء، وكان شاباً بالغاً أشده، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الاَلباب، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى؟ هذا من جانب، ومن جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة وهنىء العيش، محبوراً بمثوى كريم، وذلك من أقوى أسباب التهوّس، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء، وكانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب، وهي عزيزة مصر ـ ومع ذلك ـ عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الاِكرام والاِحسان والاِنعام ليوسف وذلك كلّه مما يقطع اللسان ويصمت الاِنسان وقد تعرّضت له، ودعته إلى نفسها، والصبر مع التعرّض أصعب، وقد راودته هذه الفتّانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال، وقد ألّـحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه، والصبر معه أصعب وأشق، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها، وهي رتبة خصّها بها العزيز ، وكان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنىء.

وكانا في خلوة، وقد غلّقت الاَبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع، وكان في أمن من ظهور الاَمر وانتهاك الستر ، لاَنّـهـا كانت عزيزة، بيدها أسباب الستر والتعمية، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنيء طويل، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزّة والمال.

فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدّته، أو أقبلت على صخرة صمّـاء لاَذابتها، ولم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلاّ الخوف من ظهورالاَمر، أو مناعة نسب يوسف، أو قبح الخيانة للعزيز، ولكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل.

أمّا الخوف من ظهور الاَمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً، فلم يوَاخذها بشيء، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن.

وأمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّـا هو أعظم من الزنا وأشد اثماً، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ويبيعوه من السيّارة بيع العبيد، ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي، فبكى حتى ابيضّت عيناه.

وأمّا قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية، والقوانين الاجتماعية إنّما توَثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك إنّما يتم فيما إذا كان الاِنسان تحت سلطة القوّة المجرية والحكومة العادلة وأمّا لو أغفلت القوّة المجرية، أو فسقت فأهملت، أو خفي الجرم عن نظرها، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين.

فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الاَسباب القوية التي كانت لها عليه، إلاّ أصل التوحيد وهو الاِيمان بالله .

وإن شئت قلت: المحبة الاِلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع أصبع.

غير انّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقف على البحث عن أُمور :

1- ما هو معنى "الهم" في قوله: (ولقد همّت به وهمّ بها ).

2- ما هو جواب (لولا أن رأي برهان ربّه) وهذا هو العمدة في تفسير الآية.

3- ما هو معنى البرهان؟

4- دلالة الآية على عصمة يوسف، وإليك تفسيرها واحداً تلو الآخر.

1- ما معنى الهم؟

لقد فسّـره ابن منظور في لسانه بقوله: همّ بالشىء يهم همّاً: نواه وأراده وعزم عليه، قال سبحانه: (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا )

روى أهل السير : أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العودة من تبوك، ولاَجل ذلك وقفوا على طريقه، فلمّا قربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بتنحيتهم، وسمّـاهم رجلاً رجلاً.

فإن قيل: فما تأويل قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز (ولقد همت به وهم بها لولا أن رآى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) (1).

(الجواب): إن الهم في اللغة ينقسم إلى وجوه: منها العزم على الفعل كقوله تعالى: (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) (2) أي أرادوا ذلك وعزموا عليه.

قال الشاعر:

تركت على عثمان تبكي حلائله هممت ولم أفعل وكدت وليتني

ومثله قول الخنساء:

وإن كل هم همه فهو فاعله وفضل مرداسا على الناس حلمه

ومثله قول حاتم الطائي:

ويمضي على الأيام والدهر مقدما ولله صلعوك يساور همه

ومن وجوه الهم، خطور الشئ بالبال وإن لم يقع العزم عليه. قال الله تعالى: (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) (3) وإنما أراد تعالى أن الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم في هذا المكان عزما، لما كان الله تعالى ولا هما لأنه تعالى يقول: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (4)

وإرادة المعصية، والعزم عليها معصية. وقد تجاوز ذلك قوم حتى قالوا إن العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الصغيرة صغيرة وعلى الكفر كفر. ولا يجوز أن يكون الله تعالى ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وآله وإسلامه إلى السوء، ومما يشهد أيضا بذلك قول كعب بن زهير:

ومن فاعل للخير إن هم أو عزم فكم فيهم من سيد متوسع

ففرق كما ترى بين الهم والعزم. وظاهر التفرقة قد يقتضي اختلاف المعنى.

ومن وجوه الهم أن يستعمل بمعنى المقاربة، فيقولون هم بكذا وكذا أي كاد أن يفعله. قال ذو الرمة:

وقد هم دمعي أن يلج أوائله أقول لمسعود بجرعاء مالك

والدمع لا يجوز عليه العزم، وإنما أراد أنه كاد وقرب.

وقال أبو الأسود الدؤلي:

لتفعل خيرا تقتفيها شمالكا وكنت متى تهمم يمينك مرة

وعلى هذا خرج قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض أي يكاد.

قال الحارثي:

ويرغب عن دماء بني عقيل يريد الرمح صدر أبي براء

وجوه الهم:

1- ومن وجوه الهم الشهوة وميل الطباع، لأن الانسان قد يقول فيما يشتهيه ويميل طبعه إليه: ليس هذا من همي وهذا أهم الأشياء إلي. والتجوز باستعمال الهمة مكان الشهوة ظاهر في اللغة. وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري قال: أما همها فكان أخبث الهم، وأما همه (عليه السلام) فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء.

فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة على ما ذكرناه نفينا عن نبي الله ما لا يليق به وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله.

2- فإن قيل: فهل يسوغ حمل الهم في الآية على العزم والإرادة؟ ويكون مع ذلك لها وجه صحيح يليق بالنبي (عليه السلام)؟.

قلنا: نعم، متى حملنا الهم ههنا على العزم، جاز أن نعلقه بغير القبيح ويجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه، كما يقول القائل: قد كنت هممت بفلان أي بأن أوقع به ضربا أو مكروها.

تنزيه يوسف عن العزم على المعصية:

فإن قيل: فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى: (لولا أن رأى برهان ربه) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟.

قلنا: يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها، أراه الله تعالى برهانا على أنه إن أقدم على من هم به أهلكه أهلها وقتلوه، أو أنها تدعي عليه المراودة على القبيح، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه، أو ظن القبيح به أو اعتقاده فيه.

ما هو جواب لولا ؟ لولا نوعان : الاولى أبتدائية . الثانية :شرطية .

لا شك أنّ "لولا" في قوله سبحانه: (لولا أنْ رأي بُرهَانَ رَبّه )ابتدائية. فلا تدخل إلاّ على المبتدأ مثل "لوما" قال ابن مالك.

لولا ولوما يلزمان الابتداء * إذ امتناعاً بوجــود عقدا

ومما لا شك فيه أنّ "لولا" الابتدائية تحتاج إلى جواب، ويكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل:

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية * لولا رجاوَك قد قتلت أولادي

وقد تواترت الروايات عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة: "لولا على لهلك عمر" .

وربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق، كقوله سبحانه: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) ، أي ولولا فضل الله ورحمته عليكم لهلكتم، وربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله: "قد كنت هلكت لولا أن تداركتك" ،وقوله: "وقتلت لولا أنّي قد خلصتك"، والمعنى لولا تداركي لهلكت، ولولا تخليصي لقُتلت ومثل لولا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر:

فلا يدعني قومي صريعاً لحـرة * لئن كنت مقتولاً ويسلم عامـر وقال الآخر:

فلا يدعني قومي ليـوم كريهــة * لئن لم أعجل طعنة أو أعجــل فحذف جواب الشرط في البيتين لاَجل الجملة المتقدمة.

وبالجملة: لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة، وجواب "لولا" خاصة، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه المقام مـن قبيل الثاني، فقوله سبحانه: (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربّه) يوَوّل إلى جملتين: إحداهما مطلقة، والا َُخرى مشروطة.

أمّا المطلقة فهي قوله: (ولقد همّت به )، وهو يدل على تحقّق "الهم" من عزيزة مصر بلا تردد, أمّا المقيدة فهي قوله: (وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربّه) وتقديره: "لولا أن رأي برهان ربّه لهمّ بها" فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأي برهان ربّه، وأمّا الجملة المتقدمة على "لولا" أعني قوله (وهم بها )فلا تدل على تحقق الهم، لاَنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها، حتى تدل على تحقق الهمّ، وانّما هي قائمة مكان الجواب، فتكون مشروطة معلّقة مثله، فإن قيل: هذا الجواب يقضي لفظة (لولا) يتقدمها في ترتيب الكلام، ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بضربها، وتقدم جواب (لولا) قبيح، أو يقتضي أن يكون (لولا) بغير جواب.

قلنا: أما جواب (لولا) فجائز مستعمل، لأن العزم على الضرب والهم به قد وقع، إلا أنه انصرف عنه بالبرهان الذي رآه، ويكون تقدير الكلام وتلخيصه: " ولقد همت به وهم بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك ". فالجواب المتعلق بلولا محذوف في الكلام كما يحذف الجواب في قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم)، معناها: ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأن الله رؤوف رحيم لهلكتم، ومثله (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم) (5) معناها لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا ولم تحرصوا على حطامها.

وقال امرؤ القيس:

ولكنها نفس تساقط أنفسا فلو أنها نفس تموت سوية

أراد فلو أنها نفس تموت سوية لتقضت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا على أن الكلام يقتضيه ويتعلق به.

على أن من حمل هذه الآية على الوجه الذي لا يليق بنبي الله، وأضاف العزم على المعصية إليه، لا بد له من تقدير جواب محذوف.

ويكون التقدير على تأويله: ولقد همت بالزنى وهم بمثله، لولا أن رأى برهان ربه لفعله.

فإن قيل: متى علقتم العزم في الآية والهم بالضرب أو الدفع كان ذلك مخالفا للظاهر.

قلنا: ليس الأمر على ما ظنه هذا السائل، لأن الهم في هذه الآية متعلق بما لا يصح أن يتعلق به العزم والإرادة على الحقيقة، لأنه تعالى قال:

(ولقد همت به وهم بها) فتعلق الهم في ظاهر الكلام بذواتهما والذات الموجودة الباقية لا يصح أن تراد ويعزم عليها، فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به مما يرجع إليهما ويختصان به ورجوع الضرب والدفع إليهما كرجوع ركوب الفاحشة فلا ظاهر للكلام يقتضي خلاف ما ذكرناه، ألا ترى أن القائل إذا قال: قد هممت بفلان فظاهر الكلام يقتضي تعلق عزمه وهمه إلى أمر يرجع إلى فلان، وليس بعض الأفعال بذلك أولى من بعض، فقد يجوز أن يريد أنه هم بقصده أو بإكرامه أو بإهانته أو غير ذلك من ضروب الأفعال، على أنه لو كان للكلام ظاهر يقتضي خلاف ما ذكرناه، وإن كنا قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك لجاز أن نعدل عنه ونحمله على خلاف الظاهر، للدليل العقلي الدال على تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن القبائح.

فإن قيل: الكلام في قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها) خرج مخرجا واحدا. فلم جعلتم همها به متعلقا بالقبح؟ وهمه بها متعلقا بالضرب والدفع على ما ذكرتم؟

قلنا: أما الظاهر، فلا يدل الأمر الذي تعلق به الهم والعزم منهما جميعا وإنما أثبتنا همها به متعلقا بالقبيح لشهادة الكتاب، والآثار بذلك.

وهى ممن يجوز عليها فعل القبيح، ولم يؤمن دليل ذلك من جوازه عليها كما أمن ذلك فيه (عليه السلام)، والموضع إلى يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى:(وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين) (6) وقوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) وقوله تعالى حاكياً عنها (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وفي موضع آخر: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم). (7)

والآثار واردة بإطباق مفسري القرآن ومتأوليه، على أنها همت بالمعصية والفاحشة، وأما هو عليه السلام فقد تقدم من الأدلة العقلية ما يدل على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح ولا يعزم عليه. فأما ما يدل من القرآن على أنه عليه السلام ما هم بالفاحشة ولا عزم عليها فمواضع كثيرة منها قوله تعالى:(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) (8) وقوله تعالى (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) (9) ولو كان الأمر كما قال الجهال من جلوسه منها مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل وحوشي من ذلك، لم يكن السوء والفحشاء منصرفين عنه، ولكان خائنا بالغيب، وقوله تعالى حاكيا عنها:

(ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) (10) وفي موضع آخر: (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وقول العزيز لما رأى القميص قد من دبر (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) (11) فنسب الكيد إلى المرأة دونه، وقوله تعالى حاكيا عن زوجها لما وقف على أن الذنب منها وبراءة يوسف (عليه السلام) منه: (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) (12) وعلى مذهبهم الفاسد أن كل واحد منهما مخطئ فيجب أن يستغفر فلم اختصت بالاستغفار دونه، وقوله تعالى حاكيا عنه: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهليين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) (13) فالاستجابة تؤذن ببراءته من كل سوء، وتنبئ أنه لو فعل ما ذكروه لكان قد يصرف عنه كيدهن. وقوله تعالى: (قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) (14) والعزم على المعصية من أكبر السوء، وقوله تعالى حاكيا عن الملك: (ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) (15) ولا يقال ذلك فيمن فعل ما أدعوه عليه. فإن قيل: فأي معنى لقول يوسف: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربى غفور رحيم) (16).

قلنا: إنما أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية وهو لا يبرئ نفسه مما لا تعرى منه طباع البشر. وفي ذلك جواب آخر اعتمده أبو علي الجبائي واختاره، وإن كان قد سبق إليه جماعة من أهل التأويل وذكروه، وهو أن هذا الكلام الذي هو " وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء " إنما هو من كلام المرأة لا من كلام يوسف عليه السلام.

واستشهدوا على صحة هذا التأويل بأنه منسوق على الكلام المحكي عن المرأة بلا شك. ألا ترى أنه تعالى قال: (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق (17) أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) (18) فنسق الكلام على كلام المرأة وعلى هذا التأويل يكون التبرؤ من الخيانة الذي هو ذلك " ليعلم إني لم أخنه بالغيب " من كلام المرأة لا من كلام يوسف (عليه السلام) ويكون المكنى عنه في قولها (إني لم أخنه بالغيب) هو يوسف (عليه السلام) دون زوجها، لأن زوجها قد خانته في الحقيقة بالغيب، وإنما أرادت أني لم أخن يوسف (عليه السلام) وهو غائب في السجن، ولم أقل فيه لما سئلت عنه وعن قصتي معه إلا الحق، ومن جعل ذلك من كلام يوسف (عليه السلام) جعله محمولاً على إني لم أخن العزيز في زوجته بالغيب، وهذا الجواب كأنه أشبه بالظاهر، لأن الكلام معه لا ينقطع عن اتساقه وانتظامه.

فإن قيل: فأي معنى لسجنه إذا كان عند القوم متبرئا من المعصية متنزها عن الخيانة قلنا: قد قيل إن العلة في ذلك الستر على المرأة والتمويه والكتمان لأمرها حتى لا تفتضح وينكشف أمرها لكل أحد، والذي يشهد بذلك قوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)

وجواب آخر: في الآية على أن الهم فيها هو العزم، وهو أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون تلخيصه " ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها " ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أن تداركتك، وقتلت لولا أني قد خلصتك. والمعنى لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي لقتلت، وإن لم يكن وقع في هلاك ولا قتل. قال الشاعر:

لئن كنت مقتولا ويسلم عامر ولا يدعني قومي صريخا لحرة

وقال الآخر:

لئن لم اعجل طعنه أو اعجل فلا يدعني قومي ليوم كريهة

فقدم جواب لئن في البيتين جميعا. وقد استبعد قوم تقديم جواب لولا عليها وقالوا لو جاز ذلك لجاز قولهم، قام زيد لولا عمرو، وقصدتك لولا بكر. وقد بينا بما أوردناه من الأمثلة والشواهد جواز تقديم جواب لولا، وأن القائل قد يقول قد كنت قمت لولا كذا وكذا، وقد كنت قصدتك لولا أن صدني فلان وإن لم يقع قيام ولا قصد. وهذا هو الذي يشبه الآية دون ما ذكروه من المثال.

وبعد، فإن في الكلام شرطا وهو قوله تعالى: (لولا أن رأى برهان ربه)، فكيف يحمل على الإطلاق مع حصول الشرط؟ فليس لهم أن يجعلوا جواب لولا محذوفا، لأن جعل جوابها موجودا أولى. وليس تقديم جواب لولا بأبعد من حذفه جملة من الكلام. وإذا جاز عندهم الحذف لئلا يلزم تقديم الجواب جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لئن لا يلزم الحذف.

فإن قيل: فما البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام حتى انصرف لأجله عن المعصية، وهل يصح أن يكون البرهان ما روي من أن الله تعالى أراه صورة أبيه يعقوب (عليه السلام) عاضا على إصبعه متوعدا له على مقاربة المعصية، أو يكون ما روي من أن الملائكة نادته بالنهي والزجر في الحال فانزجر.

قلنا: ليس يجوز أن يكون البرهان الذي رآه فانزجر به عن المعصية ما ظنه العامة من الأمرين اللذين ذكرناهما، لأن ذلك يفضي إلى الالجاء وينافي التكليف ويضاد المحنة، ولو كان الأمر على ما ظنوه لما كان يوسف عليه السلام يستحق بتنزيهه عما دعته إليه المرأة من المعصية مدحا ولا ثوابا، وهذا من أقبح القول فيه (عليه السلام)، لأن الله تعالى قد مدحه بالامتناع عن المعصية وأثنى عليه بذلك فقال تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)، فأما البرهان، فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزه عنها، وهو الذي يقتضي كونه معصوما لأن العصمة هي ما اختير (ما اختار) عنده من الألطاف، التنزه عن القبح والامتناع من فعله. ويجوز أن يكون معنى الرؤية ههنا بمعنى العلم، كما يجوز أن يكون بمعنى الادراك، لأن كلا الوجهين يحتمله القول.

وذكر آخرون: إن البرهان ههنا إنما هو دلالة الله تعالى ليوسف (عليه السلام) على تحريم ذلك الفعل، وعلى أن من فعله استحق العقاب لأن ذلك أيضا صارف عن الفعل ومقو لدواعي الامتناع منه وهذا أيضا جايز.

أضف إلى ذلك أنّ الهمين في الموردين بمعنى واحد، وبما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم والاِرادة، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا علىس خطور الشيء بالبال، لاَنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة، ولكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر، لاَنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم روَية برهان ربّه، وبما أنّ العدم انقلب إلى الوجود، ورأي البرهان لم يتحقق هذا الهم من الاَساس، كما سيوافيك، نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم، قال كعب بن زهير:

فكم فهموا من سيد متوسـع * ومن فاعل للخير ان همّ أو عزم ولكن التقابل بين الهم والعزم أوجب حمل الهم على الخطور بالبال، ولولاه لحمل على نفس العزم كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون: همّ بكذا وكذا، أي كاد يفعله وعلى كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم والاِرادة.

3. ما هو البرهان؟

البرهان هو الحجة ويراد به السبب المفيد لليقين، قال سبحانه: (فَذَانِكَ بُرْهَانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلائِه ) (19)، وقال تعالى: (يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ)(20) وقال سبحانه: (أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (21)هو الحجة اليقينية التي تجلى الحق ولا تدع ريباً لمرتاب، وعلى ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف (عليه السلام )؟

والذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف اليقين المشهود الذي يجر النفس الاِنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية وانقياد لا تصاحبه مخالفة، وقد أوضحنا عند البحث عن العصمة انّ إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علماً لا يغلب وانكشافاً لا يقهر، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّـا اقترحت عليه امرأة العزيز.

ويمكن أن يكون المراد منه سائر الاَُمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها.(22)

4. دلالة الآية على عصمة يوسف (عليه السلام )

إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسف (عليه السلام )قبل أن تدلّ على خلافها, توضيحه: انّه سبحانه بيّـن همّ العزيزة على وجه الاِطلاق وقال: (وهمّت به )، وبيّـن همّ يوسف بنحو الاشتراط وقال: (وهمَّ بها لولا أن رأي برهان ربّه) ، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة "لولا " الدالة على عدم وقوعهما.

فإن قلت: إنّ كلاًّ من الهمين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف وانّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لولا الامتناعية عليها وهو غير جائز بالاتفاق وعليه فيكون قوله: (وهمّ بها )مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة "لولا ".

قلت: إنّ جواب "لولا " محذوف وتقديره "لهمّ بها" وليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال: انّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق، ومع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة، بل هي أيضاً مقيدة بما قيد به الجواب، لاَنّه إذا كان الجواب مقيداً فالجملة القائمة مكانه تكون مثله، وله نظير في الكتاب العزيز مثل قوله: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(23) والمعنى انّه سبحانه ثبّت نبيه فلم يتحقّق منه الركون ولا الاقتراب منه.

وقال سبحانه: (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيءٍ)(24)والمعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة على إضلاله والآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما.

وحاصل الكلام: أنّه في مورد الآية ونظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه، غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقق الجزاء، وإن لم يتحقق لانتفاء الشرط، وفي مورد الآية أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوى الشهوية وغيرها من قوى النفس الاَمارة، وكانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء، ولكن صارت خائبة غير موَثرة لاَجل روَية برهان ربّه، والشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية والهم بها وإن شئت قلت: منعته المحبة الاِلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها موضع قدم، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة وهذا هو مفاد الآية ولا يشك فيه من لاحظ المقدمات الاَربع التي قدّمناها.

وعلى ذلك فبما انّ "اللام" في قوله: (ولقد همّت به )للقسم يكون معنى قوله: (وهمّ بها) بحكم عطفه عليه والمعنى: والله لقد همت امرأة العزيز به ووالله لولا أن رأي يوسف برهان ربّه لهمّ بها، ولكنّه لاَجل روَية البرهان واعتصامه، صرف عنه سبحانه السوء والفحشاء، فإذا به (عليه السلام )لم يهم بشيء ولم يفعل شيئاً، لاَجل تلك الروَية.

*كلام المخطئة

هذا هو واقع الاَمر غير أنّ بعض المخطّئة لم يرتض ليوسف هذه المكارم والفضائل، واستدل على عدم عصمته بما ورد في سورة يوسف في حق العزيزة ومن هو في بيتها، قال سبحانه: (وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاََبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بِرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) (25) ومحل الاستدلال: قوله (وهمَّ بها )أي همّ بالمخالطة، وانّ *همّه بها كان كهمّها به، ولولا أنّ رأي برهان ربّه لفعل، وقد صانته عن ارتكاب الجريمة ـ بعد الهمّ بها ـ روَية البرهان, وبعبارة أُخرى: انّ المخطّئة جعلت كلا من المعطوف والمعطوف عليه (ولقد همّت به ـ وهمّ بها) كلاماً مستقلاً غير مقيّد بشيء، وكأنّه قال: ولقد همّت به: أي بلا شرط وقيد. وهمّ بها: أي جزماً وحتماً.

ثم بعد ذلك ـ أي بعد الاِخبار عن تحقّق الهم من الطرفين ـ استدرك بأنّ العزيزة بقيت على همّها وعزمها إلى أن عجزت، وأمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لاَجل روَية برهان ربّه، ولاَجل ذلك قال:

(لولا أن رأي برهان ربّه) أي ولولا الروَية لاقترف وفعل وارتكب، لكنّه رأي فلم يقترف ولم يرتكب، فجواب لولا محذوف وتقديره "لاقترف".

ثم إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الاِسرائيليات التي لا يصح أن تنقل، وانّما ننقل خبراً واحداً ليكون القارىَ على اطلاع عليها: قالوا: جلس يوسف منها مجلس الخائن، وأدركه برهان ربّه ونجّاه من الهلكة، ثم إنّهم نسجوا هناك أفكاراً خيالية في تفسير هذا البرهان المرئى؛ فقالوا: إنّ طائراً وقع على كتفه، فقال في أُذنه: لا تفعل، فإن فعلت سقطت من درجة الاَنبياء؛ وقيل: إنّه رأي يعقوب عاضاً على إصبعه، وقال: يا يوسف أما تراني؟ إلى غير ذلك من الاَوهام التي يخجل القلم من نقلها.

أسئلة وأجوبة

ولاَجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الاَكمل تجب الاِجابة عن عدة من الاَسئلة التي تثار حول الآية، وإليك بيانها وأجوبتها:

السوَال الاَوّل

انّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية، تكرار لما جاء في الآية المتقدمة بصورة واضحة وهي قوله: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الاَبواب وقالت هيت لك) ومع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله: (ولقد همّت به وهمّ بها )خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدمة بصورة واضحة أعنى قوله: (هيت لك ).

والجواب: انّ الدافع إلى التكرار ليس هو لاِفادة نفسه مرة ثانية بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة، ولاَجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة ونهايتها، وهذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين وإضرار أحدهما بالآخر واستعداده للدفاع عن نفسه فإذا أفاد ذلك ثم أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبين مصيره ونهايته والآيتان من هذا القبيل.

وبذلك يظهر أنّ ما أفاده صاحب المنار في هذا المقام غير سديد حيث قال: إنّه قد علم من القصة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلباً جازماً مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له،فإذاً لا يصح أن يقال: إنّها همّت به مطلقاً إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه. (26) أقول: قد عرفت دافع التكرار فلا نعيده، بقي الكلام فيما أفاده في تفسير الهم بأنّه عبارة "عن مقاربة الفعل المتردّد فيه" ولا يخفى أنّه لا يصح في قوله سبحانه: (وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ) (27)، أي إخراج الرسول من مكة، فهم كانوا جازمين بذلك، وقد تآمروا عليه في ليلة خاصة معروفة في السيرة والتاريخ، كما لا يصح في قوله سبحانه: (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)(28)، حيث حاول المنافقون أن ينفروا بعير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة في منصرفه من غزوة تبوك.

السوَال الثاني

إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن مثلاً البرهان في قوله سبحانه: (فَذانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ)(29)عبارة عن معاجز موسى من العصا واليد البيضاء، وعلى ذلك فيجب أن يفسر البرهان بشيء ينطبق على الاِعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.

والجواب: انّ البرهان بمعنى الحجة وهي تنطبق تارة على المعجزة وأُخرى على العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يصون الاِنسان عن اقتراف المعاصي، وقد سبق منا أنّ العصمة لا تسلب القدرة، فهي حجة للنبي في آجله وعاجله ودليل في حياته إلى سعادته.

السوَال الثالث

إنّ قوله سبحانه: (كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ )ظاهر في أنّ (السوء) غير (الفحشاء )فلو فسر قوله: (ولقد همّت به وهمّ بها )بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد وهو خلاف الظاهر.

والجواب: انّ المراد من (السوء) هو الهم والعزم، والمراد من (الفحشاء) هو نفس العمل، فالله سبحانه صرف ببركة العصمة ـ نفس الهم ونفس الاقترافـ كلا الاَمرين .

قال العلاّمة الطباطبائي: الاَنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا، ثم قال: ومن لطيف الاِشارة ما في قوله: (لِنَصرف عنه السوء والفحشاء) حيث جعل السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، وهو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركهم فيه شيء، ولا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أىّ داع من دون الله سبحانه.

ثم قال: وقوله: (انّه من عبادنا المخلصين )في مقام التعليل لقوله: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء )، والمعنى عاملنا يوسف كذلك، لاَنّه من عبادنا المخلصين، ويظهر من الآية انّ من شأن المخلصين أن يروا برهان

ربّهم وإنّ الله سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصيته ولا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه، وهذه هي العصمة الاِلهية. (30)

السوَال الرابع

لو كان المراد من (برهان ربّه )هو العصمة، فلماذا قال سبحانه: (رأي برهانه ربّه )، فإنّ هذه الكلمة تناسب الاَشياء المحسوسة كالمعاجز والكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب ويصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.

أقول: إنّ الروَية كما تستعمل في الروَية الحسية والروَية بالاَبار، تستعمل أيضاً في الاِدراك القلبى والرؤَية بعين الفوَاد قال سبحانه: (مَا كَذَبَ الْفُوََادُ مَا رَأَى ) (31) وقوله سبحانه: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً )(32) وقوله سبحانه: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنْا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ)(33)، وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح بأنّ الروَية تستعمل في الاِدراك القلبى والاستشعار الباطنى.

وعلى ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري، الذي يسلب اللب والعقل عن البشر، كان المتوقع بحكم كونه بشراً، الميل إلى المخالطة معها والعزم على الاِتيان بالمعصية، ولكنّه لما أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم وهمّ بالمخالطة.

هذا هو المعنى المختار في الآية، وبذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم .

تنزيه يوسف عن الصبر على الاستعباد:

مسألة: فإن قيل: كيف صبر يوسف عليه السلام على العبودية، ولم لم ينكرها ويبرأ من الرزق، وكيف يجوز على النبي الصبر على أن يستعبد ويسترق؟(34) (الجواب) قيل له: إن يوسف عليه السلام في تلك الحال لم يكن نبيا على ما قاله كثير من الناس، ولما خاف على نفسه القتل جاز أن يصبر على الاسترقاق. ومن ذهب إلى هذا الوجه يتناول قوله تعالى: (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) (35). على أن الوحي لم يكن في تلك الحال، بل كان في غيرها. ويصرف ذلك إلى الحال المستقبلة المجمع على أنه كان فيها نبيا.

ووجه آخر: وهو أن الله تعالى لا يمتنع أن يكون أمره بكتمان أمره والصبر على مشقة العبودية امتحانا وتشديدا في التكليف، كما امتحن أبويه إبراهيم وإسحق عليهما السلام، أحدهما بنمرود، والآخر بالذبح.

ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يكون قد خبرهم بأنه غير عبد، وأنكر عليهم ما فعلوا من استرقاقه، إلا أنهم لم يسمعوا منه ولا أصغوا إلى قوله، وإن لم ينقل ذلك. فليس كل ما جرى في تلك الأزمان قد اتصل بنا.

ووجه آخر: وهو أن قوما قالوا أنه خاف القتل، فكتم أمر نبوته وصبر على العبودية. وهذا جواب فاسد لأن النبي (عليه السلام) لا يجوز أن يكتم ما أرسل به خوفا من القتل، لأنه يعلم أن الله تعالى لم يبعثه للأداء إلا وهو عاصم له من القتل حتى يقع الأداء وتسمع الدعوة، وإلا لكان ذلك نقضا للغرض.

تنزيه يوسف عن محبة المعصية:

(مسألة): فإن قيل: كيف يجوز أن يقول يوسف (عليه السلام): (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)، ونحن نعلم أن سجنهم له معصية ومحنة، كما أن ما دعوه إليه معصية، ومحبة المعصية عند كم لا تكون إلا قبيحة.

(الجواب): قلنا: في تأويل هذه الآية جوابان:

أحدهما: إنه أراد بقوله (أحب إلي) أخف علي وأسهل، ولم يرد المحبة التي هي الإرادة على الحقيقة. وهذا يجري مجرى أن يخير أحدنا بين الفعلين ينزلان به ويكرههما ويشقان (36) عليه، فيقول في الجواب كذا أحب إلي وإنما يريد ما ذكرناه من السهولة والخفة.

والوجه الآخر: إنه أراد أن توطيني نفسي وتصبيري لها على السجن أحب إلي من مواقعة المعصية.

فإن قيل: هذا خلاف الظاهر لأنه مطلق وقد أضمرتم فيه.

قلنا: لا بد من مخالفة الظاهر، لأن السجن نفسه لا يجوز أن يكون مرادا ليوسف (عليه السلام)، وكيف يريده وإنما السجن البنيان المخصوص، وإنما يكون الكلام ظاهره يخالف ما قلناه، إذا قرأ: رب السجن (بفتح السين) وإن كانت هذه القراءة أيضا محتملة للمعنى الذي ذكرناه، فكأنه أراد أن سجني نفسي عن المعصية أحب إلي من مواقعتها. فرجع معنى السجن إلى فعله دون أفعالهم، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، فليس للمخالف أن يضمر في الكلام أن كوني في السجن وجلوسي فيه أحب إلي، بأولى ممن أضمر ما ذكرنا، لأن كلا الأمرين يعود إلى السجن ويتعلق به.

فإن قيل: كيف يقول السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وهو لا يحب ما دعوه إليه على وجه من الوجوه، ومن شأن هذه اللفظة أن تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها.

قلنا: قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه، ألا ترى أن من خير بين ما يكرهه وما يحبه ساغ له أن يقول: هذا أحب إلي من هذا، وإن يخير هذا أحب إلي من هذا، إذا كان في محبته، وإنما سوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر، لأن المخير بين الشيئين في الأصل لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له أو مما يصح أن يريدهما. فموضوع التخيير يقتضي ذلك، وإن حصل فيما يخالف أصل موضوعه. ومن قال وقد خير بين شيئين لا يحب أحدهما: هذا أحب إلي، إنما يكون مجيبا بما يقتضيه أصل الموضوع في التخيير، ويقارب ذلك قوله تعالى (قل أذلك خير أم جنة الخلد) (37) ونحن نعلم أنه لا خير في العقاب، وإنما حسن القول لوقوعه التقريع والتوبيخ على اختيار المعاصي على الطاعات. وأنهم ما أثروها إلا لاعتقادهم أن فيها خيرا ونفعا. فقيل أذلك خير على ما تظنوه وتعتقدونه أم كذا وكذا، وقد قال قوم في قوله تعالى: (أذلك خير): أنه إنما حسن لاشتراك الحالتين في باب المنزلة، وإن لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى: (خير مستقرا وأحسن مقيلا) (38) ومثل هذا المعنى يتأتى في قوله:

رب السجن أحب إلي، لأن الأمرين يعني: المعصية ودخول السجن مشتركان في أن لكل منها داعيا وعليه باعثا، وإن لم يكن مشتركا في تناول المحبة، فجعل اشتراكهما في دواعي المحبة اشتراكا في المحبة نفسها، وأجرى اللفظ على ذلك.

فإن قيل: كيف يقول وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهليين؟ وعندكم أن امتناع القبيح منه (عليه السلام) ليس مشروط بارتفاع الكيد عنه بل هو ممتنع منه وإن وقع الكيد.

قلنا أنما أراد يوسف (عليه السلام) إنك متى لم تلطف بي لما تدعوني إلى مجانبة الفاحشة وتثبتني على تركها صبوت، وهذا منه انقطاع إلى الله تعالى وتسليم لأمره، وأنه لولا معونته ولطفه ما نجي من الكيد، والكلام وإن تعلق في الظاهر بالكيد نفسه فقال (عليه السلام) (وإلا تصرف عني كيدهن) فالمراد به إلا تصرف عني ضرر كيدهن لأنهن إنما أجرين بالكيد إلى مساعدته لهن على المعصية، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها كان الكيد مصروفا عنه من حيث لم يقع ضرره، وما أجري به إليه، ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه إلى غرض لم يقع ما قلت شيئا. ولمن فعل ما لا تأثير له: ما فعلت شيئا. وهذا بين والحمد الله تعالى.

تنزيه يوسف (عليه السلام) عن التعويل على غير الله:

(مسألة): فإن قيل: كيف يجوز على يوسف عليه السلام وهو نبي مرسل أن يعول في إخراجه من السجن على غير الله تعالى ويتخذ سواه وكيلا في ذلك، في قوله للذي كان معه: (أذكرني عند ربك) حتى وردت الروايات إن سبب طول حبسه (عليه السلام) إنما كان لأنه عول على غير الله تعالى؟.

(الجواب): قلنا: إن سجنه (عليه السلام) إذا كان قبيحا ومنكرا فعليه أن يتوصل إلى إزالته بكل وجه وسبب، ويتشبث إليه بكل ما يظن أنه يزيله عنه، ويجمع فيه بين الأسباب المختلفة، فلا يمتنع على هذا أن يضم إلى دعائه الله تعالى ورغبته إليه في خلاصه من السجن أن يقول لبعض من يظن أنه سيؤدي قوله: (أذكرني ونبه على خلاصي) وإنما القبيح أن يدع التوكل ويقتصر على غيره فإما أن يجمع بين التوكل والأخذ بالحزم فهو الصواب الذي يقتضيه الدين والعقل. ويمكن أيضا أن يكون الله تعالى أوحى إليه بذلك وأمره بأن يقول للرجل ما قاله.

تنزيه يوسف عن إلحاق الأذى بأبيه:

(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في طلب يوسف (عليه السلام) أخاه من إخوته ثم حبسه له عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحقه عليه من الحزن، وهل هذا إلا إضرارا به وبأبيه؟.

(الجواب): قلنا: الوجه في ذلك ظاهر لأن يوسف (عليه السلام) لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله إليه، وذلك امتحان منه لنبيه يعقوب عليه السلام وابتلاء لصبره، وتعريض للعالي من منزلة الثواب، ونظير لك امتحانه له (عليه السلام) بأن صرف عنه خبر يوسف (عليه السلام) طول تلك المدة حتى ذهب بالبكاء عليه، وإنما أمرهم يوسف (عليه السلام) بأن يلطفوا بأبيهم في إرساله من غير أن يكذبوه ويخدعوه.

فإن قيل: أليس قد قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون، والمراودة هي الخداع والمكر,قلنا: ليس المراودة ما ظننتم، بل هي التلطف والتسبب والاحتيال، وقد يكون ذلك من جهة الصدق والكذب جميعا، فإنما أمرهم بفعله على أحسن الوجوه فإن خالفوه فلا لوم إلا عليهم.

تنزيه يوسف عن الكذب وتهمة إخوته:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى جعل السقاية في رحل أخيه وذلك تعريض منه لأخيه بالتهمة، ثم إن أذن مؤذنه ونادى بأنهم سارقون ولم يسرقوا على الحقيقة؟.

(الجواب): قلنا: أما جعله السقاية في رحل أخيه، فالغرض فيه التسبب إلى احتباس أخيه عنده، ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى، وقد روي أنه (عليه السلام) أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به، فقد خرج على هذا القول من أن يكون مدخلا على أخيه غما وترويعا بما جعله من السقاية في رحله، وليس بمعرض له للتهمة بالسرقة، لأن وجود السقاية في رحله يحتمل وجوها كثيرة غير السرقة، وليس يجب صرفه إليها إلا بدليل.

وعلى من صرف ذلك إلى السرقة من غير طريق اللوم في تقصيره وتسرعه، ولا ظاهر أيضا لوجود السقاية في الرحل يقتضي السرقة، لأن الاشتراك في ذلك قائم، وقرب هذا الفعل من سائر الوجوه التي يحتملها على حد واحد. فأما نداء المنادي بأنهم سارقون فلم يكن بأمره (عليه السلام)، وكيف يأمر بالكذب وإنما نادى بذلك أحد القوم لما فقدوا الصواع، وسبق إلى قلوبهم أنهم سرقوه، وقد قيل إن المراد بأنهم سارقون أنهم سرقوا يوسف (عليه السلام) من أبيه وأوهموه أنهم يحفظونه فضيعوه، فالمنادي صادق على هذا الوجه، ولا يمتنع أن يكون النداء بإذنه (عليه السلام). غير أن ظاهر القصة واتصال الكلام بعضه ببعض يقتضي أن يكون المراد بالسرقة سرقة الصواع الذي تقدم ذكره وأحسوا فقده، وقد قيل إن الكلام خارج مخرج الاستفهام، وإن كان ظاهره الخبر كأنه قال: (إنكم لسارقون) فاسقط ألف الاستفهام كما سقطت في مواضع قد تقدم ذكرها في قصة إبراهيم (عليه السلام). وهذا الوجه فيه بعض الضعف لأن ألف الاستفهام لا تكاد تسقط إلا في موضع يكون على سقوطها دلالة في الكلام، مثل قول الشاعر:

غلس الظلام من الرباب خيالا كذبتك عينك أم رأيت بواسط

تنزيه يوسف (عليه السلام) عن تعمده بعدم تسكين نفس أبيه:

(مسألة): فإن قيل: فما بال يوسف (عليه السلام) لم يعلم أباه بخبره لتسكن نفسه ويزول وجده وهمه مع علمه بشدة تحرقه وعظم قلقه؟.

(الجواب): قلنا في ذلك وجهان:

أحدهما: إن ذلك كان له ممكنا وكان عليه قادرا، فأوحى الله تعالى إليه بأن يعدل عن اطلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه وتعريضا للمنزلة الرفيعة في البلوى وله تعالى أن يصعب التكليف وأن يسهله.

والوجه الآخر: إنه جائز أن يكون (عليه السلام) لم يتمكن من ذلك ولا قدر عليه فلذلك عدل عنه.

تنزيه يوسف (عليه السلام) عن الرضا بالسجود له:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) (39) وكيف يرضى بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلا لله تعالى؟.(الجواب): قلنا في ذلك وجوه:

منها: أن يكون تعالى لم يرد بقوله إنهم سجدوا له إلى جهته، بل سجدوا لله تعالى من أجله، لأنه تعالى جمع بينهم وبينه، كما يقول القائل:

إنما صليت لوصولي إلى أهلي، وصمت لشفائي من مرضي. وإنما يريد من أجل ذلك.

فإن قيل: هذا التأويل يفسده قوله تعالى: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) (40)

قلنا: ليس هذا التأويل بمانع من مطابقة الرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة، لأنه (عليه السلام) لما رأى سجود الكواكب والقمرين له كان تأويل ذلك بلوغه أرفع المنازل وأعلى الدرجات ونيله أمانيه وأغراضه، فلما اجتمع مع أبويه ورأياه في الحال الرفيعة العالية ونال ما كان يتمناه من اجتماع الشمل، كان ذلك مصدقا لرؤياه المتقدمة. فلذلك قال: (هذا تأويل رؤياي من قبل). فلا بد لمن ذهب إلى أنهم سجدوا له على الحقيقة من أن يجعل ذلك مطابقا للرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة، لأنه ما كان رأى في منامه أن إخوته وأبويه سجدوا له، ولا رأى في يقظته الكواكب تسجد له. فقد صح أن التطابق في المعنى دون الصورة.

ومنها: أن يكون السجود لله تعالى، غير أنه كان إلى جهة يوسف (عليه السلام) ونحوه، كما يقال: صلى فلان إلى القبلة وللقبلة. وهذا لا يخرج يوسف (عليه السلام) من التعظيم، ألا ترى أن القبلة معظمة وإن كان السجود لله تعالى نحوها.

ومنها: أن السجود ليس يكون بمجرده عبادة حتى يضاف إليه من الأفعال ما يكون عبادة، فلا يمتنع أن يكون سجدوا له على سبيل التحية والاعظام والاكرام، ولا يكون ذلك منكرا لأنه لم يقع على وجه العبادة التي يختص بها القديم تعالى وكل هذا واضح.

تنزيه يوسف (عليه السلام) عن طاعة الشيطان:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى حكا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
عصمة يوسف (عليه السلام ) وقول الله (... وهمّ بها )
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قصة يوسف عليه السلام نموذجاً
» تعرف على نبي الله عيسى عليه السلام
» تعرف على نبي الله عيسى عليه السلام
» نبي الله يوسف نزع سراويله و جلس من امرأة العزيز مجلس الخاتن !!! معاذ الله
» نبي الله يوسف نزع سراويله و جلس من امرأة العزيز مجلس الخاتن !!! معاذ الله

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى شنواى  :: المناهج الدراسية المشتركة لجميع المراحل :: مقالات عامة فى المناهج الدراسية-
انتقل الى: