نشرت سنة 1952
كتب كاتب في " الرسالة " عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهل كان يعلم الغيب أم أن الغيب شيء قد أختص الله نفسه بعلمه . فكتبت كلمة صغيرة لتنشر في البريد الأدبي ن ثم رأيت أن الأمر أكبر من ذلك وأنه لا يكفي به تحقيق هذه الجزئية ؛ بل لا بد من تصحيح عقيدة كثير من المسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم .
إن القرآن بين بياناً صريحاً لا لبس فيه ولا غموض ولا مجال لتأويل ولا تبديل ، بأنه صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه ؛ فهو ـ في ولادته وفي منشئه ، وفي صحته وفي سقمه ، وفي حياته وفي موته ـ بشر كسائر البشر ن وإن كان الله قد أختصه بأسمى الصفات " البشرية " في الخلق والطبع والسلوك والمواهب ،وأنه ـ فوق ذلك يوحى إليه كما كان يوحى إلى الأنبياء من قبله ولايوحى أبداً لأحد من بعده ؛ لا لإمام من أئمة آل البيت ولا لمتنبئ ولا لمدّعٍ .. هذه هي العقيدة الصحيحة فهل كلهم عليها ؟
إن كثيرين من المسلمين ( ولا سيما من يدعي التصرف منهم ) يرفعون النبي صلى الله عليه وسلم فوق البشر ويصفونه بصفات الألوهية . والأدلة على ذلك لا تعد ولا تحصى ، وأنا أمثل على ذلك بقصائد تتلى صباح مساء ويتبرك بها الناس ويظنون أنهم يتقربون إلى الله بتلاوتها وإنشادها ، وفيها الكفر الصريح الذي يعد كفر قريش ـ إن قيس به ـ إيماناً فكفار قريش كانوا إن ركبوا الفلك ودهمتهم الشدائد دعو الله ( كما أخبر بذلك القرآن ) والبوصيري ( صاحب قصيدة " البردة " التي يتلوها بعض المسلمين خاشعين كأنهم يتلون القرآن ) يقول للنبي صلى الله عليه وسلم .
يا أكرم الخلق : مالي من الوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
ومن المعلوم أن أقوى طرق القصر عند علماء البلاغة هو النفي والإثبات ، ولذلك كانت كلمه التوحيد " لا إله إلا الله " نفيى الألوهية عن الجميع وإثباتها لله وحده .
وهذه القصيدة الأخرى التي كان " مشايخنا " يتبر كون بها ويتأديون عند تلاوتها ؛ قصيدة " ما أرسل الرحمن أو يرسل " . يقول صاحبها مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم .
عجل بإذهاب الذي أشتكى فإن توقفت فمن أسأل ؟
وأصرح من ذلك قول الشيخ عبد المجيد الخاني مؤلف " الحدائق الوردية " :
رسول الله لي بصر كليل وأنت بكل أحوالي عليم
لعمرك يا أجل الرسل إني لما أنزلت إلى من خير فقير
هل يشك أحد ممن يفهم الكلام العربي بأن هذه الرجل يؤله محمداً ويعبده ، ويخاطبه بما جاء في القرآن خطاباً لله صلى الله عليه وسلم : (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: من الآية24) والأحاديث الصحيحة قد بينت أنه صلى الله عليه وسلم ولد وربي كما يولد ويربي لداته من أبناء قريش ، إلا إن الله عصمه من عبادة الأصنام ومن الكذب والغش وسائر شرور اللسان والقلب ، وجعله على خلق عظيم لم يجعل عليه بشراً غيره في كل عصور البشرية . وتأتي ـ مع ذلك ـ هذه الموالد التي يتلوها الناس ( وأشهرها مولد العروس عند العامة ، ومولد البزنجي عن الخاصة ، وكلاهما محشور بالكذب ) فتجعل الوحوش تتباشر بولادته بأفصح الألسن القرشية ، وأنه حضر أمه ـ ليلة مولده ـ آسية ومريم في نسوة من الحظيرة القدسية ، وأن جده وأمه كانا يعرفان بأنه خاتم الأنبياء .. مع أنه هو ، صلى الله عليه وسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، وأنه لما جاءه الوحي ذهب يقول : زملوني ، دثروني ، حتى أخبره ورقة أن هذا هو الناموس الذي كان ينزل على عيسى .
وبعض المسلمين لا يعتقد أن الرسول ميت ، ويراه حياً في قبره مثل حياتنا ؛ حتى إنه كان في حينا ( في " المهاجرين " في دمشق ) خطيب كان يقول في مسجعا : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبره حي : البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي " وناقشه بعض طلبة المدارس فأكد لهم أنه حي في قبره ، وأن فلاناً ( من مشايخ الطرق ) وقف عند القبر وقال ( من قصيدة ) :
فامدد يمدد يمينك كي تحظى بها شفتي
قال : فخرجت اليد الشريفة من جدار القبر حتى قبلها ! وأمثال هذه الأكاذيب التي لا يقرهاعقل ولا نقل ولا يقبلها شرع ولا طبع .
والله يقول للرسول : ( إنك ميت ) ونحن ننكر موته ؛ فيم ـ إذن ـ نقرأ السيرة ونقول ولد سنة كذا ومات سنة كذا ؟ وفيم نصب الخلفاء من بعده ؟ ولماذا إليه يوم أختلفوا في السقيفة وكاد ينصدع أمر الإسلام وهو مسجى لم يدفن بعد ؟ .
إنه حي عند الله حياة برزخية روحية الله أعلم بها ، أما بالنسبة إلينا فهو ميت . قد مات ودفن كما يموت سائر الناس ويدفنون ، وإن كان قد ورد أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وأن الله يوكل ملكاً يسمعه السلام عليه أو يرده عنه . وهذا كله ـ وإن صح ـ طريقه أخبار الآحاد ، لاتثبت به عقيدة ولا يبني عليه علم ، كما هو معروف من علم الأصول .
والغريب في المعجزات أنك إن رجعت إلى كتب الصحاح وإلى السير الأولى ( كسيرة ابن إسحاق ) كم تجد إلا شيئاً منها قليلاً ، فإن ذهبت إلى الكتب المتأخرة ( كالسيرة الحلبية مثلاً ) وجدتها فياضة بذكر العشرات من المعجزات التي لم يكن لها ذكر في الكتب الأولى ! ونحن لا ننكر المعجزات ، ولكنا نجد ما في القرآن يرد على طلبي الآيات من المشركين بأن القرآن هو الآية الكافية التي لا تحتاج إلى شيء معها .
ومن المسلمين من يجعل المنامات والرؤى أصلاً من أصول الشرع ويبني عليها أحكاماً وأوهاماً ويتخذها سبيلاً إلى أجتلاب المنافع ودرء المفاسد ، ويستندون إلى حديث " من رآني فقد رآني حقاً " مع أن العلماء قد نصوا على أن الشرط في ذلك أن يراه على الصورة التي وصف بها في كتب الحديث وفي الشمائل ، ولا يبني على الرؤية ـ مع ذلك ـ حكم شرعي . هذا وأنا لا أذكر درجة هذا الحديث ، وليس تحت بدي ـ وأنا أكتب هذا الفصل ـ شيء من الكتب أرجع إليه .
وبعضهم يخالف ما عليه الإسلام من جهة تقديس أسرته وتفضيلهم بمجرد النسب ، مع أن الفضل في الإسلام للتقوى والمزايا الشخصية . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لابنته فاطمة : " يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني عنك من الله شيئاً ويحتجون بآية ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (الشورى: من الآية23) ج
معناها ومساقها .
وآخرون من المسلمين يظنون أنهم يمدحون الرسول ويعظمونه بوصفه بأنه جميل الوجه ، ومدح عينيه ، وذكر العشق والوصال ، ونشدون في ذلك الأناشيد في الإذاعات ( أيام المواسم ) ويسمونها " أناشيد دينية " . وما هي إلا تقليد للترتيلات الكنسية النصرانية وقلة أدب مع الرسول ، ولا أصل لها في الإسلام ولا يرضى بها الشرع ولا الذوق ولا الأخلاق ، ويجب منع إذاعتها.
وقد نجمت طائفة من سباب المسلمين تنكر الوحي وترى النبي صلى الله عليه وسلم عبقرياً فقط ، وبعضهم ينسب العبقري للشعب العربي ويرى بأن الرسول أثر لها . وكل هذا إتباع للمستشرقين والملحدين ، ولبعض النصارى من أجراء الأجانب الذين أفسدوا الإسلام في بلاد الشام باسم القومية العربية والانتصار لها والدفاع عنها .
وبعد ، فإن من أوجب الواجبات على العلماء والخطباء وأرباب الأقلام الإسلامية أن يردوا إتباع محمد إلى العقيدة الصحيحة في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان بشراً يوحى إليه ولم يكن إلها يعبد ، ولا جميلاً يعشق ، ولا نابغة عبقرية فقط .
موضوع: محمد رسول الله 
!!تنبيه !!