مأساة الإنسان أنه لا يوجد تواز بين نفسه و جسمه ، فالحادثة التي تقطع... ساقه لا تقطع رغبته في الجري ، و الجراحة التي تستأصل غدته التناسلية لا تستأصل رغبته الجنسية .. و حينما يضعف بصره بالشيخوخة لا تضعف رغبته في الرؤية ، و عندما يضعف بدنه لا تموت شهوته .. و إنما العكس .. تسقط الأسنان و تزداد الرغبة في المضغ .. و تبدأ المهزلة .
و من لم يؤدب شبابه لن يستطيع أن يؤدب شيخوخته . و من لم يتمرس على كبح نفسه صبياً لن يقدر على ذلك كهلاً .. و سوف تتحول لذته فتصبح عين مهانته إذا طال به الأجل .. و لهذا نرى الله يطيل آجال بعض المسرفين ليكونوا مهزلة عصورهم ، و ليصبحوا حكاية و نكتة تتندر بها الأجيال للاعتبار .. حينما يتحول الفجار و الفساق و العتاة فيصبح الواحد منهم طفلا يتبول على نفسه و كسيحا يحبو و معوقا يفأفئ و يتهته ، و تسقط أسنانه التي سبق أن نبتت بالألم فينخرها السوس لتقع مرة أخرى بالألم ، و تعود أطرافه التي درجت على مشاية فتدرج على عكازين و يتحول الوجيه الذي كان مقصودا من الكل إلى عالة و شيئا ثقيلا و كومة من القمامة يتهرب منها الكل .. ثم لا يعود يزوره أحد .. ثم يموت فلا يشيعه مخلوق .. و لا تبكيه عين .. و لا تفتقده أذن .. و لا يذكره إنسان .. و كأنه دابة نفقت في حفرة .. فذلك هو التنكيس .. الذي ذكره القرآن . ((و من نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون )) ( 68 - يس )
و السر في هذه المأساة .. أن النفس لا تشيخ و لا تهرم .. و لا تجري عليها طوارئ الزمان التي تجري على الجسد .. فهي من جوهر آخر غير مادة الجسد الكثيفة المركبة التي يطرأ عليها التحلل و الفساد . فالسائق مايزال محتفظا بجميع لياقاته و سيظل شابا على الدوام و إن كانت العربة الشيفروليه الفاخرة قد صدأت آلاتها و أصابها التلف و عجزت عن الحركة .. و لم تعد للسائق حيلة سوى أن يسحبها .. و تلك هي حادثة الشيخوخة .. نفس مازالت بكامل رغباتها و شهواتها .. و لكن لا حيلة لها مع جسد مشلول لم يعد يطاوعها .. لا حيلة لها سوى أن تسحبه و تجره على كرسي متحرك .
يقول أهل الله في شطحاتهم الصوفية الجميلة : إزالة التعلقات بعد فناء الآلات من المحالات . فهم قد فهموا شيئا أكثر من مجرد أن الأجسام آلات لتنفيذ رغبات النفس ، بل هي أشبه بالسلالم يمكن أن يستخدمها صاحبها في الصعود أو في الهبوط .. فالمعدة عضو أكل و لكنها أيضا عضو صيام إذا تسلقت عليها .. و بالمثل الجهاز التناسلي عضو جماع ، و لكنه أيضا عضو عفة إذا حكمته .. بل إنه لا معنى للعفة بدون وجود نزوع شهواني للأعضاء تقابله بضبط إرادي من ناحية عقلك .
و تلك هي الفرصة التي أسموها .. إزالة التعلقات . و سوف تضيع هذه الفرصة بالشيخوخة و انتهاء الأجل .. فلا أمل في إزالة التعلقات بعد فناء الآلات فذلك من المحالات . و بذلك فهموا علاقة النفس بالجسد فهما جدليا .. فالنفس تؤدب الجسد ، و لكن الجسد أيضا يؤدب النفس .. و عملية الردع عملية متبادلة بين الإثنين .
الفرامل المادية مطلوبة لتربية الفرامل السلوكية و العكس صحيح .. و الأجل محدود .. يمكن أن يكون عملية إنفاق و تبديد .. أو عملية بناء و تشييد .. و بناء الشخصية النفسية و تعديلها و الارتقاء بها أو الانحطاط بها محتاج إلى الأسمنت الجسدي و الخرسانة المسلحة من الخلايا .. الروح محتاجة إلى الطين .. و الطين محتاج للروح .
◘ مقال.. لـ:د.مصطفى محمود
أشرف على
admin
عدد المساهمات : 27639 نقاط : 60776 تاريخ التسجيل : 04/09/2009 الموقع : http://elawa2l.com/vb
موضوع: رد: احترام الجسد الإثنين 27 مايو 2013 - 0:26
أخي الغالي أشرف استكمالا لمقال الدكتور مصطفي محمود هو ردي بأن النظر إلى الجسد باعتباره نجس وخطيئة نظرة غير إسلامية بل هو أمر مناف للإسلام.. فالإسلام شمولي وجدلي ينظر إلى الإنسان باعتباره جسد ونفس وروح معا.. بل إن الإنسان هو تفاعل الثلاثة معا في وقت واحد.. وجسد الإنسان يمكن أن يكون هو عين روحه في لحظة.. كما أن روحه يمكن أن تكون عين جسده في لحظة أخرى والمسألة تتوقف على النفس هل هي صاعدة على سلم الهيكل أو هابطة عليه.
أشرف على
admin
عدد المساهمات : 27639 نقاط : 60776 تاريخ التسجيل : 04/09/2009 الموقع : http://elawa2l.com/vb